الموقع التجاري لتركيا في أزمة غزة.. مؤشرات على حروب جديدة ضد الكرد

حسين جمو

لم تتضح بعد الآثار العميقة للحرب بين إسرائيل وحركة حماس على الأمد الطويل خارج النطاق الأمني الذي أعاد الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط. وما من شك أن فكرة الانسحاب الأميركي من المنطقة باتت أبعد مما كان عليه قبل هجوم الحركة على إسرائيل.
في التاسع من سبتمبر/ أيلول 2023، تم التوقيع في نيودلهي على اتفاق مبدئي لإنشاء الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا. كانت التفاصيل شحيحة بخصوص آلية تنفيذ مثل هذا المشروع العملاق والذي يبدو للوهلة الأولى خارج المنطق الجغرافي؛ فالتصور الأولي هو الربط التجاري بين الهند والإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل وأوروبا عبر طرق متعددة منها البحرية والسككية والبرية. ولإزالة الغموض وتحديد الآليات التنفيذية، كان من المقرر أن يعقد اجتماع خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني وكان من المتوقع أن تصدر أولى النسخ الرسمية في هذا الاجتماع.
مع التصعيد الحالي بين حركة حماس وإسرائيل، تغيرت البيئة الأمنية في الشرق الأوسط برمته، فاختفى الحديث السابق عن الازدهار والتجارة وتخفيف بيئة الصراع. هذه التطورات، جمّدت كافة الطروحات الكبيرة التي سبقت هجوم الحركة وحرب إسرائيل في غزة.

ما هو مصير الممر التجاري بين الهند وأوروبا؟

ظهرت خرائط عديدة لهذا الممر لم يكن أي منها من مصدر رسمي معتمد، وعلى الأغلب نشرت باجتهادات صحافية نظراً لاختلاف المسارات بين الخرائط. ففي الأولى منها، كان الخط البحري يمتد من الهند إلى ميناء الفجيرة الإماراتي على بحر العرب. وفي أخرى، من الهند إلى ميناء جبل علي الإماراتي على الخليج العربي ثم إلى السعودية عبر خط سكة حديد. كذلك المسار المتجه من ميناء حيفا إلى أوروبا، في واحدة، يتجه خط الشحن البحري إلى ميناء يوناني ثم براً عبر الشاحنات إلى بقية أوروبا، وفي خريطة أخرى، يتفادى المسار اليونان ويصل إلى إيطاليا وفرنسا ومنها إلى ألمانيا. كان من المفروض أن يتم حسم الخرائط خلال اجتماع نوفمبر/تشرين الثاني.
يتوقف مصير اندماج إسرائيل في التجارة الإقليمية، والذي كان أحد أبرز أهداف «ممر التوابل» الهندي الأوروبي، على نتيجة الحرب الحالية في غزة. وفق المسار الحالي، لا يبدو أن لدى إسرائيل القدرة والغطاء الدولي الكافي لتحقيق هدفها المعلن بالقضاء على حركة حماس وطردها من غزة. وهناك جهود أميركية من أجل تعديل استراتيجية الحرب الإسرائيلية وتخفيفها لتصبح حرب استنزاف بدلاً من الحرب الشاملة التي استغرقت 50 يوماً من دون أن تظهر مؤشرات على إضعاف استراتيجي للحركة. وعليه، فإن أي مشاريع تجارية إقليمية تشمل إسرائيل ستتراجع في الوقت الحالي. وبحكم الأمر الواقع، ستعود مشاريع إقليمية منافسة إلى الساحة، مثل طريق التنمية بين العراق وتركيا، والذي يراد له نظرياً القيام بنفس وظيفة «ممر التوابل». وعلى الرغم من أن تركيا فقدت دورها السابق في القضية الفلسطينية كما تبين من الحرب الحالية والتأثير المحدود لأنقرة على الأحداث حتى الآن، فإن النتائج حتى الآن تصب في مصلحة تركيا. فقد كان «ممر التوابل» تهديداً عميقاً على مكانة أنقرة التجارية في العالم.
إن أهداف الأطراف المشاركة في «ممر التوابل» متباينة. لكن في نهاية الأمر – في حال مضي المشروع قدماً – سيتم تأسيس شي أكبر من الممر الاقتصادي وأعمق من مفهوم الربح الرأسمالي، ألا وهو تشكيل مجتمع اقتصادي تؤدي فيه سلاسل التوريد الجديدة (السلع والبضائع) دور أداة الربط، وليس غاية الممر الاقتصادي. ومن مظاهر هذا المجتمع الاقتصادي الكبير، منح مزايا استراتيجية جديدة للدول المشاركة، وهذا ما عبر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في تعليقه على هذا المشروع عقب الإعلان عنه بالقول: «لقد كانت أرض إسرائيل دائماً نقطة عبور للإمبراطوريات التي داستنا في حملات الغزو في كل اتجاه، والآن أصبحت إسرائيل دولة عبور من نوع مختلف. لقد أصبحت ملتقى الطرق الرئيسي في الاقتصاد العالمي وجسر السلام».
من هذا الباب، يمكن فهم أسباب قلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بخصوص استبعاد تركيا من هذا الممر. فذلك سيعني بشكل أو بآخر أن اندلاع اضطرابات في تركيا لن يكون مدمراً لشبكة التجارة العالمية العابرة للقارات، ولن يكون استقرارها أولوية قصوى كما هو الحال الآن. وما يدعم هذا الرأي هو أن الحديث الأولي عن الممر الاقتصادي الهندي الأوروبي يشمل خطوط نقل طاقة وكهرباء وكابلات إنترنت جديدة وتصدير للهيدروجين الأخضر الصديق للبيئة. وعليه، يمكن البناء على هذا التصور – في حال ثبت صحته – في معرفة حزام الاستقرار الصلب الذي ستحرص عليه الولايات المتحدة ودول مجموعة السبع الكبرى التي تقف خلف هذا المشروع العابر للقارات، والذي لا يشمل تركيا.
قبل اندلاع الحرب في غزة بتاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول، وجه رئيس اللجنة التنفيذية في رابطة النقل الدولية التركية ألبير أوزيل، خلال منتدى للخدمات اللوجستية في مدينة اسطنبول منتصف سبتمبر/أيلول الماضي تحذيراً شديداً. وقال أوزيل: «نرى آخرين يظهرون إلى العلن ويطلقون تسميات على ممرات جديدة. لذلك، نحن بحاجة إلى التحرك بسرعة. أحد أسباب سقوط الإمبراطورية العثمانية هو التخلي عن طريق الحرير بعد افتتاح قناة السويس، ما أضعف اقتصادها»، على حد قوله. ودعا أوزيل إلى تعزيز الاتصال بشكل أكبر على طول ما تسميه تركيا «الممر الأوسط» – وهو طريق يتسق مع مبادرة الحزام والطريق الصينية، ويمر عبر الدول التركية بين أوروبا في الغرب والصين في الشرق.
وربما تكون تركيا، التي يُنظر إليها باعتبارها جسراً طبيعياً بين آسيا وأوروبا، واحدة من أكثر البلدان حساسية للتغيرات في طرق التجارة، كما اختبر العثمانيون الأمر بمرارة خلال عصر الاستكشاف. ويسلط تحذير أوزيل، والتطورات التي حدثت منذ ذلك الحين، الضوء على الانزعاج التركي من الخطط الجديدة مثل الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا الذي تم الإعلان عنه على هامش مجموعة العشرين الشهر الماضي، وتصميم أنقرة على تعزيز المسارات التي تضع تركيا في موقع محوري. وسيمتد الخط المقترح من الهند إلى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والأردن وإسرائيل للوصول إلى أوروبا، متجاوزاً تركيا.
وفي مقابلة مع صحيفة «نيكي» في 15 أكتوبر/تشرين الأول، قال وزير النقل والبنية التحتية التركي عبد القادر أورال أوغلو إن المسؤولين الأتراك والعراقيين والإماراتيين والقطريين اجتمعوا خلال هذا الشهر للعمل في مشروع يعرف باسم «طريق تنمية العراق»، معتبراً إياه «بديلاً جدياً» للممر الهندي الأوروبي. وسيقوم المشروع العراقي، المعروف أيضاً باسم «القناة الجافة»، بنقل البضائع من ميناء الفاو الكبير في جنوب العراق. ويتم تطوير المرحلة الأولى للميناء من قبل شركة دايو للهندسة والإنشاءات الكورية الجنوبية. وسيمتد الطريق إلى الحدود الشمالية مع تركيا عبر 1200 كيلومتر من السكك الحديدية والطرق. وعلى الجانب التركي، سيتم أيضاً بناء 615 كيلومتراً من السكك الحديدية الجديدة و320 كيلومتراً من الطرق السريعة الجديدة لربطها بالشبكة التركية، بتكلفة إجمالية تبلغ حوالى 25 مليار دولار في كلا البلدين. لقد استثمرت الحكومة التركية 194 مليار دولار في النقل والاتصالات على مدى أكثر من عقدين. وكان هناك تركيز خاص على الطرق ووسائل النقل الجوي، فضلاً عن القطارات عالية السرعة.
ورداً على سؤال بشأن الاعتبارات الأمنية في العراق، قال أورال أوغلو إن البلاد «باتت أكثر أماناً مما كانت عليه قبل عقد من الزمن. وفي غضون خمسة أعوام، لن تكون هناك مشاكل أمنية لأن هذا الممر مفيد للجميع». ومن ناحية أخرى، اعتبر أن الأمن سيكون مشكلة بالنسبة إلى الممر الهندي الأوروبي بالنظر إلى الحرب بين إسرائيل وحركة حماس والمخاوف من أنها قد تتحول إلى صراع إقليمي. وقال: «يمكننا أن نرى أن هناك مشكلة أمنية. بالطبع في مثل هذه المشاريع العملاقة، سيتم أخذ ذلك في الاعتبار أيضاً». كما أشار إلى تقارير تفيد بأن السعودية ربما قررت وقف مناقشة ملف التطبيع مع إسرائيل في ضوء الحرب. وإذا تم تأكيد ذلك، فإن هذا من شأنه أن يعقّد تنفيذ الممر الهندي الأوروبي. كما جادل أورال أوغلو بأن الممر الهندي الأوروبي يتضمن الكثير من التغييرات بين وسائل النقل – من البحر إلى الأرض إلى البحر – ما يشكك في الجدوى التجارية للمشروع مقارنة بمشروع طريق التنمية العراقي، إذ يمكن له نقل البضائع إلى أوروبا عبر البر بعد الوصول إلى الفاو. من هذه الزاوية، ينبغي إعادة تقييم الحرب التركية ضد حزب العمال الكردستاني وكذلك عدوانها المستمر على قوات سوريا الديمقراطية والبنية التحتية المدنية في شمال شرق سوريا. فكما أن وجود حركة حماس والتوتر في إسرائيل يدمّر مشروع «ممر التوابل»، فإن تركيا تنظر إلى العراق وسوريا من المنظار ذاته. فبالنسبة إليها، تشكل المناطق الكردية داخل تركيا وخارجها نسخة كبيرة من غزة كما هو القطاع بالنسبة إلى إسرائيل. وعليه، فإن الحرب التركية قد تتسع قريباً من أجل التأكيد على قوة بديلها عن الطريق الهندي الذي يهمش تركيا ويخيفها.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد