حسين جمو
في مقابلة مع وكالة بلومبرغ الأميركية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، تحدث رئيس موانئ دبي العالمية، سلطان بن سليّم، بتشاؤم عن قدرة التجارة العالمية على التعافي سريعاً أمام اضطراب سلاسل الإمداد بين شرق آسيا وبقية أنحاء العالم. أشار بالتحديد إلى مشروع “الحزام والطريق” الصيني. فجوهر المشروع الصيني قائم على سلاسة تدفق السلع في الاتجاهين، و ما يجري حالياً أن تأخير التسليم، بسبب الإغلاقات المتتالية جراء تفشي وباء كورونا، قد وصل في بعض الحالات إلى ثلاث سنوات مقبلة. أي أن هناك شحنات لن تصل إلى وجهتها إلا بعد ثلاث سنوات من الآن. السفن متكدسة في الموانئ. شركات الشحن تجني الأموال، وأصحاب المصانع يعانون. في الخلاصة، شكّك بن سليّم، وهو شخصية ذات ثقل في عالم التجارة الدولية، في قدرة الصين على الاستمرار في هذا المشروع بالعقلية الحالية، واقترح أنه ربما على الصينيين إخضاع “الحزام والطريق”، بمساراته الست، للمراجعة.
في اليوم نفسه، كتب رئيس الوزراء الهندي، ناريندا مودي، عدة تغريدات على تويتر، وكذلك تحدث وزير التجارة والصناعة في السياق نفسه. الرجلان تحدثا عن أن الهند هي المكان الأمثل لاسئناف وقيادة النمو العالمي، و بدا مودي متفائلاً أكثر من أي وقت مضى في الدفع بمشروعه الأكبر إلى الأمام و هو “بناء الهند الجديدة”. هذا العنوان هيمن كذلك على هوية جناح الهند في معرض “إكسبو 2020 دبي” الذي يستمر حتى نهاية آذار/ مارس 2022.
في مجلة “فورين أفيرز” الأميركية، كتب كل من Michael Beckley و Hal Brands مطلع شهر تشرين الأول/ أكتوبر عن “نهاية الصعود الصيني” ، بالاستناد إلى عوامل اقتصادية و اجتماعية و سياسية. مثل هذه النبرة في الحديث بثقة عن أفول نجم الصين كانت مفقودة في الصحافة و مراكز الرأي الأميركية قبل جائحة كورونا.
إن التفاؤل الهندي، و القلق الصيني، و الترقب الأميركي، ذو صلة بقيادة العالم و تحديد المسار الرئيسي للتجارة الدولية. قد لا يعرف أحد من سكان قرية “Kappar” في بلوشستان الباكستانية بهذا الاضطراب التجاري في العالم، أو ما سيؤول إليه، لكن هذه القرية ستتأثر بشكل مباشر بما يحدث في الأعلى، بين القوى العظمى. هل ستبقى هذه القرية مصدّرة للعمالة إلى الخارج؟ أم ستصبح، على العكس، منطقة جاذبة للباحثين عن فرص العمل من خارج القرية الواقعة على مشارف مدينة وميناء گوادر ؟
إنّ التاريخ، في جانبه العمراني، الحضاري، تكرار لا نهائي لهذا السيناريو. تضطرب الصين بنهاية حكم أسرة هان في القرن الثاني قبل الميلاد فتصاب بلاد إيران بالفقر. في القرن السابع الميلادي، تنهار “إيران شهر” مع الاقتحام العربي الإسلامي فتتلاشى المدينة المزدهرة، اصطخر (برسيبولس)، وقراها. تستقر الأوضاع في الصين ووسط آسيا في القرن السابع عشر فتزدهر بلدة اسمها “بيازيد” في كردستان و يكسب رجال قبيلة الجلالي مزيداً من الدخل المادي بين أورميه و أرزروم من خفارة القوافل أو نهبها.
إن المدن التي لم تكن على طرق التجارة، حتى مطلع القرن العشرين، كانت عبارة عن خرائب و بلدات صغيرة مهدّمة، على غرار شرقي الفرات و إدلب شمال و شرق سوريا، و معظم مدن العراق.
الجغرافيا السياسية
في السنوات القليلة الماضية، بات “طريق الحرير الجديد” أحد المصطلحات المتداولة في الحياة اليومية في الشرق الأوسط، أفراداً وجماعات، مدنيين وسياسيين، دولاً وأحزاباً. يزدحم الجميع في طابور من الأمل ليكونوا جزءاً من شيء أشبه بـ”هبة سماوية” كانت قد اختفت منذ قرون، وباتت طي النسيان في زمن الدول القومية الانعزالية التي رسمت خريطة جديدة لمصادر الثروة وتصدّرها النفط بلا منازع.
حتى قبل ثلاثة أعوام، لم يكن السعي لركوب مسار الرؤية الصينية “الحزام والطريق” (والرؤية تعبير أدق من المشروع) موضوعاً علنياً، وحاولت كافة دول المنطقة إخفاء استعدادتها المبكرة لمرحلة تحديث “الرأسمالية الامبراطورية” المتفوقة على الرأسمالية القومية من حيث المسارات التجارية وتراكم رأس المال. مرحلة العمل الصامت لم تدم طويلاً لدى دول منطقة الشرق الأوسط لركوب هذا التحول العالمي المرتقب. فسرعان ما تصادمت المشاريع القومية الإقليمية، فتنافست الموانئ و المدن، ونتجت عنها أزمات سياسية وأمنية، وما زالت الأزمات المحتملة تنتظر دورها.
ربما تكشف السنوات القادمة أنه كانت هناك مبالغة في عقد آمال غير واقعية على “ثورة التجارة” التي تقودها الصين، غير أن التحول الجيوبوليتكي العالمي يدفع بالجميع في الشرق الأوسط إلى إعادة التموضع، ليس فقط على مستوى الدول، بل حتى الثورات المسلحة. فقضية التمرد في بلوشستان الباكستانية باتت تتقاطع مع هذا التحول الجيوبوليتيكي بعد أن كانت، على مدى عقود، حركة منسية، كذلك بالنسبة للأويغور في شينجيانغ غربي الصين، الذين أصبحوا فجأة في صدارة القضايا الحقوقية في العالم، وما كان ذلك ليكون لولا أن منطقة الأويغور هي منطقة العبور الأولى لخطوط الربط التجارية التي تصممها الصين. وفي وسط آسيا عادت حركة طالبان لحكم أفغانستان بتمهيد وترتيب دولي علني. وفي قلب الشرق الأوسط تستعر حروب قديمة بشكل غير مسبوق، مثل الحملة التركية ضد حزب العمال الكردستاني في المعاقل الجبلية وتوسيعها حملتها العسكرية الجوية على منطقة شنكال/ سنجار ضمن خطتها لفتح بوابة حدودية ثانية في العمق العراقي، بعيداً عن حدود تركيا (الصورة المرفقة توضح موقع البوابة المفترضة)، و هذه سابقة دولية وتاريخية تجري تحت أنظار حكومات عراقية ضعيفة وإقليم كردي فاقد الحيوية و قوى دولية كبرى لا تعتبر هذا التوغل “شأناً مهماً”. في حال نجاح تركيا في فتح هذه البوابة، فستكون نهاية تجارية حتمية لإقليم كردستان العراق.
على غرار شنكال، احتلت تركيا مناطق في روجآفا وشمال شرق سوريا لغايات استعمارية عديدة، من بينها قطع الطريق الدولي (M4) الذي بات جزئياً تحت سيطرة الاحتلال التركي. في النهاية إن رؤية أنقرة لمسار التجارة الدولية ليس أن اتكون جزءاً منه، فهذا محسوم بحكم موقع البلد الجغرافي، إنما تريد أن لا يكون الكرد موجودين أو متواجدين، بالمعنى الفيزيائي الجسدي، حول ما تتخيله من مسارات تجارية تعمل على بنائها كجزء من خطوط دولية عابرة للقارات، سواء بين إيران وتركيا عبر شبكة خطوط من السكك الحديدية أو بين العراق وتركيا. إن نموذج الحرب التركية المركبة على عدد من الدوافع، نموذج للحروب المستترة العديدة التي تجري اليوم في الشرق الأوسط، بشكل مباشر، كما الحرب في سوريا وليبيا، أو بشكل غير مباشر، كما حدث مع تدمير ميناء بيروت ومقدمات تعطيل موانئ الساحل الشامي كافة و كذلك ميناء الفاو العراقي.
بعيداً عن “الحزام والطريق”، سنقوم برحلة قراءة موجزة في التاريخ، ونغامر بتفسير أحداث معينة من زاوية التجارة ومصادر الثروة، بما يعني تهميش عوامل التبشير الديني والحروب الطائفية كدافع رئيس شائع في تفسير حركة التاريخ. هل هذا ممكن؟ وهل كانت صورة الازدهار التجاري، في الحقب السابقة، وردية فعلاً كما يتصورها الناس في الشرق الأوسط ؟
هذه الأسئلة و الأمثلة تنقلنا مباشرة إلى الحديث بشيء من التوسع عن التجارة و دورها في نهضة العمران البشري، و التحولات التي طرأت بشكل رئيسي على كردستان وإيران وعموم الشرق الأوسط، بتأثير من عوامل التجارة الدولية عبر التاريخ، عبر ثلاث حلقات تحت عنوان رئيس: التجارة ونهضة الأمم.