تعليق: حسين جمو
يتابع الكاتب ديفيد ريمنيك حياة الشخصيات المثيرة للجدل لكتابة سيرهم. كتب عشرات التحقيقات عن القادة المؤثرين، ونشر عدة كتب تركز في جانب كبير منها على الصفات الشخصية لهؤلاء بحسب نبذة تعريفية عنه في مجلة «نيويوركر». وفي 22 يونيو/حزيران، أي قبل يومين من وقف الحرب بين إسرائيل وإيران، نشر مقالاً عن بنيامين نتانياهو بعد أن تواصل مع العديد من الكتاب والباحثين ممن كونوا آراء عن شخصية رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يُعرف عنه بحكمه على الأشخاص من نواياهم التي يعتقد نتانياهو أنها – أي نوايا الخصوم – مكشوفة له. فقد حكم على عرفات طيلة مسيرة الأخير في الحرب والسلام أنه قال مرة بعد عودته إلى فلسطين عقب اتفاقيات أوسلو أن ما يجري هو امتداد لـ«صلح الحديبية» وبنى تحليله لشخصية عرفات ونواياه على هذا التشبيه حتى وفاة الأخير.
رغم وقف إطلاق النار مع إيران، ما زالت الأجزاء التي كتبها ريمنيك عن نتانياهو وحربه على إيران ذات قيمة، خاصة في جانب هاجس التاريخ لدى «بيبي». وتشوب السطحية تحليلات اليسار الإسرائيلي والعربي بأن نتانياهو يبحث عن خلاصه الشخصي وأنه يشن حروباً هنا وهناك من أجل النجاة من المحاكمة بتهم عديدة منها الفساد، تماماً كما قرأ البعض مشاركة دونالد ترامب في الحرب وقصفه المنشآت النووية الإيرانية على أنها هروب من أزماته الداخلية. صحيح لدى كل الشخصيات جانب شخصي وعائلي ملتصق بالحياة السياسية، لكن نتانياهو يعتقد نفسه صاحب رسالة يقوم بها نيابة عن الأمة اليهودية، حتى لو كان جزء من هذه الأمة يريد جره إلى المحاكمة والقضاء عليه سياسياً. وعليه، هروبه من المحاكمة يمكن النظر له وفق فريضة معاكسة، وهو أنه يريد كسب الوقت لتحقيق ما يراه مهمة تاريخية بالقضاء على أعداء إسرائيل قبل فوات الأوان. والأوان هنا هو وقته المتبقي في السياسة وتأخيره عودة اليسار إلى الحكم في إسرائيل، وهو خوف كشف عنه صراحة في كتابه المترجم إلى العربية “مكان تحت الشمس”.
في كل الأحوال، الخصومة في هذا الشرق تولد سذاجة عامة، خاصة في قراءة الخصوم، مع ميل غريب إلى «مسرحة» الصراعات وجعل كل شيء خشبة مسرح تخدع الجمهور، وأن لا شيء حقيقياً وذو جذور يمكن أن يحدث في هذا العالم.
أدناه الترجمة الكاملة لمقال ديفيد ريمنيك بعنوان: نتانياهو يسعى إلى الانبعاث سياسياً وعينه على التاريخ.
نتانياهو .. في سبيل التاريخ!
بقلم: ديفيد ريمنيك

في الأيام التي أعقبت هجمات حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تجنب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو أي اعتراف علني بمسؤوليته عن الفشل الأمني الهائل. كان يتجنب في الغالب حضور مراسم التأبين. ونادراً ما التقى بعائلات الرهائن الإسرائيليين الذين يقبعون في أنفاق غزة.
وفي عهد رؤساء الوزراء الإسرائيليين السابقين، لطالما أعقبت الهفوات الفجة في الاستخبارات والاستراتيجية العسكرية جلسات استماع ونتائج دراماتيكية بسرعة كبيرة. ففي أكتوبر/تشرين الأول 1973، فاجأت القوات المصرية والسورية إسرائيل في شبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان ووضعت الدولة في خطر كبير لبضعة أيام. وفي غضون أسابيع من انتهاء الهجوم، قامت لجنة تحقيق حكومية بقيادة رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية آنذاك شمعون أغرانات باستجواب الشهود حول الحسابات الخاطئة والهفوات التي أدت إلى الأزمة. وأفضت نتائجها في نهاية المطاف إلى استقالة رئيسة الوزراء غولدا مائير ووزير الدفاع موشيه ديان.
في المقابل، على الرغم من استقالة أعضاء بارزين في المؤسسة العسكرية والدفاعية التابعة لنتانياهو أو اعتذارهم عن أدوارهم في ما حصل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إلا أنه تهرب من أي محاسبة حقيقية ورفض أي تحقيق حتى الآن. ونتيجة لذلك، كانت أرقام استطلاعات الرأي الخاصة به سيئة خلال العام الأول بعد الهجمات. وتناقش المراقبون السياسيون في إسرائيل، من مختلف الأطياف الأيديولوجية، عما إذا كان نتانياهو سيسقط أخيراً من الحكم واحتمالية أن يحل محله الجنرال بيني غانتس أو رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت أو وزير المالية السابق أفيغدور ليبرمان أو غيرهم. ومع ذلك، كما قال لي ناحوم برنيع كاتب العمود السياسي المخضرم في إسرائيل في ذلك الوقت «أنا أذهب إلى جنازات السياسيين للتأكد من أنهم دُفنوا، لكن عودتهم ممكنة».
والآن في اليوم الذي تلا انضمام دونالد ترامب إلى إسرائيل في قصف المنشآت النووية الإيرانية، يعتمد نتانياهو ودائرته على انتعاش سياسي، في ظل حرب غزة التي أسفرت عن عشرات الآلاف من القتلى والإدانات العالمية وانتهاكات نتانياهو السياسية على الأعراف والمؤسسات الديمقراطية. عدا عن محنته القانونية (المحاكمة).
لدى أميت سيغال، الصحافي في القناة 12، مصادر موثوقة في مكتب رئيس الوزراء ويعتبره البعض بمثابة رسول لأفكاره. اتصلت بسيغال بعد أقل من يوم من إسقاط قاذفات القنابل الأميركية حمولاتها على مواقع نووية في فوردو وأصفهان ونطنز. وقال سيغال: «في الأشهر الاثني عشر الأولى بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بدا الأمر كما لو كان هذا معركة غاليبولي التي قادها نتانياهو، وهي الكارثة التي كادت أن تدمر مسيرة تشرشل المهنية». ففي عام 1916، قاد ونستون تشرشل، بصفته اللورد الأول للإمبريالية، قوى الوفاق في الحرب العالمية الأولى إلى هزيمة ساحقة في شبه جزيرة غاليبولي على يد الإمبراطورية العثمانية.
وتابع سيغال: «كانت هذه اللحظة الأكثر فظاعة في تاريخ إسرائيل، وكانت تحت إدارة سيد الأمن (نتانياهو). لم تكن مجرد فضيحة أخرى، بل كانت سبب وجوده. فاليوم، وبعد سقوط حزب الله في لبنان وسقوط الأسد في سوريا ومصير حماس، والآن الهجوم على البرنامج النووي في إيران، يبدو السابع من أكتوبر أشبه ببيرل هاربر، أي أنه فشل مدمر ينتهي بعد مرور بعض الوقت بعد النصر الكامل. أعتقد أن التاريخ، خلال خمسين عاماً، سيرى يوم 7 أكتوبر في سياق الحرب الإسرائيلية الإيرانية. لكن السؤال الأكثر إلحاحاً هو: هل سيرى الرأي العام الإسرائيلي الأمر بهذه الطريقة؟ لست متأكداً. لكن الأمر مهم للغاية. لقد أعاد تشكيله باعتباره ‘سيد الأمن’. لكن الأمر لم ينته بعد. ومع ذلك، يرى الناس هنا أن الهجوم الإسرائيلي والحصول على الضوء الأخضر من الولايات المتحدة وترامب هو الإنجاز الدبلوماسي الأكثر دراماتيكية لإسرائيل منذ تصويت الأمم المتحدة على وجودها في عام 1947».
تعكس آراء سيغال بدقة الهواجس والغرور والتفكير، وحتى الحياة الداخلية، لنتانياهو. ويشير نتانياهو في مذكراته باستمرار إلى تشرشل. فعندما أجريتُ مقابلة معه خلال فترة ولايته الأولى، كان يدخن سيجاراً ثخيناً ويحتفظ بصورة لتشرشل في مكتبه. وعندما يتعلق الأمر بطهران، يتحدث نتانياهو عن العواصف المتجمعة منذ سنوات عديدة. وفي عام 2006 قال: «نحن الآن في عام 1938 وإيران هي ألمانيا». وفي عام 2011، قال للمحاور البريطاني بيرس مورغان: «أنا معجب بوينستون تشرشل لأنني أعتقد أنه رأى الخطر على الحضارة الغربية وتصرف في الوقت المناسب لوقف النزيف».
أخبرني سيغال أنه عند التخطيط للهجوم العسكري على إيران، قدّرت المؤسسة الأمنية أن الضربات الانتقامية ستؤدي إلى مقتل ما بين 800 و4000 شخص في إسرائيل. لكن، كانت المحصلة أقل بكثير من تلك التوقعات. فقد أسقطت معظم الصواريخ الباليستية الإيرانية من خلال الدفاعات الجوية الإسرائيلية. كما أقرّ سيغال بأنه عندما برر نتانياهو الضربات أمام الرأي العام بالحديث عن تقدم برنامج إيران للتسلح النووي، كان ذلك «للأمانة، وصفاً أدبياً أكثر منه رياضياً». أي أنه على الرغم من أنه كان للاستخبارات الإسرائيلية، بحسب سيغال، أدلة على أن إيران خصبت اليورانيوم بنسب مئوية مناسبة لصنع سلاح، إلا أن عملية التسلح الفعلية كانت مخفية عن الأنظار. وقال سيغال إن الاستنتاج لم يكن أن «بإمكانهم القيام بذلك غداً». بل كان العامل الحاسم هو أن طهران كانت في حالة ضعف، حيث تم القضاء على جزء كبير من دفاعاتها الجوية. ونتيجة لذلك، قال سيغال: «لقد أخذوا ما يعرفونه وصوروه على أنه أكثر دراماتيكية مما كان عليه. لكن نتانياهو كان على حق في النوايا».
عندما نقلتُ تصريحات سيغال حول تشرشل إلى عاموس هارئيل، محلل الشؤون الدفاعية في صحيفة «هآرتس»، ضحك هارئيل ضحكة مكتومة قائلاً: «حسناً، هذه هي رواية بيبي بصفته ابن مؤرخ»، حيث كان والده، بنزيون نتانياهو، مؤرخاً يمينياً لحقبة محاكم التفتيش الإسبانية. ويقول هارئيل: «إنه يفكر بهذه الطريقة. هذا ما يحاول أن يفعله الآن دون أن يعترف بالمسؤولية عن 7 أكتوبر، وبعد أن تخلص من كل من كان متورطاً في ذلك، فهو يعيد سرد القصة كما لو كان كل شيء مخططاً له. إنه يقول الآن إنه في التاسع من أكتوبر كان يعلم مسبقاً أنها ستكون نقطة تحول في تاريخ الشرق الأوسط».
أخبرني محللون إسرائيليون أنه ليس من الواضح بعد كيف أو متى سيحاول نتانياهو الاستفادة من قضية إيران لتحقيق مكاسب سياسية. يقول البعض إنه سيدعو في نهاية المطاف إلى إجراء انتخابات جديدة، وقد يجد طريقة للتخلي عن أكثر أعضاء ائتلافه الحالي رجعيةً: إيتامار بن غفير وسموتريتش. وقد يتواصل نتانياهو مع خصومه من أجل الوحدة الوطنية أو قد يستغل نجاحه الظاهري ضد إيران ليشق طريقه نحو مزيد من الاستبداد. حتى أن آخرين يتكهنون أنه بعد أن هاجم إيران وتملق الولايات المتحدة للانضمام إلى الحرب، فإنه بعد أن أصبح رئيس الوزراء الأطول خدمة في تاريخ إسرائيل سيعلن استقالته. ومع ذلك، يشكك أحد كتاب سيرته الذاتية والكاتب في مجلة «إيكونوميست»، أنشيل بفيفر، في هذا السيناريو، قائلاً: «لا حياة لنتانياهو على الإطلاق بدون هذا المنصب».
أخبرني نداف إيال، وهو كاتب عمود بارز في صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، أنه على الرغم من أن أرقام استطلاعات الرأي التي أجراها نتانياهو لم تتحسن بشكل كبير بعد هزيمة حزب الله، «إلا أن هذه لعبة جديدة تماماً بالنسبة له».
وقال إيال: «كان نتانياهو مسؤولًا عن أكبر فشل في تاريخ إسرائيل، إلا أنه يمكنه القول الآن إنه أوصل الرسالة». ويعتقد إيال أن نتانياهو سيستمر في هذا السلوك، قائلاً: «بعد السابع من أكتوبر، أبقى نفسه معزولًا. لم يزر الكيبوتسات التي تعرضت للهجوم. أما الآن، فهو في كل مكان. لقد ذهب إلى بات يام وذهب إلى مستشفى سوروكا بعد تعرضهما للقصف».
ليس هناك مبالغة في تقدير نشوة الانتصار في دائرة رئيس الوزراء. فقد أخبرني أحد الصحافيين الإسرائيليين الليبراليين، طالباً عدم ذكر اسمه، أن «اليمين وعصابة بيبي يمرون بنوع دراماتيكي من النشوة». وتابع أن «بيبي هو الآن ملك إسرائيل من حيث انبعاثه من جديد». وأشار الصحافي إلى أوجه التشابه بين نتانياهو وترامب في الطريقة التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي «بكل ما في وسعه لتفكيك المجتمع الإسرائيلي والديمقراطية الإسرائيلية ومؤسساتها. لذلك لا يُعرف كيف، وعلى أي أساس، ستتقرر الانتخابات المستقبلية».
كما أن النزعة الانتصارية في البيت الأبيض تبدو واضحة للعيان. ففي يوم الأحد، قال ترامب عبر منصة تروث سوشيال: «ليس من الصحيح سياسياً استخدام مصطلح ‘تغيير النظام’، ولكن إذا كان النظام الإيراني الحالي غير قادر على جعل إيران عظيمة مرة أخرى، فلماذا لا يكون هناك تغيير للنظام؟».
ولكن بالنسبة لكلا الرجلين، يتوقف الأمر بنسبة كبيرة على الرد الإيراني. وكما قال لي هارئيل: «يمكن أن تتغير الأمور في يوم واحد. يمكنك أن تعجب بدقة هذه العملية، ولكن، إذا سقط فجأة صاروخ باليستي إيراني على مبنى سكني وقتل عشرين طفلاً أو أسقطت إحدى طائراتنا من طراز F-35 فوق إيران وتم أسر قائدها، فإن طبيعة الأمور يمكن أن تتغير في لحظة».
علاوة على ذلك، وكما قال ألوف بن، رئيس تحرير صحيفة «هآرتس»، هناك إسرائيليون لن يؤيدوا نتانياهو أبداً. وقال بن: «هناك أشخاص سيكونون ضد بيبي حتى لو توسط في السلام العالمي وساهم في القضاء على المرض والجوع. ثم هناك أولئك الذين يخشون الحرب الإقليمية». وأضاف أن السؤال هو ماذا سيفعل آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، بعد ذلك. وأوضح: «هل سيبتلع كبرياءه ويستأنف المفاوضات للحفاظ على النظام وإنهاء العقوبات والتخلي عن برنامجه النووي؟ هل هناك مخرج؟ أم أن هناك إعلان لحرب جهادية؟ لا أعرف، لا أحد يعرف».
هناك حقيقة تاريخية أشار إليها جميع من تحدثتُ معهم تقريباً، بما في ذلك أولئك الذين رفضوا غرور نتانياهو الذي يعتبر نفسه شخصية «تشرشلية».
عندما خاض تشرشل الانتخابات، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرةً، خسر أمام زعيم حزب العمال كليمنت أتلي. في صباح اليوم التالي لهزيمته، حاولت زوجة تشرشل، كليمنتين، مواساته ووصفت النتيجة بأنها «نعمة مؤجلة»، وهو ما رد عليها تشرشل بالقول: «في الوقت الحالي، يبدو الأمر مؤجلاً جداً».
ديفيد ريمنيك
محرر في مجلة «نيويوركر» منذ عام 1998 وكاتب في المجلة منذ عام 1992. وهو مؤلف لسبعة كتب.