مؤتمر أستانة لتبادل ساحات الجريمة

يكاد البيان الختامي لمجموعة الدول الضامنة لمحادثات “صيغة أستانة”، حسب الاصطلاح الروسي، مخصصاً لملف شرق الفرات والإدارة الذاتية، رغم حضور أطراف عديدة تمثل ديكورات على المقاعد، وهما وفدا النظام والمعارضة.

يلخص البيان الختامي روح الاستبداد الشرقي المهيمن على العقل السياسي لقافلة من الدول اليوم، ومنها الدول الثلاث الضامنة. وروح الاستبداد لا تحل عبر صناديق الانتخابات التي تكون تداولاً بين الأحزاب لإدارة ما ترسمه النواة الصلبة في هذه الدول، وقد تصلح هذه الفرضية لحال السياسة في العديد من الدول الغربية أيضاً، لكن هؤلاء ليسوا جزءاً من “صيغة أستانة” محور التوصيف في هذه السطور.

الواقع قد لا تكون هناك جريمة في “أستانة” يمكن عرضها جنائياً، لكن لا يمكن تجاهل نية الجريمة المبيّتة بين هذه الدول، ليس ضد الإدارة الذاتية، وإن كان المطلوب رأسها في كل الأحوال، إنما تجتمع هذه الدول كل ستة شهور، وأحيانا أقل، ليس لحل أزمة سوريا، بل لتبادل الجرائم بين بعضها البعض بحق أجزاء من سوريا، لكلٍ جزأه الخاص به كساحة للجريمة. في هذا البيان الختامي ثلاثة عناصر تبادلتها الدول الثلاث، الأول شرق الفرات حيث كافة الصيغ الواردة، مثل “المخططات الانفصالية التي تستهدف تقويض سيادة سوريا ووحدة أراضيها وتشكل خطرا على الأمن القومي للدول المجاورة”، ورفض الدول الضامنة “مبادرات غير قانونية بخصوص الحكم الذاتي تطرح تحت ذريعة محاربة الإرهاب”. ومرة أخرى كرر البيان بصيغة مشابهة في الفقرة الرابعة “مواجهة المخططات الانفصالية في شرق الفرات التي تستهدف نسف وحدة سوريا وتشكل خطرا على الأمن القومي للدول المجاورة”.

كان لروسيا حصة أيضاً من فقرة شرق الفرات في الفقرة الرابعة نفسها: “تجدد الدول الضامنة رفضها للاستيلاء على العوائد من المبيعات النفطية التي يجب أن تعود إلى الجمهورية العربية السورية”، وليس خفياً سعي الشركات الروسية المرافقة للعسكر الروسي المجموم لنيل جائزتها في حقول النفط. 

وفي مقابل توكيل تركيا بأن تكون لها الأولوية بمنطقة شرق الفرات كساحة لممارسة الجريمة، فإن تركيا لم تبخل على روسيا أيضاً في عدة نقاط كمقايضة عادلة على منوال مقايضات فرنسا وبريطانيا وإيطاليا في القرن التاسع عشر ومطلع العشرين. وكان ما نالته روسيا كمقابل هو “مواصلة التعاون بهدف استئصال تنظيمات داعش وجبهة النصرة وهيئة تحرير الشام والشخصيات والتنظيمات والكيانات المرتبطة بتنظيمي القاعدة وداعش وغيرهما من التنظيمات المدرجة على لائحة الإرهاب الخاصة بمجلس الأمن الدولي”. وللتأكيد كررت الفقرة نفسها أن “الدول الضامنة تبدي قلقها العميق إزاء زيادة تواجد وتفعيل أنشطة تنظيم هيئة تحرير الشام والتنظيمات الإرهابية المرتبطة بها، التي تشكل خطرا على المدنيين داخل منطقة خفض التصعيد في إدلب وخارج حدودها”. هذا بالنسبة للصيغة الحرفية للبيان. أما في الصيغة التي نشرتها وزارة الخارجية التركية فإنها قدمت لقرائها الأتراك فقرات محررة ومحورة – بتصرّف – لتصل إلى تقديم الاجتماع ليس بصيغة مقايضة مفضوحة وعلنية، بل وكأن شغله الشاغل هو شرق الفرات، على الشكل التالي: “وأوضحت الوزارة أنه جرى خلال المؤتمر مناقشة الوضع الإنساني وإيصال المساعدات إلى سوريا، وأعمال اللجنة الدستورية، والحل السلمي، والأوضاع الأخيرة في إدلب، إلى جانب مكافحة الإرهاب، وخاصة التنظيمات الإرهابية شرقي الفرات”. وتفادت روسيا في البيان إدانة بالاسم للهجوم على أحد مشافي عفرين المحتلة الشهر الماضي، واكتفى البيان بالإشارة إلى إدانة الهجمات على البنى التحتية واستهداف المدنيين، بدون تحديد طرف بعينه ولا مكان بحد ذاته، وفي هذا كسبت روسيا الصياغة، ذلك أن معظم الهجمات على البنى التحتية تكون من قبل روسيا والنظام. لكن الخارجية التركية “اجتهدت” في التأويل بنشرها صيغة محررة  – بتصرف – بالقول: “وأدانت الأطراف الهجمات الأخيرة على المدنيين والمباني المدنية، وخاصة هجوم تنظيم “ي ب ك/ بي كا كا” الإرهابية على مستشفى مدعوم من الأمم المتحدة في عفرين بتاريخ 12 يونيو/ حزيران، مشددة على أهمية تطهير المنطقة من الإرهابيين”. وهذه الصيغة لم ترد في البيان الختامي.

أما إيران، فهي تتشارك جزئياً مع روسيا وتركيا في بعض المقايضات، لكن الأمر بالنسبة لها ليس أولوية مقارنة بمعضلة إسرائيل التي حولتها إلى كيس تدريب في أنحاء سوريا، وكانت فقرة إيران عزائية حيث “الدول الضامنة تدين الهجمات العسكرية الإسرائيلية المتواصلة على سوريا والتي تخالف القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي وسيادة سوريا ودول جوارها وتهدد استقرار وأمن المنطقة، وتدعو إلى وضع حد لها”.

إذاً، المقايضة واضحة: معظم ما جاء عن الإدارة الذاتية مكافأة لتركيا، ومعظم ما جاء عن “هيئة تحرير الشام” وإدلب مكافأة لروسيا، والفقرة الخاصة بإسرائيل هي بمثابة تعزية لإيران.

لم يأت البيان الختامي على ذكر ستة مناطق سورية محتلة احتلالاً مباشراً من تركيا، عبر وكلائها السوريين الذين هم فعلياً باتوا خارج المعارضة أيضاً، وباتوا رديفاً للأمن القومي التركي ولحسابه. 

هذا على مستوى البيان. هناك عامل آخر يجمع بين هذه الدول الثلاث، وهو مقاربتها لملف حقوق الإنسان باعتباره شأناً داخلياً، ليس على مستوى الحدث، فهو بالتأكيد داخلي، بل على مستوى المعايير. والدول الثلاث تشكل تحالفاُ “مثالياً” من حيث “طبيعة الدولة” رغم تناقضات غير قليلة فيما بينها. فبينما تتصادم الرؤى التبشيرية الكبرى في العالم بشكل أكثر حدّة في مناطق تماس عسكرية واقتصادية واسعة الامتداد، باتت الأطروحات السياسية تأخذ طابعاً أداتياً متزايداً في رسم السياسات ومسار التحالفات. فبينما تعطي إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن “حقوق الإنسان” مساحة رئيسية في معيار العلاقات الدولية، وبصورة أداتية في العديد من المناطق المعنية، فإن الهجوم المعاكس يأتي ليس من أطروحات انعزالية تقليدية، إنما يمكن رصد مظاهر ما يمكن تسميته بالانعزالية الوطنية العابرة للحدود، أي أن تكون دولة ما، حرّة، ذات سيادة في الداخل، ومتحررة من المعايير الدولية في ملف حقوق الإنسان. والأخيرة تحمل نزعتيبن متضادتين لكن غير متصادمتين، وهي القومية المتوحشة المغلقة على الداخل، والتوسعية الاقتصادية والعسكرية في الخارج.

هذا ما أدى إلى ظهور صيغة أستانة بين روسيا وتركيا وإيران، لتقاسم ساحات الجريمة من حيث هي “شأن وطني” و”أمن قومي”.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد