العراق.. من سكة «برلين – بغداد» إلى «طريق التنمية»

مشروع "مؤقّت" بالتزامات أمنية دائمة

حسين جمو

منذ عام 1908، تاريخ افتتاح سكة حديد برلين – بغداد وتدميره في العام 1916 على أيدي بريطانيا، لم ينجح أي مشروع تجاري عابر للحدود في العراق.

في العام 2024، تواصل الحكومة العراقية العمل على إعادة إطلاق مسار سكة التجارة الألمانية العثمانية بصيغة وطنية تحت اسم «طريق التنمية».

استثمرت الحكومة العراقية فترة الهدوء الأمني منذ عام 2022 في إعادة طرح مشروعات تنموية عابرة للحدود، وآخرها «طريق التنمية» الذي يعد امتداداً أو اسماً آخر لمشروع «القناة الجافة» الذي طرح في عهد رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي واختفى من التداول بعد الانهيار الأمني أمام تنظيم داعش منذ 2014.

هذه العناوين جزء لا يتجزأ من برامج الحكومات العراقية، فتحاول كل منها الحديث عن إنجازات عابرة للحدود. فبعد «القناة الجافة»، اعتمدت حكومة عادل عبدالمهدي (2018 – 2019) مصطلح «طريق الحرير» لتصوير العراق أنه جزء رئيسي من محور التجارة بقيادة الصين، ووقع اتفاقيات في هذا الإطار. ولأن أي مشروع عابر للحدود يمر إما من تركيا أو الأردن، فإن تركيا ترسم خرائط مشروطة لها في كل مرة يطرح العراقيون مثل هذه الأفكار، بينما يبقى الاتفاق الأساسي حبراً على ورق، فيدفع العراق ثمناً مضاعفاً. الأول هو التزامه بتعهدات أمنية لتركيا، غالباً تكون غير معلنة، مقابل مساعدة في تنفيذ المشروع، والثاني أن المشروع لا يجد طريقه للتنفيذ لكن التعهدات الأمنية تصبح جزءاً من المطالب التركية، فتتراكم الفاتورة على بغداد!

في أكتوبر/تشرين الأول 2019، وقّع عادل عبد المهدي اتفاقية مع الصين فعّلت برنامج «النفط مقابل إعادة الإعمار»، تعهّدت بموجبها عشرات الشركات الصينية العمل في البنى التحتية العراقية مقابل تلقّي بكين 100 ألف برميل نفط يومياً.

وأحيا هذا الاتفاق آخر قديماً وقّعه عبد المهدي أيضاً مع بكين عام 2015 حمل المبادئ ذاتها، لكنه كان حينها وزيراً للنفط في عهد رئيس الوزراء حيدر العبادي. ولم يُنفّذ اتفاق 2015 بسبب التوترات السياسية التي عاشها العراق ونتج عنها تعرّض الحكومات لتغييرات وزارية متلاحقة جمّدت صفقة الصين حتى تولّى عبد المهدي دفّة الحُكم فأعاد إحياءه من جديد.

المفاجأة، وهي متكررة، أنه في مايو/أيار 2023، كشف وزير النقل العراقي رزاق محيبس السعداوي أنه اجتمع بكادر الوزارة واتضح بأنه «لا وجود لمشروع طريق الحرير الصيني في الوزارة»، بعدما طالب بأوليات المشروع. والأكثر من ذلك، ما صرح به مستشار رئيس مجلس الوزراء، ناصر الأسدي أن «طريق الحرير عبارة عن تجاذب سياسي ما بين أميركا والصين، فالمخططات على الفيسبوك غير حقيقية، المخططات غير موجودة»، خلال لقاء صحفي أيضاً، في مايو/أيار 2023.

أما مصطفى الكاظمي، الذي تولى رئاسة الوزراء من 2020 إلى 2022، فطرح مشروع «الشام الجديد»، وهو اسم آخر لمشروع «القناة الجافة» الذي دمره تنظيم داعش. ويضم «الشام الجديد» إلى جانب العراق كلاً من الأردن ومصر، ويتضمن تزويد العراق بالكهرباء من الأردن ومصر، وحزمة مشاريع استراتيجية عملاقة، أبرزها أنبوب نفط يربط البصرة بميناء العقبة الأردني، ثم ميناء نويبع المصري.

ما هو «طريق التنمية»؟

شكل الأسلوب العراقي الاستعراضي في طرح «طريق التنمية» فريسة سهلة للاستغلال والاستثمار من جانب الدول الإقليمية. فقد جاء الإعلان على لسان رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني في مايو/أيار 2023، وقدّم المشروع على أنه «عراقي»، رغم أنه فعلياً جزء من رؤية تركيا التجارية الأوسع في ربط الموانئ القريبة بها، وامتداد للمشاريع العراقية المضطربة منذ «القناة الجافة».

لذلك، أدى تقديم السوداني مشروع «طريق التنمية» على أنه ابتكار تجاري خاص بحكومته إلى تسهيل محاصرته بالمشروع نفسه، من جانب الأتراك. فأصبح «طريق التنمية»، في جانبه التشاؤمي، أداة لإضعاف العراق مستقبلاً وتكبيله بتعهدات أمنية وخدمات لتركيا من دون أي عوائد اقتصادية.

سيربط «طريق التنمية» كما هو مخطط له ميناء الفاو الكبير بتركيا وأوروبا، فيما يطمح المسؤولون العراقيون إلى أن يحقق المشروع تطويراً يتجاوز قطاع النقل العراقي المتهالك ليحقق تنمية موازية في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة إضافة لتطوير المدن التي سيقطعها الطريقان، الحديدي والبري، إضافة إلى تصوّر متفائل يسعى لإنشاء مدن صناعية جديدة وأخرى سكنية على جانبي الطريق وتجديد البنية التحية المتهالكة في المناطق التي تعبرها الطرق.

يشهد المشروع موافقة عشر دول إلى جانب العراق وهي: السعودية وتركيا وسوريا والأردن والكويت والبحرين وقطر والإمارات والبحرين وإيران.

لكن رغم قائمة الدول المعلِنة أنها وافقت أو ستشارك في الاستثمار بالمشروع، ينبغي الحذر من التسرع في إضفاء قيمة إقليمية له بناء على أسماء هذه الدول. فباستثناء قطر- وهي غير متحمسة في الوقت نفسه – فإن إعلان بقية الدول ترحيبها بـ«طريق التنمية» جزء من نتائج حملة العلاقات العامة بين هذه الدول والحكومة العراقية. ومن الصعب أن يتم ترجمتها استثماراً فعلياً يخدم نجاح المشروع. فكل هذه الدول تبحث لنفسها عن موقع في التجارة الدولية الجديدة وتطرح استثمارات هائلة لتكون جزءاً من التصور الدولي الرأسمالي المركزي لمسار السلع والأموال من آسيا إلى أوروبا. وبالتأكيد، لن يكون العراق هو المحور الرئيس لهذا المسار.

في 15 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قال وزير النقل والبنية التحتية التركي عبد القادر أورال أوغلو إن المسؤولين الأتراك والعراقيين والإماراتيين والقطريين اجتمعوا خلال هذا الشهر للعمل في مشروع يعرف باسم «طريق تنمية العراق»، معتبراً إياه «بديلاً جدياً» للممر الهندي الأوروبي. وسيقوم المشروع العراقي، المعروف أيضاً باسم «القناة الجافة»، بنقل البضائع من ميناء الفاو الكبير في جنوب العراق. ويتم تطوير المرحلة الأولى للميناء من قبل شركة «دايو» للهندسة والإنشاءات الكورية الجنوبية. وسيمتد الطريق إلى الحدود الشمالية مع تركيا عبر 1200 كيلومتر من السكك الحديدية والطرق. وعلى الجانب التركي، سيتم أيضاً بناء 615 كيلومتراً من السكك الحديدية الجديدة و320 كيلومتراً من الطرق السريعة الجديدة لربطها بالشبكة التركية، بتكلفة إجمالية تبلغ حوالى 25 مليار دولار في كلا البلدين. لقد استثمرت الحكومة التركية 194 مليار دولار في النقل والاتصالات على مدى أكثر من عقدين. وكان هناك تركيز خاص على الطرق ووسائل النقل الجوي، فضلاً عن القطارات عالية السرعة.

لكن بنظرة سريعة على شبكة النقل والبنية التحتية العراقية، يتبين أن الرقم المذكور (194 مليار دولار) دليل على الفشل المسبق لإدارة المشاريع. فبهذا المبلغ، يمكن إعادة بناء مدن كاملة. بينما لم تظهر عائدات هذا الصرف الكبير حتى على مستوى شبكة النقل الداخلية.

إلا أن هناك عوامل ستتغلب، مؤقتاً، على كافة مؤشرات عدم جدوى «طريق التنمية» اقتصادياً. وبالتالي سيكون المشروع على الأقل غطاء لعدد من الاتجاهات والحسابات، أهمها:

1- حسابات انتخابية عراقية

2- حسابات المركز ضد الإقليم

3- حسابات أمنية تركية

العراق: الانتخابات أولاً

منذ الإطاحة بنوري المالكي رئيساً للوزراء عام 2014، قررت الطبقة السياسية الشيعية، بالتحديد دائرة اتخاذ القرار فيها، اختيار شخصيات متوسطة أو ضعيفة لتولي منصب رئاسة الوزراء وعدم تكرار تجربة المالكي مستقبلاً، بعدما همّش الطبقة السياسية الحزبية الشيعية واستغل موارد الدولة لمصالحه الانتخابية وتفكيك الأحزاب المنافسة. وبالفعل، لم ينجح بعد المالكي أي رئيس وزراء في تحدي إرادة «دائرة القرار»، من حيدر العبادي إلى عادل عبدالمهدي ومصطفى الكاظمي، وصولاً إلى رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني.

قبل انتهاء ولاية الكاظمي في أكتوبر/تشرين الأول 2022، استنفرت الأحزاب الموالية لقوات الحشد الشعبي بعدما سرت شائعات أن الكاظمي يسعى إلى تشكيل تحالف انتخابي مستقل لينافس في الانتخابات، خاصة أنه كان يحاول التقرب من المحتجين في «انتفاضة تشرين» ويعمل على نقل رسائل لمؤيدي الاحتجاجات أنه مقيّد الإرادة نتيجة التوافقات السياسية ولا يستطيع التحرك لمساعدتهم. في كل الأحوال، استبقت «دائرة القرار» الشيعي أي احتمال بتشكيل الكاظمي لتحالف انتخابي وأحرجته مراراً بهجمات على المنطقة الخضراء وسط بغداد وتهديده شخصياً.

أما السوداني، فجاء هو الآخر وسط أزمة سياسية كادت تتحول إلى حرب أهلية عام 2022 بين التيار الصدري، بزعامة مقتدى الصدر، و«الإطار التنسيقي»، وهو ائتلاف من أحزاب شيعية وممثلي الحشد الشعبي الذين اختاروا السوداني مرشحاً لرئاسة الوزراء كأضعف شخصية من حيث الشعبية. فالسوداني في الأساس زعيم «تيار الفراتين» الذي يمتلك ثلاثة نواب فقط في البرلمان من أصل 329.

استفاد السوداني من قرار مقتدى الصدر اعتزال العمل السياسي، فسادت فترة هدوء لم تشهد فيها بغداد أي اضطرابات أمنية، فيما بلغت واردات النفط العام الماضي 88 مليار دولار. فقام السوداني بسلسلة إجراءات لقيت ترحيباً شعبياً، من بينها مشاريع فك الاختناقات في العاصمة العراقية بغداد والبدء بإكمال مئات المشاريع المتلكئة من سنوات سابقة، يوازيه حراك إقليمي لتعزيز مكانة العراق، من بينه مشروع «طريق التنمية».

إلا ان هذه النجاحات قوبلت بانقسام داخل «الإطار التنسيقي» الداعم للسوداني. فهناك قوى تريده مرشحاً لولاية ثانية لرئاسة الوزراء بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة، وتيار آخر مرتاب من مساعي السوداني «الانفصال» عن «دائرة القرار السياسي» الشيعي. في المحصلة، كلا التيارين اشترط استمرار دعمها للسوداني بعدم ترشح الأخير للانتخابات البرلمانية المقبلة على قائمة «تيار الفراتين» حتى لا يكسب الشارع، خاصة أنه يتحكم بموارد الحكومة الهائلة ويستطيع تعزيز موقعه شعبياً.

لقطع الطريق عليه، يحشد المالكي، القيادي في «الإطار التنسيقي» حملة لتعديل قانون الانتخابات لتحجيم السوداني. ويشمل التعديل أهم فقرة، تستهدف السوداني في الصميم، وهي العودة إلى الدوائر الانتخابية المتعددة لكي لا يكتسح السوداني الأصوات في حال شارك في الانتخابات وفق نظام الدائرة الواحدة المعتمد حالياً. وستحرم الدوائر المتعددة السوداني من نيل أصوات على مستوى العراق، وسيكون مضطراً إلى الاعتماد فقط على أصوات الدائرة الانتخابية في مدينة واحدة أو جزء منها. ويعيد نظام الدوائر المتعددة السياسيين إلى تكتيكات العشائر بدلاً من التطلع للزعامة الوطنية.

إلا أن السوداني يمضي قدماً للتحرر من وضعية البيدق في أيدي «دائرة القرار الشيعي»، والسعي ليكون جزءاً من هذه الدائرة عبر المشاركة في الانتخابات بتحالف مستقل، وهو ما أعلنه بالفعل أحد حلفائه، وزير العمل أحمد الأسدي بأنه سيشارك في الانتخابات البرلمانية المقبلة مطلع 2026 ضمن قائمة يتزعمها السوداني. والمرجح أن تكون الانتخابات مبكرة إما نهاية 2024 أو مطلع 2025.

في فبراير/شباط الماضي، أشارت دراسة مسربة أجراها «الإطار التنسيقي» أن السوداني سيحصل على نحو 60 مقعداً في البرلمان المقبل وفق المؤشرات الحالية، أي ثلث مقاعد «الإطار التنسيقي» البالغة 180 مقعداً. وهناك تصريح للمالكي يؤشر إلى صحة التقييم الذي أجراه الإطار التنسيقي، إذ قال في معرض تعليقه على إمكانيات السوداني «الفوز بمنصب رئيس الوزراء لا يعتمد على عدد المقاعد التي يفوز بها في البرلمان المقبل، حتى لو بلغت 60 مقعداً، بل بالتوافقات بين القوى السياسية».

في كل الأحوال، سيحتاج السوداني إلى رعاية إقليمية حتى يستطيع النجاة من مخالب منافسيه. تكون هذه الرعاية عادة توافقية بين إيران والسعودية والإمارات وقطر وتركيا، أو تصادمية كما حدث في عام 2010 بين المالكي (المدعوم من إيران) وإياد علاوي (المدعوم من العرب وتركيا)، وخرجت إيران منتصرة. وفي عام 2014 داخل البيت الشيعي حين اضطرت إيران إلى التخلي عن المالكي لصالح مرشح يحظى بدعم الولايات المتحدة. لكن اللافت أن إيران غيرت نهجها في العراق منذ ذلك الحين وتركت المجال للاعبين الإقليميين بدعم مرشحين من البيت الشيعي على أن لا يكونوا أسرى للأصوات الانتخابية السنية على غرار علاوي. لذلك، تغيرت آليات وطبيعة التدخل الإقليمي «السني» في العراق بعد طي صفحة تنظيم داعش الإرهابي، وأصبح الإقليم السني جزءاً من لعبة التنافس داخل البيت الشيعي، وهذا أهم تغير في اللعبة السياسية العراقية منذ أول انتخابات بعد سقوط نظام صدام حسين. من المرجح أن الدول التي أعلنت عن تأييدها لمشروع «طريق التنمية» هي الدول الداعمة للسوداني في أي استحقاق انتخابي مقبل. ولا يعني ذلك بالطبع أن هذه الدول ستشارك في تمكين السوداني بإنجاح مشروع «طريق التنمية»، خاصة من جانب دول الخليج.

كردستان.. نهاية تجارية

تعرضت أربيل إلى سلسلة انتكاسات في الشهور الماضية من جانب الحكومة المركزية، وهو مسار بدأ منذ إحباط بغداد عبر ميليشيات الحشد الشعبي لاستفتاء كردستان العراق على الاستقلال.

نجحت بغداد في تحييد أربيل نفطياً عبر قرارات المحكمة الاتحادية العليا العراقية، وكذلك كسبها دعوى للتحكيم رفعتها أمام هيئة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس ضد أنقرة في يونيو/حزيران 2023 بشأن تصدير النفط الخام من إقليم كردستان عبر ميناء جيهان التركي، وخضوع أنقرة لقرار التحكيم دون إبداء أي اعتراض. مثّل ما جرى خيبة أمل لأربيل التي كانت تعتمد على إمكانية رفض تركيا نتائج عملية التحكيم.

تتركز تطلّعات حكومة السوداني في مواصلة إضعاف حكومة مسرور بارزاني ليس على المستوى الداخلي فحسب، بل في العلاقات الخارجية لاسيما مع تركيا. وبالتالي، فإن المسعى العراقي في هذه الأثناء يتمحور حول حصر العلاقة مع أنقرة ببغداد فقط، وهي الغاية التي تدركها أربيل والحزب الديمقراطي الكردستاني الذي راكم علاقات اقتصادية، منذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم، ودخوله تالياً في شراكة أمنية بدت مكلفة ومحفوفة بالمخاطر، قوامها إفساح المجال لإنشاء أكثر من عشرين قاعدة ونقطة عسكرية تركية في الإقليم الكردي والموافقة على كل صيغ تعقّب مقاتلي حزب العمال الكردستاني دون تحفّظ.

اللافت أن كافة صيغ مشاريع الربط التجاري مع العراق تستبعد إقليم كردستان كشريك في مرحلة من مراحلها. ما زالت قاعدة بعشيقة التركية في الموصل، وهي من أغرب أشكال الوجود الأجنبي في العالم في عمق دولة ذات سيادة، تنتظر أداء دورها الأصلي، وهو جعل الحدود بين تركيا والعراق تبدأ من أراضي الموصل عبر بوابة حدودية بإسم تركي «أوفاكوي» قرب تلعفر، وإزالة أربيل من الخريطة التجارية بين البلدين. يقتضي هذا المخطط حزمة أمنية واسعة تتعلق بفرض الرؤية الأمنية التركية على شنكال/سنجار بشكل رئيسي، والسعي للقضاء على رؤية حزب العمال الكردستاني التي تشكل إلى الآن أكبر عائق في طريق تركيا التجاري – الأمني.

في حال نجاح تركيا في فتح هذه البوابة، فستكون نهاية تجارية حتمية لإقليم كردستان العراق.

تركيا: طريق الاحتلال

في 15 مارس/آذار 2024، أكد العراق وتركيا أن حزب العمال الكردستاني يمثل تهديداً أمنياً لكل للبلدين، ورحب الجانبان خلال اجتماع عقد ببغداد، ضم نائب رئيس الحكومة العراقية وزير الخارجية فؤاد حسين ونظيره التركي هاكان فيدان وكبار المسؤولين في كلا البلدين، بالقرار المتخذ من قبل مجلس الأمن الوطني العراقي باعتبار حزب العمال الكردستاني تنظيماً محظوراً في العراق «والتشاور بشأن الإجراءات الواجب إتخاذها ضده وامتداداته المحظورة والذي يستهدف تركيا من خلال استخدام الأراضي العراقية»، بحسب بيان لوزارة الخارجية العراقية.

يلاحظ أنه منذ الاجتماعات الأولية للتفاهم بين الجانبين، فإن الصيغة التركية هي المنتصرة ولها الأولوية، وعنوان لمضمون المحادثات. فيما الجانب التجاري ثانوي ويقبع في التفاصيل. فالصيغة التركية لمشروع «طريق التنمية» هي «مشاركة القوات العراقية في هجمات مباشرة على حزب العمال الكردستاني، وتشريع العراق الاحتلال التركي في مناطق واسعة بالعراق، مقابل تنفيذ طريق التنمية».

بالتالي، تقود الطبقة السياسية الحاكمة في بغداد، العراق نحو خيارات ملتبسة وغير مضمونة. ويمكن لهذا الاتجاه، الذي يبدو أنه يتقدم تحت إغراءات تنموية ومالية نظرية، أن يقود البلاد إلى ورطة المستقبل بأن تتعهد الحكومة العراقية تنفيذ التزامات أمنية تخدم فقط الأمن التركي، حتى بدون عوائد حقيقية وثابتة لاحقاً. والحصيلة الأولى للمباحثات التي عقدها الوفد التركي في بغداد في 14 مارس/آذار هي التوافق المبدئي على صيغة تعترف فيها الحكومة العراقية بشرعية الاحتلال التركي لأراضٍ اتحادية عراقية في إقليم كردستان العراق، مقابل موافقة تركيا على مشروع لا يتداوله سوى بعض الإعلام العراقي، وهو «طريق التنمية». أي أن الجانب العراقي قرر «تشريع الاحتلال التركي للعراق مقابل طريق التنمية».

طموحات عراقية متضخمة!

قدم الباحث العراقي حارث حسن، ورقة بحثية مهمة حول «طريق التنمية» في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط، فصّل فيها مختلف جوانب المشروع، وبالخصوص العوائق، ما يشير إلى أن الطموحات العراقية ربما تكون «متضخمة»، على حد تعبيره.

تشمل هذه العراقيل الفساد المستشري، وسوء الإدارة، ومساعي المجموعات الحاكمة في العراق للاستيلاء على الدولة ومواردها بأشكال تؤدّي إلى تفكّك مؤسسات الدولة وتقويض قدرة الحكومة على تنسيق عملية التخطيط والتطبيق بشكلٍ دقيق. كذلك، تسهّل الطبيعة الفئوية للسياسات العراقية والتقلّبات الكثيرة التي تخوضها البلاد الحسابات القصيرة المدى على حساب المشاريع الطويلة الأمد التي يتم تحييدها جانباَ.

كذلك، تشمل العقبات احتمال أن يشهد العراق حالةً من انعدام الأمن والاستقرار، ما قد يؤدّي إلى انسحاب المستثمرين الأجانب أو الدول الساعية إلى الاستفادة من «طريق التنمية». وتتمثّل العقبة الأهم ربما في أن العراق سيكون مضطراً إلى حجز مكانٍ لنفسه وسط مشهد إقليمي يخيّم عليه التنافس الجيوسياسي والجيو-اقتصادي، نظراً إلى إطلاق مشاريع عدّة تهدف إلى إنشاء ممرّات تجارية، على غرار مبادرة «الحزام والطريق» الصينية والممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا وطموحات إيران لأن تصبح مركزاً للتجارة العابرة للأقاليم.

وعن احتمالات الدعم الخليجي، يبدو أن قطر هي الدولة الخليجية الرئيسة المهتمة بالمساعدة لتحقيق تقدّمٍ في هذا المشروع. يمكن للإمارات أيضاً أن تكون شريكاً محتملاً، لا سيما بعد أن طلب رئيس الوزراء العراقي مساعدتها في إدارة ميناء الفاو الذي يشكّل حجر زاوية هذا المشروع. وقد ينسجم ذلك مع اهتمام الإمارات في تعزيز حضورها في العراق والحفاظ على موقعها كطرفٍ أساسي في إدارة الموانئ أو الإشراف عليها على مستوى العالم. مع ذلك، قد تكون الإمارات أقل ميلًا إلى المشاركة في المشروع نظراً إلى احتمال أن يصبح ميناء الفاو منافساً لموانئها، وإلى النفوذ الذي تتمتّع به المجموعات المسلّحة الموالية لإيران والمعادية للإمارات في العراق. وقد تفضّل الإمارات التريّث قبل الالتزام بمثل هذا المشروع، نظراً إلى الاهتمام الذي يحظى به الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا خلال حرب غزة، وإمكانية عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة الأميركية.

وتعتبر الكويت ميناء الفاو منافساً لميناء مبارك الكبير في جزيرة بوبيان، الذي أثارت أعمال بنائه المستمرة توتّرات بين العراق والكويت. ولا يُعزى سبب ذلك إلى النزاع حول الحدود البحرية بين البلدَين فحسب، بل إلى وجهة النظر العراقية القائلة إن ميناء مبارك الكبير قد يقوّض حظوظ ميناء الفاو. وأدّت هذه الخلافات إلى تعليق العمل في مشروع الميناء الكويتي لفترة من الوقت، إلّا أنّ الحكومة الكويتية أعلنت في يوليو/تموز 2023 استئناف أعمال إنجازه.

إن إطلاق مشاريع متنافسة لإنشاء ممرّات جيو-اقتصادية في منطقة الخليج والشرق الأوسط الأوسع قد تفاقم الخصومات السياسية بدلاً من تحقيق هدفها المُعلن المتمثّل في تعزيز التكامل والتعاون في المجال الاقتصادي. لذلك، قد تؤدّي محاولات إعلاء القيمة الاقتصادية للمناطق الحدودية عبر شبكات جديدة من الموانئ والطرق إلى احتدام التوترات الكامنة ونشوب مزيدٍ من الصراعات، مثلما أدت سكة حديد برلين – بغداد إلى دفع إدارة الهند البريطانية إلى احتلال العراق في الحرب العالمية الأولى.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد