العنوان الأصلي: (They All Made Peace – What Is Peace? The 1923 Treaty of Lausanne and the New Imperial Order)
المؤلف:مجموعة مؤلفين
تحرير: جوناثان كونالين واوزان اوزفجي
إصدار: جامعة شيكاغو، مكتبة كينغو 2023
عدد الصفحات: 480
مراجعة: المركز الكردي للدراسات- 2023
كانت لوزان آخر تسويات السلام التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وابتعدت عن الأساليب المستخدمة في معاهدة فرساي؛ فاتخذت شكلاً مختلفاً لصنع السلام عبر التبادل القسري للسكان ما أثر على مليون ونصف المليون شخص. ومثل حلفائها الألمان والنمسا، كانت الإمبراطورية العثمانية المهزومة أذعنت في البداية لسلامٍ مفروض في عام 1920. ومع ذلك، في غضون عامين، مكّن العمل العسكري بقيادة مصطفى كمال من أن يجعل من تركيا أول دولة ذات سيادة في الشرق الأوسط، في حين سعى اليونان والأرمن والعرب والكرد، ومجتمعات أخرى كانت في السابق تحت حكم الإمبراطورية العثمانية، إلى أشكالٍ خاصة بهم في السيادة والاستقلال، والتي تم رفض منحها لهم بموجب ما تم أقراره في لوزان، لكنها ما زالت مجبرة على التعايش مع العواقب السابقة، وتلك التي ماتزال تظهر بعد مرور مئة عام.
يتميز الكتاب بتحليلٍ تاريخي من زوايا ووجهات نظر متعددة. تبحث فصول الكتاب في السياسات البريطانية والتركية والسوفيتية في عالم ما بعد العثمانيين، إذ اشتمل على تبادلٍ قسري للسكان في سبيل صنع السلام، ولكن أي سلام؟ على ما يطرحه عنوان الكتاب الإشكالي، إذ أن ذلك السلام يمكن قراءته الآن بأنه كان وسيلة تطهير عرقي. فيما تناقش فصول أخرى العوامل الاقتصادية وراء إعادة جدولة الديون العثمانية، وأخرى تناولت إدارة تدفقات اللاجئين وسياسات النفط. كما تتناول فصول أخرى وجهات النظر العربية والأرمنية والأمريكية والإيرانية، بالإضافة إلى الظل الطويل الذي ألقته لوزان على السياسة المعاصرة، داخل تركيا وخارجها.
ينقسم الكتاب الى خمسة أقسام، ينطوي كل منها على عدة دراسات تحمل الثيمة الأساسية له:
في القسم الأول والذي يحمل تعريف (من نظام إمبراطوري إلى آخر)، في الفصل المعنون: حقوق الأقليات والقانون الدولي في لوزان، تقدم إيمي جينيل عرضاً حول نظرة المؤسسة التركية منذ نهاية العصر العثماني المتأخر الى بداية الجمهورية إلى الأقليات والقانون الدولي، حيث تجد الباحثة أنه بينما أقر المؤرخون بمركزية القانون الدولي في الخطاب الدبلوماسي العثماني المتأخر، فقد تغاضوا عن مؤسسة عثمانية مهمة في وقت متأخر كانت حاسمة في جعل القانون الدولي محور سياستها الخارجية. تبحث هذه المقالة في مكتب المستشار القانوني لوزارة الخارجية العثمانية (hukuk müşavirliği istişare odasi) والمحامين الدوليين الذين عملوا هناك من الحقبة الحميدية حتى أوائل عشرينيات القرن الماضي. وهي الفترة التي تحوّل فيها دور القانون الدولي في ممارسات الدولة بشكلٍ كبير. وتجادل بأن المحامين العثمانيين نظروا إلى القانون الدولي بشكلٍ إيجابي كأداة للضعفاء في معظم الفترة قيد الدراسة. لكن في الأعوام التي سبقت الحرب العالمية الأولى، انهار الحماس العثماني للقانون الدولي مع الغزو الإيطالي لليبيا العثمانية وحروب البلقان. دعم المحامون الدوليون بشكلٍ متزايد العسكرة بدلاً من الشرعية باعتبارها أفضل وسيلة لتأمين مستقبل الدولة. في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وجد هؤلاء الحماة السابقون للإمبراطورية أنفسهم في مجموعة من المواقف المتباينة تجاه مستقبل الدولة التركية الجديدة: اللامبالاة القومية، أو المقاومة، أو اللجوء للمنفى، إلى هندسة النظام الوطني.
في فصل (خطط بريطانيا لإمبراطورية شرق البحر الأبيض المتوسط الجديدة)، يناقش إريك غولدستين كيفية تجسيد خطة التسوية السلمية لبريطانيا العظمى، إذ كان المندوبون البريطانيون قادرين على التوصل إلى مبادئ أساسية تسير بشكل صحيح وفق التفكير البريطاني بشأن نظام ما بعد الحرب. كانت هذه المبادئ تتمثّل في: أوروبا جديدة، ميزان القوى الجديد، والتوسع الإمبراطوري. فهي دراسة معمّقة للسياسة الخارجية البريطانية في الأعوام الحرجة. ويقدم الفصل فحصاً للسياسة البريطانية تجاه أوروبا الغربية والشرقية وروسيا وتركيا والشرق الأوسط والولايات المتحدة والشرق الأقصى، جنباً إلى جنب مع مواضيع مثل دور رئيس الوزراء ووزير الخارجية ومجلس الوزراء في صياغة السياسات.
يبدو أن المسألة الشرقية، تلك المشكلة طويلة الأمد للعلاقات الدولية حول مصير الإمبراطورية العثمانية، تم حلها، إذ تغيّرت الجغرافيا السياسية لشرق البحر الأبيض المتوسط. ومع ذلك، فإن الدول التي خلفت الإمبراطورية العثمانية ستثبت أنها مزيجٌ متقلب في العقود التالية وستجذب الاهتمام الدبلوماسي للقوى العظمى. أجبرت اليونان، بعد محاولةٍ قصيرة لاستعادة مجد الإمبراطورية البيزنطية القديمة، على التراجع. وظهرت جمهورية تركية جديدة تتمتع بإحساسٍ قوي بالهوية الوطنية. كان من المفترض أن تظل العلاقات بين هاتين الدولتين سلمية حتى الخمسينيات من القرن الماضي. لكن العداوات التي بلغت ذروتها في الحرب اليونانية التركية 1919-1922، إلى جانب شدة تأثيرها، ستضمن أن تكون هذه علاقة متوترة على امتداد ما تبقى من القرن العشرين. في الشرق الأوسط، برزت بريطانيا وفرنسا كقوتين مهيمنتين. ولكن على الرغم من استمرار تعاونهما في العديد من القضايا في أماكن أخرى، إلا أنهما ستظلان متنافسين إقليميين في الشرق الأوسط. لقد استنزفت الحرب كلاً من بريطانيا وفرنسا بشدة، ولم يكن لديهما سوى القليل من الموارد للتحكم في هذه العوالم شرق الأوسطية المتشكّلة حديثاً. أصبح الانتداب عبئاً متزايداً على بريطانيا وفرنسا، إذ واجهتهما موجة متصاعدة من المعارضة من السكان. سيظل عالم شرق البحر الأبيض المتوسط مشكلةً في العلاقات الدولية بعد الحرب بقدر ما كان خلال القرن الذي سبقها. من نواحٍ عديدة، كانت تسوية ما بعد الحرب بمثابة مرحلة جديدة وجزءاً من المسألة الشرقية القديمة.
في فصل (على هامش مؤتمر لوزان: الاتحاد السوفيتي واستثناءات النظام الدولي لما بعد الحرب العالمية الأولى)، يجادل كل من صموئيل هيرست وإتيان بيرات في أن الحل الذي تم التوصل إليه في لوزان في 24 يوليو/تموز 1923 إنما تمحور حول المضائق بوصفها إحدى أدوات معاهدة لوزان للسلام مع تركيا والتي تصب في مصلحة بريطانيا. عملياً، كانت المضائق منزوعة السلاح، وكان يُسمح للقوى الخارجية بإرسال السفن إلى البحر الأسود، ولكن مع تقييد أنه لا يمكن لأي قوة أن ترسل سفناً تفوق حمولتها الإجمالية حجم أسطول البحر الأسود السوفيتي، ما مكّن بريطانيا وفرنسا المتحالفتين من أن ترسلا ضعف الحمولة.
لم يُنظر إلى روسيا على أنها عامل يسبب الاستقرار، بل كانت تمثل تهديداً رئيسياً للاستقرار. لذلك، كان التقارب الألماني السوفياتي عام 1922 مثار قلق كبير وسيوفّر دافعاّ مركزياً في التحركات التي تلت ذلك لإعادة تأهيل ألمانيا وبالتالي فصلها عن المدار الروسي.
أما في الفصل المعنون باسم (معاهدة لوزان في الروايات المتنازع عليها للسياسة العالمية)، فيجادل جمال أيدين بأن الاحتفال بمعاهدة لوزان لعام 1923 في الرواية التاريخية التركية الرسمية جاء باعتباره الوثيقة التأسيسية للجمهورية الحديثة. ويُذكر بالمثل كأساس للإصلاحات الغربية الراديكالية والعلمانية بعد عام 1923، مثل إلغاء الخلافة وتغيير الأبجدية واعتماد قوانين سويل المدنية، ما خلق قطيعة مع ماضي تركيا الإمبراطوري والإسلامي لتمهيد الطريق أمام خلق دولة أوروبية حديثة. ومع ذلك، هناك العديد من التناقضات في أطروحة لوزان هذه على أنها قطيعة مع كل من الحالة الإسلاموية الشاملة وكذا المسألة الشرقية، إذ كان قادة حرب الاستقلال التركية، بما في ذلك كمال وعصمت، مرتاحين لاستخدام مناهضة الوحدة الإسلامية للإمبريالية في الأعوام العشرة التي سبقت لوزان. لقد دمجوا خطابهم الإسلامي مع تبنيهم لقانون دولي خالٍ من التحيز المسيحي تجاه المسلمين ودعواتٍ للاعتراف بالسيادة التركية. لم يكن وفد لوزان مختلفاً تماماً عن أسلافه العثمانيين. يمكن أن تساعدنا الدراسات الحديثة حول التاريخ العالمي للإمبراطورية والتحيّز العنصري للمسلمين والهوية الإسلامية العابرة للحدود الوطنية والقانون الدولي في فهم الروابط بين الروايات المتنافسة والمتشابكة بشأن لوزان. لماذا تبدو معاهدة لوزان مهمة جداً لكل من المؤيدين لعموم الإسلاميين وكذلك للنظريات الليبرالية ذات المركزية الأوروبية عن القومية والعلمانية؟ ستناقش هذه الورقة تناقض الروايات المتنافسة بخصوص معاهدة لوزان من خلال التركيز على طبيعة السرديات القومية الإسلامية، وتحديداً علاقتها التكافلية مع السرديات العثمانية الأوروبية المتمركزة بشأن تقوية الذات والإصلاحات الحضارية (الحديثة).
أما القسم الثاني، فحمل عنوان (الحضور الغائب)، وتضمن عدة دراسات مختلفة. ففي فصل (مناقشات حول الوطن القومي الأرمني في مؤتمر لوزان وحدود التعايش بعد الإبادة الجماعية)، تناقش ليرنا إيكمتشيوغلو الخطة الأرمينية وآثارها ولماذا فشلت. وتجادل ليرنا بأن المهمة الأرمنية كانت أشبه بمهمة خيال علمي، فقد ولد المشروعه ميتاً. وتقترح تدخلاً في تأريخ التبادل السكاني وإعادة تصور جذري لفك الاختلاط الإثني.
شارك في رئاسة الوفد الأرميني الموحد مياتسيال بادفيراجوتيون وغابرييل نورادونغيان، نيابة عن أرمن تركيا، وأواديس أهارونيان نيابة عن الأرمن الروس. واقترح إنشاء منطقة ذاتية الحكم ومنزوعة السلاح داخل آسيا الصغرى، أي الوطن القومي الأرمني، أو في جنوب أو شرق تركيا حيث يمكن للناجين من الإبادة الجماعية للأرمن العودة من أجل التجمع والحفاظ على ثقافتهم والشعور بالأمن والأمان. قابلت القوى العظمى خطتهم تلك بالرفض نتيجة رفض الوفد التركي القاطع لمثل هذا المشروع، إذ خشي الأتراك من أن يستخدم المشروع الأرمني كوسيلة للتدخل في الشؤون الداخلية لتركيا.
في الفصل المعنون (الاستبعاد العربي في لوزان: مفترق تاريخي حاسم)، تشرح إليزابيث إف تومبسون المسار السياسي الذي اتبعته المجموعات العربية المتنوعة بعد أكتوبر/تشرين الأول 1918. ففي لوزان، تمت مناقشة قضايا ذات أهمية كبيرة للعرب، لكن في غيابهم. وتخلص إلى أن استعادة لوزان في تاريخ العالم العربي الأوسع أمر ضروري، لأسبابٍ ليس أقلها أن أولئك الذين يعيشون في ظل الديكتاتوريات اليوم قد يستعيدون ذكرى النشطاء المدنيين الذين دافعوا عن الديمقراطية منذ أكثر من مائة عام.
ثار القوميون العرب ضد الأتراك وأيد البريطانيون حرب العرب من أجل دولة مستقلة وأرسلوا ضابط الاستخبارات ت. لورانس لينضم إلى الأمير فيصل قائد الجيش العربي. وفي أكتوبر/تشرين الأول 1918، دخل فيصل ولورنس والعرب إلى دمشق منتصرين، حيث أعلنوا حكومة دستورية في سوريا الكبرى المستقلة.
في مؤتمر باريس للسلام، حصل فيصل على دعم الرئيس وودرو ويلسون الذي أرسل لجنة أميركية إلى سوريا لاستطلاع التطلعات السياسية لشعبها. ومع ذلك، فإن قادة التحالف الآخرين في باريس – ولاحقاً في سان ريمو – خططوا ضد الدولة العربية وأُعلنوا الانتداب. وعلى الرغم من أن المؤتمر العربي السوري أعلن الاستقلال وتَوج فيصل ملكاً، إلا فرنسا وبريطانيا رفضتا الاعتراف بحكومة دمشق وفرضتا بدلاً من ذلك نظام انتدابٍ على المقاطعات العربية التابعة للإمبراطورية العثمانية المهزومة، بحجة أن العرب لم يكونوا مستعدين بعد للحكم الذاتي. في ظل هذا الانتداب، غزا الفرنسيون سوريا في أبريل/نيسان 1920 وسحقوا الحكومة العربية وأرسلوا فيصل وقادة المؤتمر إلى المنفى.
فيما حمل القسم الثالث عنوان (تقديم التنازلات)، وتضمن عدة دراسات التالية كالفصل المعنون (النفط فوق حقوق الأرمن: تحوّل لوزان في عشرينيات القرن الماضي والعلاقات الأمريكية مع الشرق الأوسط) لأندرو باتريك الذي يناقش في ورقته كيف أحدثت الحرب العظمى الطويلة في الأراضي العثمانية تحولاً عميقاً في علاقات الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط. وعلى الرغم من إقناع الرئيس ويلسون بالبقاء في سلام مع الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب، لم يستطع اللوبي الأميركي التبشيري المسيحي إقناع إدارة هاردينغ بدعم إنشاء دولة أرمينية في شرق الأناضول. أدت المصالح التجارية في البلدان والولايات الجديدة في المنطقة إلى إعطاء الأولوية للنهج التجاري في المنطقة الذي بقي عنصراً مهما في سياسة الولايات المتحدة إلى اليوم.
على الرغم من سعي الولايات المتحدة للحد من مشاركتها في مؤتمر لوزان، إلا أنها كانت حريصة أيضاً على حماية مصالحها السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط. بسبب نقص الوقود خلال الحرب العظمى والاستخدام المتزايد للسيارات، خشي العديد من الأميركيين «مجاعة البنزين» بعد الحرب، والتي أذكتها شركات النفط الأمريكية الكبرى كجزء من حرب النفط المتخيلة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كوسيلة للهرب من أخطبوط النفط البريطاني الذي زُعم أنه مصمم على السيطرة على إمدادات النفط في الولايات المتحدة. وينص المبدأ الأميركي على أنه لا ينبغي أن تتمتع أي قوة بمفردها بامتيازات اقتصادية خاصة، ما يرسم خطاً تحت نظام مناطق النفوذ قبل الحرب.
في لوزان، أعاد الأتراك إحياء امتياز السكك الحديدية والنفط الخام لعام 1910 الممنوح للأدميرال الأميركي المتقاعد كولبي ميتشل تشيستر. كان هذا بمثابة وسيلة لإغراء الوفد الأميركي بوضع النفط «امتياز تشيستر» قبل المخاوف الإنسانية (معاقبة مرتكبي الإبادة الجماعية، وإنشاء كيان قومي أرمني داخل الأناضول)، ما أدى إلى تأليب المراقبين الأميركيين في لوزان ضد حلفائهم البريطانيين والفرنسيين. بالنسبة إلى الأرمن أنفسهم، الشعب الذي عانى بالفعل بشدة، تحطمت الآمال المستثمرة في فكرة ويلسون لتقرير المصير ومستقبل أفضل داخل الحدود السخية للانتداب الأميركي الويلسوني.
أما في فصل (مشكلة الموصل: لوزان وما بعدها)، تناقش سارا شيلدز في أعمال اللجنة الخاصة بالموصل التي أرسلتها عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى. وتم تكليف اللجنة بتحديد ما إذا كان يجب أن تكون محافظة الموصل جزءاً من الجمهورية التركية الجديدة أو من عراق الانتداب البريطاني. كان المبدأ التوجيهي الرئيسي لها هو الفكرة الجديدة لحق تقرير المصير القومي. ومع ذلك، كان سكان الموصل، مثل الطوائف العثمانية الأخرى، ينتمون إلى مجموعاتٍ إثنية متعددة ويتم تحديدهم من خلال الأسرة والموقع والمهنة والعقيدة. كانت مثل هذه المفاهيم التعددية للهوية تتعارض مع نموذج الدولة القومية الذي كرسته عصبة الأمم مؤخراً. أثبتت الجهود المبذولة لتحديد الانتماءات على أساس التصنيف الأوروبي الذي أكد على الانتماء العرقي والأمة المتعارضة مع الانتماءات العثمانية القديمة للموصل، أنها مربكة في البداية ثم محبطة للغاية للمفوَّضين.
ينطوي القسم الرابع، الموسوم بـ(نقل الناس)، على عدة فصول تناقش سياسات التبادل السكاني، كالفصل الذي حمل عنوان (القانون الدولي والتبادل السكاني اليوناني البلغاري واليوناني التركي). وفيه، يجادل ليونارد ف. سميث كيف خدمت عمليات نقل السكان الحكومات عبر التاريخ كأداة لتحقيق الأهداف الأمنية القومية أو أهداف النظام. التبادلات السكانية هي حالة خاصة لمثل هذه التحويلات. هنا، تدخل الدول في اتفاقية حكومية دولية تقرر فيها الأطراف المتعاقدة نقلًا متبادلًا طوعياً أو غير طوعي للسكان. ربما تكون السابقة الأكثر أهمية لمثل هذا الإجراء هي التبادل السكاني اليوناني التركي المتفق عليه في لوزان عام 1923. تستذكر الورقة الحالية الأحداث التي أدت إلى الاتفاقية، والتي شرعت أساساً في كشف إحدى أكبر الكوارث الإنسانية في وقتها من أجل حل مشكلة الأقلية اليونانية التركية الشائكة مرة واحدة وإلى الأبد، بالاعتماد بشكل أساسي على بروتوكولات المؤتمر. والحقيقة، إن الطبيعة الإلزامية للتبادل تم فرضها بالإكراه، وضد رغبات الأقليات المتضررة وفي انتهاك واضح للنظام الدولي الناشئ لحقوق الإنسان.
وفي فصل (سلام رأسمالي؟ المال والعمل وإعادة توطين اللاجئين)، تناقش لورا روبسون كيف كانت الدوافع الإنسانية والرأسمالية متشابكة أثناء تطوير وتنفيذ سياسات اللجوء الدولية في عشرينيات القرن الماضي. في هذه المناقشة، تدرس روبسون كيف أتى فريدجوف نانسن لنشر الممارسات التي طورها أثناء إعادة أسرى الحرب إلى أوطانهم في السياقات المختلفة التي تخص الروس النازحين وتشكيل سياسة عصبة الأمم على اعتبار أنها أوجدت لنفسها دوراً يتمحور حول اللاجئين. أرست السندات التي أصدرها بنك إنكلترا والدولة اليونانية لتمويل توطين هؤلاء اليونان العثمانيين النازحين التبادل السكاني في لوزان حيث المبدأ القائل بأن رأس المال الخاص له دور يلعبه في هذا المشروع، والذي يُفهم على أنه تحويل النازحين إلى عمال منتجين.
في دول الانتداب في الشرق الأوسط، تم نشر النازحين كجنود وزمزارعين. حتى عندما تم اعتبار تبادل السكان نجاحاً، أدرك المسؤولون وراء الكواليس أوجه القصور العديدة فيه، بما في ذلك الطرق التي تم بها تطبيق هذا المنطق الذي اعتبر أن الدول القومية العرقية هي الأساس الوحيد لنظام حكم مستقر داخل نظام اقتصادي عالمي بطرق تحدت الأنظمة الإلزامية، لا سيما في فلسطين، «حيث تبنّى بعض الصهاينة فكرة التهجير القسري للفلسطينيين على غرار لوزان».
ويحاول القسم الخامس، (تأطير لوزان)، فهم المعاهدة على المستوى الشعبي والرسمي. ففي الفصل الذي يحمل عنوان (لوزان في التأريخ التركي الرسمي والشعبي: حرب الهويات في تركيا)، يناقش غوكان جتين سايا بعض الأفكار الأولية بخصوص الحجج المتضاربة حول مؤتمر ومعاهدة لوزان في التأريخ التركي الرسمي والشعبي. سيعرض في ورقته أمثلة التأريخ الشعبي حول هذا الموضوع يمكن فحصها من خلال الهويات الرئيسية للمجتمع التركي الحديث أو، في الواقع، ما يسميه «حرب الهويات». في هذا السياق، سيحاول بشكل خاص فهم حجج الكماليين والكماليين الجدد والمعادين للكمالية (القوميون الطورانيون – المحافظون / الإسلاميون) وأيضاً كيف تطوّرت القومية التركية في اتجاهاتٍ مختلفة في سياق الانحدار العثماني وتبلورت في مواجهة المؤسسات العثمانية والإسلام السني الذي اعتبرته مسؤولاً عن التخلف العثماني. ومع ذلك، نظراً للظروف الاستثنائية التي أدت إلى زوال الإمبراطورية العثمانية، أخفى القوميون الأتراك وجهات نظرهم عن الإسلام. فقط عندما أسس مصطفى كمال حكمه في منتصف عشرينيات القرن الماضي، تمكن من بدء مشروع شامل للعلمنة وبناء هوية وطنية تركية مقابل الإرث العثماني والإسلامي. لكن لم تكن هذه الحملة خالية من التناقضات، إذ ظل الإسلام السني معياراً فعلياً للتركية ضد المجتمعات غير المسلمة، حتى تلك التي من أصل تركي.
في قسم (الدبلوماسية والترفيه والذكرى؟ Guignol في لوزان ومؤتمر لوزان في الكاريكاتير)، تناقش جوليا سيكلهنر ما تضمنته مجلة «Guignol» من مجموعة رسوم كاريكاتورية كلاسيكية لأعضاء الوفود المختلفة الحاضرة في لوزان، بالإضافة إلى رسوم كاريكاتورية لمشاهد مفصلة لمناقشات محددة وشكل الحياة على هامش المؤتمر. ولم يقتصر دور «Guignol» على رسم كاريكاتوري للمندوبين الذين حضروا المؤتمر فحسب، بل صورت أيضاً تفاصيل المناقشات المحددة التي جرت، وهي اللحظات اليومية المغلقة للمؤتمر. تناولت الرسوم الكاريكاتورية الأحداث وردود فعل الممثلين بأسلوبٍ فكاهي ساخر. والألبوم نفسه هو سجل غير عادي لمؤتمر السلام. علاوة على ذلك، فإن الرسومات البسيطة والمبهجة والمؤثرة للفنانين جسدت أسلوبياً ديناميكيات الرسوم الكاريكاتورية السياسية في تلك الفترة.
بعد شعبية «Guignol à Lausanne»، أطلق الفريق مسيرة مهنية ناجحة كرسامي كاريكاتير في عصبة الأمم تضمنت نشر العديد من الألبومات الأخرى، بالإضافة إلى مساهماتٍ في المجلات والصحف الساخرة في جميع أنحاء أوروبا؛ فكانت فترة ذهبية للرسوم الكاريكاتورية السياسية في الأعوام التي أعقبت الحرب العالمية الأولى في عصر التطرف السياسي الذي تغذّى على الثقافة الجماهيرية. والحال، مثلت الرسوم الكاريكاتورية شكلاً من أشكال الفن الشعبي التي يمكن أن تنقل القضايا المعقدة والنقاشات السياسية إلى جمهورٍ واسع، كما أنها غدت لاحقاً موضوعاً للدراسة بين الفنانين والمحللين النفسيين والمؤرخين الثقافيين على حد سواء.
بالإضافة لما سبق، ضم الكتاب عدة فصول أخرى. على سبيل المثال، ذلك الذي يناقش (محاولات إيرانية للمشاركة في لوزان)، وكذلك (فصل تركيا وتقسيم الدين العثماني في لوزان). وفصل آخر يتناول التبادل السكاني بين تركيا واليونان بعنوان (عند مفترق طرق التاريخ وتبادل السكان اليوناني التركي). كما يتناول الفصل المعنون (تأطير الماضي والمستقبل في مؤتمر لوزان للسلام في الشرق الأدنى)، فرضية أن تكون لوزان الشكل القانوني المستقبلي لمنطقة شرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وختاماً، على الرغم من أن الكتاب يحتوي عدداً من الدراسات القيمة التي تتناول خفايا معاهدة لوزان وتقدّم تحليلاتٍ محكمة وأدوار الأطراف التي شاركت في المؤتمر وكذلك التي غابت عنها، إلا أن الكتاب يغفل نقطة مهمة في لوزان وما نجم عنه، وهي عدم ضمه لأي دراسةٍ منفصلة تتناول القضية الكردية قبل وأثناء وبعد لوزان، على أهمية هذه القضية التي ما تزال مستمرة منذ لحظة لوزان إلى يومنا هذا. إذ ألقت المعاهدة بنتائجها على مصائر مختلف الجماعات الإثنية/القومية في الشرق الأوسط، وحرمت الكرد على وجه الخصوص من حقهم في تقرير مصيرهم.