كريم شفيق
في ظلّ الصراعات والأزمات التي وقعت تحت وطأتها المنطقة، لا سيّما في مسار الربيع العربي، وعدوى الثورات، التي انتقلت من تونس مروراً بالقاهرة وسوريا وحتى ليبيا، فإنّ سؤالاً مُلحاً ما زال قائماً ويحمل راهنيته: لماذا تتعطّل مشاريع الديمقراطية وتخفق الدولة الحديثة بالمنطقة في القطيعة مع شروط وبنى التخلف؟
سؤال الحداثة، وبخلاف الأطر النظرية، ثم غياب أو بالأحرى تغييب قيم المواطنية والمدنية، له ارتباطات بنيوية تتصل بهياكل الدول التي تشكّلت في مرحلة ما بعد الكولونيالية، والمسار الانحرافي الذي نجم عن الدمج التوفيقي/ التلفيقي بين الإسلام والقومية والعروبة. وهي صيغة قمعية بدت وكأنها آلية احتكارية تقوم على مصادرة كل من يقف على النقيض منها بقدر ما تمنح الشرعية لمن يحتمي بسردياتها.
هذه السردية الشمولية، التي تبنّاها البعثيون في سوريا والعراق، مثلاً، تفضح ارتباطهم، ظاهرياً، بالعلمانية، وفق ما تروّج أدبياتهم وخطاباتهم البراغماتية. فالدين في نطاق إداراتهم للحكم كما المسائل الهوياتية المرتبطة بالقومية والعربية، ورقة وظيفية مؤقتة لتحقيق فوائد سياسية وفوائض قوّة على مستوى الثروة والنفوذ. ولهذا، كانت جماعة الإخوان المسلمين ضمن هذه البيئات ومنذ التأسيس عام 1928، تواصل صناعة «هويات قاتلة» وتعميم الطائفية وتدمير المواطنة المدنية. بل إن جماعة الإخوان كانت بمثابة الرديف السياسي الذي تلجأ إليه هذه الأنظمة لمداراة أزماتها، والتشويش على إخفاقاتها المختلفة في الحقوق والسياسات، كما في قضايا العدالة المواطنية والاقتصادية والاجتماعية، ناهيك عن غياب إدارة التنوع القومي والهوياتي والطائفي. ففي حوادث عديدة، تاريخية وسياسية، صعد التنظيم الأم للإسلام السياسي وهو الرحم الذي تدفق منه الإسلامويون، منذ نهايات عشرينات القرن الماضي، ليكون جبهة إسناد عملية لقمع أي حراك ديمقراطي ومدني، وبناء بدائل سياسية، بينما يباشر في تصفية أي مشروع ليبرالي أو يساري، كما يعمد إلى تشويه أي تصور وخيال سياسي يكون بمقدوره تدشين عقد سياسي واجتماعي، يمنح الأفراد والمكونات الثقافية والمجتمعية حقوقها وفق مبادئ العدالة السياسية وتعريفاتها الحديثة. وذلك بعيداً عن المرجعيات الشمولية وتصوراتها التقليدية والبدائية. وهو ما أوجزه المفكر المصري، فرج فودة، في عبارات لافتة حين قال: «تبدأ الدائرة المفرغة في دورتها المفزعة. ففي غياب المعارضة المدنية، سيؤدي الحكم العسكري إلى السلطة الدينية. ولن ينتزع السلطة الدينية إلا الانقلاب العسكري، الذي يُسلّم الأمور بدوره.. إلى سلطة دينية جديدة».
منذ تأسيس الإخوان على يد حسن البنا في 1928، سعت الجماعة لبناء هوية موازية للدولة المدنية تعزز الولاء التنظيمي والديني على حساب الولاء الوطني والمواطنة الشاملة. هذه الهوية المُبتسرة والمتخيلة، تعتمد على آليات مهيكلة تهدف إلى خلق أفراد، هم حوامل اجتماعية لمشروع ديني أممي، له صفته التنظيمية والحركية، الأمر الذي تسبب في إجهاض التنوع المدني، ويؤسس للتمييز الديني والطائفي، ناهيك عن الإقصاء المنهجي. فالفرد داخل جماعة الإخوان يقع أمام آلية تنظيمية وأيديولوجية تبدأ بالتجنيد مروراً بـ«البيعة»، حتى تراكم لديه صيغة «الولاء والبراء» بينما تجعله أمام هوية جماعية متماسكة، تبدد كل صلاته القديمة على المستويات كافة، وتصفي ذاكرته الاجتماعية بتنوعاتها، بل تضع تاريخه الشخصي والاجتماعي قبل «الجماعة» في نطاق «الجاهلية المعاصرة» التي تماثل معاني الكفر في مرحلة ما قبل الإسلام، تاريخياً؛ فيتخلى، والحال كذلك، عن هويته والانتماء الوطني مقابل «الأممية الإسلامية» و«مشروع الخلافة» و«أستاذية العالم»، وأخيراً الالتحاق بـ«الأسرة» الأيديولوجية حتى على حساب أسرته الوطنية. هذه العملية القسرية تخلق تماهياً معنوياً بين الفرد والجماعة، تجعله مستعداً للطاعة التامة والإذعان من دون مراجعة أو مساءلة لقرارات «المرشد»، وكذا «مكتب الإرشاد». ويمكن القول، إن الإخوان نجحوا في بناء وضع تنظيمي يقوض مؤسسات السيادة، بما يضعف مفهوم الدولة المدنية، كما يحقق لهم امتيازات فوق القانون بدعاوى دينية وأخلاقوية.
هذه الصيغة التدميرية للمواطنة، تتغلغل لدى الحوامل الاجتماعية للإخوان وحواضنهم، في حين يجعل العنف مرشحاً أن يأخذ موجات ومنحنيات متصاعدة ودورات متكررة، حيث إنها تبدو نقطة ارتكاز في الأدبيات المؤسسة للجماعة، وتتحكم في أفكار ومقاربات قواعد التنظيم كما خياراتهم واتجاهاتهم، فضلاً عن مواقفهم النظرية والعملية السياسية. فيقول المرشد المؤسس حسن البنا في كتابه: «رسالة التعاليم»: «أريد بالتجرد: أن تتخلص لفكرتك مما سواها… والناس عند الأخ الصادق واحد من ستة أصناف: مسلم مجاهد، … ذمّي معاهد، محايد، محارب، ولكلٍّ حكمه… وفي حدود هذه الأقسام توزن الأشخاص والهيئات، ويكون الولاء والعداء». هذا تقسيم هويّاتي سياسي-ديني يضع الأفراد ضمن خانة الولاء أو العداء، بناءً على مدى تطابقهم مع الفكرة الإخوانية. وبحسب منصة «إخوان أون لاين»، فإن «كل مؤمن موحد… له محبة ونصرة، وكل كافر يوجب بغضه ومعاداته… والولاء والبراء تابعان للحب والبغض». بهذا، تصبح الولاءات الاجتماعية تمتد لتصنّف الجميع بدقة، بحسب الانتماء المؤدلج والمُسيّس.
إن مفهوم الولاء والبراء عند جماعة الإخوان يتخطى كونه صيغة دينية راديكالية للتفرقة والتمييز بين الأفراد على أساس ديني هويّاتي، إنما هو كذلك آلية من آليات فرض الهيمنة. بالتالي، يمكن فهم كل ذلك عند الإخوان ضمن الإطار الديني الحركي، باعتباره ضمن وسائط الإكراه التي تنزع صفة المواطنة عن المكونات غير المنتمية لـ«الإخوان»، وتُهمّش خصومهم، في حين ترفض حتى أنماط التدين التي لا تتناسب وتصوراتهم العقائدية. وبعبارة أخرى، فالطائفية بهذا المعنى الحركي، لا تقع في المجال الديني بل هي طائفية سياسية، بالمعنى البدائي والغرائزي، لتحويل سلوك الأفراد إلى عصبيات قبلية، وانتماءات فئوية، تقتل التنوع الاجتماعي والمدنية، وتطوق المجتمع من الداخل. توظف الجماعة الحالة الولائية لجهة خلق إطار وقائي يبرر العداء للطوائف الأخرى، والخصوم السياسيين، أو حتى الدول التي تمانع الإسلام السياسي. إذ يتحول الولاء إلى معيار لتحديد الولاء السياسي والحسبة التنظيمية. ومن هنا، يتم تعميم جملة من الأعراف التي تعود إلى مرحلة ما قبل الدولة والقانون ونشوء المؤسسات الحديثة، فتتفاوت النظرة للأفراد داخل المجتمع بصيغة تراتبية، تحتكم إلى البطريركية والهيراركية التنظيمية الأبوية، فيكون القبطي/ المسيحي مثلاً أدنى درجة ويعامَل باعتباره «ذمّياً»، كما تصبح القوميات الأخرى من أمازيغ أو كرد في وضع تُطاوله الشكوك بشأن ولاءاتهم، وتُروّج حولهم سرديات تلفيقية لتعميم رؤية مشبوهة حول وجودهم الذي يرقى إلى أن يكون مؤامرة، مثل توصيف الكرد بـ«الانفصالية»، والأمر ذاته بشأن الأمازيغ. فكرة البراءة من «المخالفين»، بظاهرها الديني وحقيقتها السياسية والأيديولوجية، تعمم كخطاب أدبي وسياسي للبقاء داخل الهوية القاتلة. فالخطاب الإخواني يختزل المجتمع إلى مؤمنين وكفار، «دار سلام» و«دار حرب»، وغالباً ما يتحول غير المسلم تلقائياً «عدواً».
وبالتالي، تبدو الدعوة إلى تقليص الهوية إلى انتماء واحد، «تولد آفة خطيرة: إنها تزرع في الإنسان موقفاً متعصباً، طائفياً، متسلطاً، أحياناً انتحارياً، وتحوّله في كثير من الأحيان إلى قاتل، أو إلى أنصار للقتلة…»، كما يقول المفكر اللبناني الفرنسي أمين معلوف، ويوضح أن الهوية المختزلة بطرف واحد تصبح أرضاً خصبة للقتل والانقسام. مشيراً في كتابه: «الهويات القاتلة» إلى طائفية لبنان كنموذج معبّر، إذ «يُقال لنا أن مشاركة السلطة بين الطوائف مؤقتة لتخفيف التوتر، وفي الأثناء توعدنا أن نُدفع تدريجياً نحو الشعور بالهوية الوطنية. لكن المنطق الحقيقي عكس ذلك تماماً: فكل طائفة ترى أن حصتها ضئيلة، وتتحوّل هذه الحساسية إلى خطاب سياسي دائم، يقوده بعض السياسيين بهدف التضخيم… ثم يتراجع الشعور بالهوية الوطنية وينحسر، أحياناً إلى حد التلاشي، وغالباً يخرج ذلك غارقاً في مرارة، وأحياناً في حمام دم… إذا كنت في أوروبا الغربية فقد ينتهي الحال ببلجيكا، وإذا كنت في الشرق الأوسط، فقد ينتهي بحرب لبنان». ذلك ما يعكس أن تقاسم السلطة الطائفية يؤدي إلى تآكل الهوية الوطنية وتصاعد النزاعات. كما يُفصّل معلوف ذكرياته عن الحرب الأهلية اللبنانية قائلاً: «إنه سمع يوم 13 أبريل 1975 إطلاق نار وقضى أكثر من 20 شخصاً تحت منزله». ويضيف: «التوتر العرقي يمكن أن يُحوّل أي إنسان إلى قاتل». وهنا، يؤكد حتمية العنف ودواماته مع تأبيد الوضع الطائفي التي تجعل الصراع الدموي ليس أمراً طارئاً، إنما لحظة تقبض على الواقع وتفاصيله بينما تحتل جوانب المشهد بكليته.
المفارقة في هذا الوضع الطائفي السائد والمتسيد، والذي تتناوب فيه قوى الإسلام السياسي على أداء الدور الوظيفي لها، بأن تخلق فرصة للأنظمة العسكريتارية المافياوية أن تجدد شرعيتها، كما هو الحال مع البعث، هي أنه يبرز الأمر وكأنه عملية تبادل للأدوار، وتقسيم للعمل وإدارة للمصالح. فالفرع العراقي، اعتمد حيلة «الحملة الإيمانية» في إطار صراعه مع إيران والحرب التي دامت لثمان سنوات، كما شرعن لإحدى حملات الإبادة ضد الكرد بـ«الأنفال»، لمنحها الحمولة الدينية، ووضع الصراع في إطار التماثل التاريخي بين فرسان الحق الإلهي مقابل «الوثنيين». إن العداء الظاهري والهامشي بين الإسلامويين وتلك الأنظمة ليس بمقدوره التعمية عن الطبيعة البراغماتية والولائية بين الطرفين. فولادة الإسلاموية رافقت لحظات هزيمة تلك الأنظمة، واستبقت أفولها، أو بالأحرى إفلاسها التاريخي.
فالطائفية وسيلة لحماية السلطات التي تتبنّى شرعية محدودة وباهتة، وتجذب ولاءات وفق منطق الزبائنية السياسية، بما يخلق روابط هشة، لا سيّما في ظل اقتصاديات العنف التي تراكم أجساداً متهالكة وأنماط التعذيب المتوحشة في السجون وعبر القصف، فضلاً عن الاقتصاديات الموازية في نموذج «الكبتاغون»، مثلاً، والعمولات ورأسمالية المحاسيب. هذا الاقتصاد الريعي يكاد أن يكون الأساس البنيوي الذي تتقاسمه الجماعات الإسلاموية وأنظمة البعث، وانتهت لصيغة مفادها تشكّل جماعات المصلحة وشبكات تحظى بالرعائية السياسية والأمنية. وفي مقابل جماعات المصلحة، تقع الجماعات الأخرى في دائرة العسكرة، كقضايا المكونات القومية والدينية.