شورش درويش
أعادت تركيا الاهتمام بالعراق على هدي ما يشاع عن قرب تنفيذ قوات التحالف الدولي انسحابها منها. ولأجل ذلك، فإن استعداد تركيا لاتباع نهج جديد لعراق ما بعد واشنطن يقوم على توسيع حقل التبادل التجاري والمشروعات الاقتصادية المبنية على البعد الأمني وقوننة حالة الأمر الواقع العسكرية في إقليم كردستان العراق. ولعل حرص العراق على استمالة تركيا عبر التأكيد على مشروع «طريق التنمية» لربط ميناء الفاو الكبير بتركيا وصولاً إلى أوروبا يتوخى منه جعل هذا المشروع أحد المغريات لحل مشكلات المياه واستعادة حصتها المائية، إلى جانب تصدير سلس للنفط عبر ميناء جيهان، وإيجاد حل للمشكلات الأمنية والحدودية وخرق الأتراك لسيادة العراق بشكل فاضح ومحرج لحكومة محمد شياع السوداني. لكن، لتركيا وجهة نظر مغايرة للقاطرة التي يجب أن تقود علاقة البلدين ألا وهي تعزيز الشراكة الأمنية أوّلاً.
في الآونة الأخيرة، نجحت بغداد في تحييد أربيل نفطياً عبر قرارات المحكمة الاتحادية العليا العراقية، وكذلك كسبها دعوى للتحكيم رفعتها أمام هيئة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس ضد أنقرة في يونيو/حزيران 2023 بشأن تصدير النفط الخام من إقليم كردستان عبر ميناء جيهان التركي، وخضوع أنقرة لقرار التحكيم دون إبداء أي اعتراض. مثّل ما جرى خيبة أمل لأربيل التي كانت تعتمد على إمكانية رفض تركيا لنتائج عملية التحكيم، إذ لطالما شكّل تصدير نفط كردستان عبر تركيا المادة اللاصقة لعلاقة مستقرة بين أنقرة وأربيل. ومن شأن سحب ورقة تصدير النفط من يد الأخيرة، تراجع قيمة الإقليم الكردي بالنسبة لتركيا.
تتركز تطلّعات حكومة السوداني في مواصلة إضعاف حكومة مسرور بارزاني ليس على المستوى الداخلي فحسب، بل في العلاقات الخارجية لاسيما مع تركيا. وبالتالي، فإن المسعى العراقي في هذه الأثناء يتمحور حول حصر العلاقة مع أنقرة ببغداد فقط، وهي الغاية التي تدركها أربيل والحزب الديمقراطي الكردستاني الذي راكم علاقات اقتصادية منذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم، ودخوله تالياً في شراكة أمنية بدت مكلفة ومحفوفة بالمخاطر، قوامها إفساح المجال لإنشاء أكثر من عشرين قاعدة ونقطة عسكرية تركية في الإقليم الكردي والموافقة على كل صيغ تعقّب مقاتلي حزب العمال الكردستاني دون تحفّظ.
تساهم حدة التنافس بين أربيل وبغداد على استقطاب أنقرة في نيل الأخيرة المزيد من النقاط في الميدان العراقي. فعلى عكس السليمانية والاتحاد الوطني الكردستاني الذي ما فتئت علاقته تتدهور مع أنقرة في المرحلة التي أعقبت استفتاء الاستقلال 2017، فإن الحزب الديمقراطي الكردستاني يسعى لتخطّي توسيع بغداد لسلطات المركز في إقليم كردستان عبر قرارات المحكمة الاتحادية العليا بالاعتماد على الرئة التركية واستيعاب المتطلّبات الأمنية التركية داخل إقليم كردستان مهما علا سقفها.
ولأجل ذلك، ترى تركيا في الخلافات بين المركز والإقليم فرصة سانحة لتعزيز مكانتها داخل العراق. وعليه، توالت الزيارات الرسمية التركية للعراق والتي اتخذت طابعاً أمنياً، رغم توشيحها بزيارات دبلوماسية لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان، القادم بدوره من خلفية أمنية كرئيس لجهاز الاستخبارات التركية. وقد تعكس الزيارات المتكررة لبغداد وإقليم كردستان التي قام بها إلى جانب وزير الخارجية، وزير الدفاع يشار غولار ورئيس جهاز الاستخبارات إبراهيم كالن، لاسيما الزيارة الأخيرة في 14 مارس/آذار الجاري، التصوّرات التركية الأمنية للعلاقة مع بغداد.
يظهر أن حكومة السوداني تبدي تفهماً غير مسبوق للمتطلبات التركية، كاعتبار حزب العمال الكردستاني منظمة محظورة، وربما الموافقة لاحقاً على إنشاء مركز عمليات مشتركة عراقية- تركية وإنشاء منطقة حدودية عازلة ترسمها أنقرة، خاصة أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان طلب قبل أسبوع من زيارة «الترويكا الأمنية» (فيدان، غولار، كالن) لبغداد ضمان أمن الحدود التركية العراقية، مع الإشارة إلى احتمال توسيع العمليات التركية في المنطقة خلال الصيف القادم.
وإذا كان صحيحاً أن العراق يأمل معالجة مشكلاته المزمنة في المياه والطاقة عبر تقديم مغريات اقتصادية تمتد إلى مجالات التبادل التجاري ورفع سقف الاستثمارات المتبادلة ومنح الأفضلية لشركات التطوير العقاري التركية، إلّا أن كل ذلك يمرّ عبر بوابة المتطلّبات والاشتراطات الأمنية التركية. ولئن كانت أربيل تؤمّن جزءاً من تلك المتطلّبات، فإن على حكومة السوداني تقديم سلة تنازلات سيادية لأنقرة يأتي في مقدّمتها مسألة شرعنة الوجود التركي في إقليم كردستان، وهذا بحد ذاته تناقض آخر في جوهر السياسة العراقية التي تسعى لأجل حل مشكلة خرق السيادة بحل يتساوى مع المشكلة عبر قوننة حالات الخرق هذه وإضفاء صيغة التفاهم عليها.
إلى جوار إضعاف حكومة بارزاني، يسعى السوداني من خلال استمالة تركيا إلى تبديد مخاوف الولايات المتحدة على طريقة «الأواني المستطرقة»، عبر منح تركيا مكانة مكافئة للمكانة الإيرانية في العراق، بوصف تركيا حليفاً لواشنطن في حلف الناتو، بالشكل الذي يخفف من وطأة التمدد الإيراني. فبعد أن أبدت حكومة السوداني حرصها الدعائي على أمن إقليم كردستان في مواجهة الصواريخ البالستية الإيرانية التي استهدفت أربيل مطلع العام الجاري لكي لا تعرقل خطط الانسحاب الأميركي لدواعي حماية أمن إقليم كردستان، فإن مشروع التفاهم مع تركيا قد يطمئن الولايات المتحدة لفكرة الانسحاب المبرم. إلّا أن واشنطن لا تثق بمثل هذا الطرح، ذلك أن حدود التفاهم الإيراني التركي قد تتوسّع بدل أن تتنافر مصالح البلدين في عراق ما بعد الوجود الأميركي، فضلاً عن أن لواشنطن تحفّظات واضحة على سياسة تركيا الإيرانية والشراكة التي تقوّض الحصار الأميركي على طهران.
والحال أن حكومة السوداني قد تصطدم في نهاية المطاف بمماطلة الأتراك في تنفيذ وعود معالجة مشاكل المياه، إذ سيعني إفراج تركيا عن حصة العراق المائية منح مناطق الإدارة الذاتية حصتها أيضاً، وهو ما لا تريده الحكومة التركية بأيّ حال. كما أن إعادة تصدير النفط بشكل رسميّ ومستقر قد يلحق الضرر بالسوق الموازية لرجال الأعمال الأتراك المقرّبين من حزب العدالة والتنمية. وفوق ذلك، لا تنظر تركيا بجدية لمشروع طريق التنمية الذي يبدو تبعاً للواقع السياسي والمالي للعراق أقرب إلى لافتة دعائية لحكومة السوداني وأنه مشروع غير قابلٍ للتجسيد في المدى المنظور. وخلف هذا كله، فإن ما قد يطمئن تركيا لوجود مستقر وأكثر استدامة في العراق لن ينحصر في البعدين الأمني أو الاقتصادي فحسب، رغم تشديد أنقرة على تركيب العلاقة وفق أسس أمنية أوّلاً، إذ تبحث أنقرة أيضاً عن تمثيل سياسي وازن داخل بغداد عبر إعادة هيكلة الحضور السني في المشهد السياسي لعراق ما بعد الانسحاب الأميركي بما يحمله من تدخّل مباشر في خريطة القوى السياسية العراقية.