حسين سينو
في مشهد صادم ومؤلم، وثّقته عدسات الكاميرات وانتشر كالنار في الهشيم، أقدم عناصر من المحسوبين على السلطة الجديدة في مدينة حلب على تحطيم “تمثال الشهداء” في ساحة سعدالله الجابري، أحد المعالم الرمزية التي طالما أضحت جزءاً من ذاكرة حلب وأهلها. لا يمكن تصوير هذه الحادثة كونها مجرّد تحطيم قطعة حجر. بل هي إهانةٌ صريحةٌ لذاكرة الشعب السوري، وانتقاصٌ متعمّد من رموزه التاريخية التي تشكّل هويته الثقافية والحضارية.
إنّ ما جرى لم يكن عملاً فردياً عابراً، بل هو نتاج الفكر التكفيري الذي لا يرى في التماثيل إلا “أصناماً”، ويعتبر وجودها “شركاً بالله”، متجاهلاً بذلك الدلالات الرمزية لهذه المعالم وما تشكّله من قيمة وطنية وتاريخية في حياة الشعوب والأمم. إن أصحاب هذا الفكر المتطرف الذي يجرّم التماثيل، بينما نجدهم يرتكبون أبشع الجرائم بحق الإنسانية، هم الخطر الأكبر الذي يتهدّد شعوب المنطقة، لكونهم يناصبون العداء علناً كل أشكال التنوع والاختلاف، ولا يتوانون عن ممارساتهم الشنيعة في طمس معالم ثقافتها وهويتها الحضارية.
الأدهى من ذلك، إن أصحاب هذه العقول والذين أقدموا على هذا الفعل، قاموا بتوثيقه وسط صيحات التهليل والضحات كمن أنجز فتحاً عظيماً، هذا بينما يُفترض بهؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم حماةً جدداً للوطن والمواطن، أن يحوّلوا جهودهم إلى سلسلة طويلة لا تنتهي من المتطلبات الأساسية التي يحتاجها المواطن السوري، أبسطها قوت يومه الذي لا يزال يعاني الأمرّين من أجل تأمينه.
أين هي أولويات الدولة؟
من المؤسف أن تنحدر بنا الحال إلى هذا الدرك، وأن يجد الشعب السوري نفسه أمام واقع التدمير الممنهج لهويته الثقافية والتاريخية، بينما كان يأمل أن تُطوى صفحة الظلم والاستبداد بعد التخلص من تركة النظام السابق، وأن يصبح أخيراً قادراً على نيل حريته والعيش بكرامة. والآن، وبينما هو في مواجهة مباشرة مع هذه المظالم والانتهاكات الجديدة، من الطبيعي أن يقول لسان حاله: أين غابت وعود تأمين الماء والكهرباء والدواء والتعليم؟ أليس من حق السوري أخيراً أن يعيش بأمن وسلام بعيداً عن الخوف والتهديد؟ إلى متى ستستمر إهانة السوريين والحطّ من كرامتهم؟ متى سيحين موعد محاسبة المستهترين بأملاك وأرواح السوريين؟ أليس الأولى بالسلطات الحالية حماية الرموز الثقافية والتاريخية والحضارية لسوريا بدلاً من تركها مستباحة وضحية للأفكار المتطرفة؟
ما يحتاجه الشعب السوري اليوم ليس مزيداً من التطرف والتعصب، بل دولة تحترم القانون، والمؤسسات وحقوق الإنسان. دولة تنتمي للقرن الحادي والعشرين، لا لعصور الجهل والظلام.
خطر داهم على مستقبل سوريا
إن هؤلاء الذين يعتنقون إيديولوجيا إقصائية، ويؤمنون بنظام شمولي مغلق، لا تعرف قواميسهم كلمات مثل الحرية والديمقراطية والتعددية، وهم إنما يسعون لفرض رؤاهم وتصوارتهم الخاصة على المجتمع السوري، الذي يمثل نموذجاً فردياً بتنوعه العرقي والديني، والعصي على أن يكون ملكاً لفئة أو طائفة أو جماعة بعينها.
لكن وفي مطلق الأحوال، إذا ما استمرّت السياسات والانتهاكات الحالية فإنه يمكن القول دون أدنى تردّد أن مستقبل سوريا وهويتها الجامعة في خطر حقيقي. هذا النهج التخريبي، الذي لا يقتصر على تدمير الرموز الوطنية والتاريخية وحدها، وإنما يشمل كذلك تفكيك كل ما له صلة بالذاكرة الجمعية المشتركة، يهدّد بتمزيق النسيج الاجتماعي وقتل أي أمل في مستقبل مشترك يعمه الأمن والرخاء والسلام.
إن تحطيم “تمثال الشهداء” في ساحة سعدالله الجابري ليس فقط اعتداءً على الحجر، بل على الإنسان، وعلى الفكرة التي تقول إن التضحية من أجل الوطن تستحق الثناء. ما حدث يجب ألا يمرّ بصمت. إنه ناقوس خطر يجب أن يوقظ ضمائر جميع الغيارى على وطنهم، حتى لا نجد أنفسنا قريباً نرثي وطناً كاملاً تم تحطيمه، لا لشيء، إلا لأنه لم يشبه فكرهم.
في سوريا الحرب لم تنتهِ بعد، بل اتّخذت شكلاً جديداً: حرب ضد العقل، ضد الذاكرة، وحرب ضد الإنسان.