أثبت العام الماضي لحلف الناتو أن تركيا هي العضو الأكثر إرباكاً للحلف. بالنسبة لأعضاء «الناتو» الآخرين، وحّدت الحرب الروسية في أوكرانيا الحلف ضد عدوٍ مشترك ومهّدت الطريق لتوسيعه. ومع ذلك، فإن تركيا، وعلى الرغم من كونها عضواً فيه، حافظت على علاقاتٍ ودية مع روسيا، كما عرقلت انضمام السويد وفنلندا إليه.
في غضون ذلك، أشارت الحكومة التركية إلى أنها قد تبدأ غزواً برياً جديداً لشمال سوريا لمواجهة الكرد، حلفاء الولايات المتحدة، الذين يسيطرون على تلك المنطقة. وحتى مع قيام تركيا بإصلاح العلاقات المتوترة مع العديد من الدول في الشرق الأوسط، استمرت في علاقاتها المتوترة مع الاتحاد الأوروبي ووجهت تهديداتٍ جديدة إلى اليونان. كذلك وربما بشكلٍ غير متوقع وبعد أعوامٍ من السعي لتقويض النظام السوري، بدأت أنقرة تقارباً مع دمشق بوساطة روسية.
يواجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أصعب انتخابات في حياته السياسية في مايو/أيار المقبل، إذ أصبحت السياسة الخارجية وسيلةً فعالة لصرف انتباه الناخبين عن الأزمات الداخلية. بعد أعوامٍ من سوء الإدارة الاقتصادية، بلغ معدل التضخم في تركيا ذروته بنسبة 85 في المئة في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وانخفض إلى حدٍ ما إلى 64 في المئة في ديسمبر/كانون الأول. وتعتبر هذه النسبة أعلى معدل تضخمٍ في أوروبا. تتضاءل احتياطيات تركيا من العملات الأجنبية، وتواجه عجزاً متزايداً في الحساب الجاري، فيما يتزايد استياء الشعب التركي من وجود 3.6 مليون لاجئ سوري. يتزامن ذلك مع ضجر الشعب التركي من حكم أردوغان على نحوٍ استبدادي لمدة 20 عاماً. جيلٌ كامل لم يعرف أي قائدٍ آخر.
يوجّه أردوغان كامل اهتمامه نحو الانتخابات. فبعد عشرين عاماً من الحكم من دون منازعٍ إلى حدٍ كبير، ستترتب على الهزيمة تداعياتٍ خطيرة له ولعائلته وأعوانه والعديد من القادة في حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه والذين استفادوا شخصياً من حكمه ومن المحتمل أن يواجهوا المحاكمة. قد يشكل فوز المعارضة شكلاً من أشكال تغيير النظام، بالنظر إلى أن قادتها يدعمون استعادة النظام البرلماني في تركيا وتقليص السلطات الرئاسية. يشعر أردوغان بالضعف لدرجة أنه استخدم المحاكم لمحاولة منع مرشحٍ معارض منافس له، وهو عمدة اسطنبول أكرم إمام أوغلو، من الترشح، وهي خطوةٌ متطرفة يمكن أن تأتي بنتائج عكسية في نهاية المطاف.
تشير استطلاعات الرأي الحالية إلى أن أردوغان وحزب العدالة والتنمية قد يخسران الانتخابات. بالنسبة إلى أي زعيمٍ آخر، فإن مثل هذه المستويات من عدم الشعبية والضيق الاقتصادي قد تؤدي إلى هزيمةٍ مؤكدة. لكن أردوغان معروفٌ بإصراره وقدرته على الفوز بالانتخابات. ونظراً لمدى تعرضه للخطر، فمن المرجح أن يستخدم أي وسيلةٍ لتجنب الهزيمة. وبالتدقيق في تحركاته الأخيرة في السياسة الخارجية، فإن لديه أيضاً العديد من الأوراق للعبها، وقد يسعى إلى صنع أزمة، بما في ذلك مع الغرب، لقلب المزاج المحلي لصالحه. لذا، يجب أن تستعد أوروبا والولايات المتحدة لمثل هذا التطور لتقليل الضرر المحتمل إلى الحد الأدنى ويجب أن يكون لديهما استراتيجية لمواجهته.
خوف مرتقب
ما يقلق أردوغان، هو عدم القدرة على التنبؤ بالسياسات الداخلية في وقت الصدمات الجيوسياسية والصراع بين روسيا والغرب. تعتبر علاقات تركيا مع الجيران والحلفاء والمنافسين مفيدةً للتعويض عن أوجه القصور المحلية، وفي مقدمتها الحالة الكارثية للاقتصاد التركي. وعلى الرغم من أن سوق العمل قوي نسبياً، إلا أن ارتفاع معدل التضخم يرجع جزئياً إلى إصرار أردوغان على خفض أسعار الفائدة بدلاً من رفعها. وكما صرح وزير المالية التركي نور الدين النبطي، فإن التعايش مع التضخم أفضل من الركود الناجم عن زيادات المصرف المركزي التقليدية في أسعار الفائدة. هذا ما أطلق عليه النبطي «النموذج التركي»، والذي يدّعي، بأسلوبه الخرافي، أنه ليس ناجحاً على نطاقٍ واسع فحسب، بل إنه أيضاً موضع حسدٍ بقية العالم.
تشير سياسات المصرف المركزي غير الملتزمة إلى سيطرة أردوغان على المؤسسات المستقلة (بالاسم فقط). على مدى العقد الماضي عزز أردوغان سلطته من خلال تقويض أو القضاء على استقلال كل مؤسسةٍ تركية مهمة مثل الجامعات، الغالبية العظمى من وسائل الإعلام، الجيش، الحكومات المحلية، والأهم من ذلك القضاء الذي استخدمه كسلاحٍ ضد خصومه. والسجون التركية مليئة بالسياسيين المعارضين والصحافيين والأكاديميين وقادة المجتمع المدني، مثل عثمان كافالا وأي شخصٍ يعارض أردوغان. لم يعد هناك حتى مظهرٌ من مظاهر سيادة القانون.
على الرغم من جهوده لإلقاء اللوم في مشاكله الاقتصادية على جهاتٍ خارجية، غالباً الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، أصبحت يد أردوغان الممدودة في كل مفاصل الدولة سبباً لإلقاء اللوم عليه من قبل الشعب التركي في المشاكل التي تعاني منها البلاد. في الوقت نفسه، تزايدت الأخطاء في البلاد بعد أن أحاط أردوغان نفسه بمؤيدين مستعبدين بدلاً من صانعي السياسة المخضرمين.
لقد تحدى ائتلاف المعارضة المكون من ستة أحزاب التوقعات وتمكن من تقديم جبهة منضبطة نسبياً. من الناحية النظرية، ينبغي لقوتهم الموحّدة، والتي تُعتبر حالة جديدة في المشهد السياسي التركي المجزأ عادةً، أن تحظى بما يكفي من الناخبين لهزيمة أردوغان. في أواخر يناير/كانون الثاني، أطلقت المعارضة رؤيتها الموحدة، لكنها لم تتفق بعد على مرشحٍ رئاسي. يريد زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كيليجدار أوغلو، أكبر حزبٍ معارض، بشدة أن يكون المرشح. لكنه أضعف الطامحين، ومن المرجح أن يخسر أمام أردوغان، إذ يفتقد الكاريزما.
القضاء أداة جديدة
اتخذ أردوغان خطواتٍ لتهميش إمام أوغلو، وهو عضو في حزب الشعب الجمهوري. ووفقاً لاستطلاعات الرأي، هو واحد من اثنين من السياسيين المعارضين الجدد، والآخر هو رئيس بلدية أنقرة منصور يافاش، ممن بإمكانهما هزيمة أردوغان في انتخاباتٍ عامة. لكن في ديسمبر/كانون الأول، حُكم على إمام أوغلو بالسجن لأكثر من عامين بتهمٍ ملفقة تتعلق بـ«إهانة» المجلس الأعلى للانتخابات. ومن الملفت أن أردوغان يستخدم التكتيكات ذاتها التي استُخدمت لمحاولة منع صعوده إلى السلطة، إذ أُدين قبل عقدين من الزمان ومُنع من تولي منصبه عندما فاز حزبه في انتخابات عام 2002. على الرغم من معارضة الرئيس آنذاك، فتح تعاون حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري الطريق لتغيير الدستور لكي يصبح أردوغان عضواً في البرلمان ثم رئيساً للوزراء.
ستمنع إدانة إمام أوغلو، في حال تأكيدها من قبل محكمة محلية ثم محكمة الاستئناف العليا، من الترشح ضد أردوغان للرئاسة أو لمنصب رئيس البلدية الحالي في 2024. وللتأكد من عدم تمكن إمام أوغلو من الخروج من السجن، رفعت وزارة الداخلية قضيتين جنائيتين أخريين ضده، إحداهما بتهمة دعم الإرهاب. يأمل أردوغان من خلال القضاء على إمام أوغلو أن يُظهر كيليجدار أوغلو الذي يمكن التغلب عليه كمرشحٍ للمعارضة التي ليس لديها استراتيجية بديلة وتفضّل الخلاف على من تختار كمرشح.
بالإضافة إلى افتقاده لخصمٍ واضح، بدأ أردوغان موسم حملته الانتخابية بميزتين آخرتين. فهو يتحكم بشكلٍ كامل في الدولة ومواردها، والتي يمكنه استخدامها متى شاء لدعم إعادة انتخابه. وهو يهيمن بشكلٍ كامل على كل مفاصل الدولة. في الوقت الحالي، يحاول كسب الوقت والقيام بخطوات تخدمه تستنزف أساساً خزينة الدولة، إذ تنازل عن ديون حوالى خمسة ملايين مقترض تركي، وأصدر تعليماته إلى المصرف المركزي لتقديم ائتمانٍ إلى قطاعاتٍ مثل البناء يعتقد أنها ستساعده على تحقيق أهدافه بشكلٍ أفضل. ومع انهيار الليرة التركية، أدخلت الحكومة مخططاً للودائع يشجّع المدخرين على التحول من الدولار إلى الليرة من خلال الوعد بتعويضهم عن خسائرهم في العملات الأجنبية، ما يزيد العبء علىالحبوب ا الخزانة بشكلٍ كبير. ومنح أردوغان مؤخراً التقاعد المبكر لأكثر من مليوني مواطن.
تعتبر البلديات التي يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية قناةً مهمة لأردوغان لتوزيع الامتيازات وجعل السكان يعتمدون عليه. على النقيض من ذلك، في المدن الكبيرة التي لا يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية، تبذل الحكومة المركزية كل ما في وسعها لتقويض السلطات المحلية. يتضح هذا بشكلٍ خاص في اسطنبول التي يعيش فيها إمام أوغلو، والتي يبلغ عدد سكانها 20 مليون نسمة. في 2021-2022، على سبيل المثال، عمل أردوغان من دون تقديم أي تفسيرٍعلى قرارٍ يسمح لبلدية إسطنبول بالحصول على الأموال التي وافق عليها البرلمان الوطني لاستبدال أسطولها المتهالك من الحافلات العامة.
في الواقع، كما توضح محاكمة إمام أوغلو، يبقى القضاء أهم أداة لأردوغان الذي بدأ باستخدامه منذ عام 2013، وتسارعت وتيرته بعد الانقلاب الفاشل عام 2016، إذ سُجن آلاف الصحافيين والأكاديميين وأعضاء المعارضة الذين تجرأوا على التفوه بانتقاداتٍ تجاه الحكومة. وبات من الممكن أن يُسجن أي شخص بسبب عمله في مجلة أو بسبب تغريدة تم إرسالها منذ سنوات تم «إحياؤها» فجأة. في 2020 وحده ، فتحت الحكومة 31 ألف تحقيق في جريمة «إهانة الرئيس». منذ أن أصبح أردوغان رئيساً في 2014 ، تم إجراء 160 ألف تحقيق من هذا القبيل.
استهدفت الدولة بشكلٍ علني بعض الأحزاب السياسية، خاصةً حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للكرد. جاء هذا الحزب اليساري في المركز الثالث في انتخابات 2018، إذ حصل على ما يقرب من ستة ملايين صوتٍ يمثل 11.7 في المئة من إجمالي الأصوات المدلى بها. وفي حين أنه يجذب الناخبين التقدميين في جميع أنحاء البلاد، فإن الحزب يركّز في المقام الأول على مخاوف المواطنين الكرد في تركيا. على هذا النحو، وضعه أردوغان قيد أنظاره لأعوامٍ.
وضع صلاح الدين دميرتاش، الزعيم الكاريزمي لحزب الشعوب الديمقراطي، في السجن منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وتم إلغاء الحصانة البرلمانية للعديد من أعضائه البرلمانيين وسُجنوا بسبب «دعم الإرهاب»، وهي تهمةٌ عامة تفسّرها السلطات بحرية. وبالمثل، في يناير/كانون الثاني، جمّدت المحكمة الدستورية الأموال المقدمة من الدولة لحزب الشعوب الديمقراطي على أسسٍ زائفة بأن الحزب يدعم الإرهاب. تدرس المحكمة ما إذا كان سيتم حظر الحزب لأسبابٍ مماثلة. ورفضت المحكمة طلب الحزب تأجيل الحظر إلى ما بعد الانتخابات. وعلى الرغم من أن تحالف المعارضة لم يدعو حزب الشعوب الديمقراطي للانضمام إلى صفوفه، فإن أنصار الحزب سيصوتون ضد أردوغان. إن حظر حزب الشعوب الديمقراطي سيعني مزيداً من الارتباك ويضمن أن عدداً أقل من مؤيدي الحزب، أي ما يقرب من 10 في المئة من الناخبين، سيذهبون إلى صناديق الاقتراع. ومنذ عام 1993، تم إغلاق حوالى خمسة أحزاب مؤيدة للكرد.
استخدام السياسية الخارجية
من غير الواضح ما إذا كانت جهود أردوغان لضرب المعارضة ستنجح هذه المرة. وعلى الرغم من أن سيطرته الكاملة على المؤسسات التركية سمحت له بتغيير المشهد السياسي كما يشاء، إلا أن سعيه وراء السلطة جعله يرتكب أخطاءً كبيرة. على سبيل المثال حينما خسر حزب العدالة والتنمية الانتخابات البلدية في اسطنبول في 2019، تدخل أردوغان وأجبر الجميع على إعادة الانتخابات. إلا أن الناخبين أهانوه بإعادة انتخاب إمام أوغلو الفائز سابقاً بهامشٍ أكبر.
من السابق لأوانه تقييم رد الفعل الشعبي على إدانة إمام أوغلو والحظر المتوقع لحزب الشعوب الديمقراطي. قام إمام أوغلو أثناء انتظار عملية الاستئناف بجولةٍ في البلاد وخاطب حشوداً كبيرة. عندما تم حظر آخر حزب مؤيد للكرد في 2009، وهو إجراء عارضه أردوغان حينها، أدى ذلك إلى اضطراباتٍ شديدة. بالنظر إلى الفعالية غير المؤكدة لمثل هذه التكتيكات، قد يسعى أردوغان إلى حشد الدعم بوسائل أخرى، بما في ذلك السياسة الخارجية.
بالنسبة إلى رئيسٍ شعبوي سلطوي مثل أردوغان، تعمل السياسة الخارجية كأداةٍ مهمة للحفاظ على الذات. ساعد موقع تركيا المهم بين روسيا والشرق الأوسط والغرب على دعم دور تركيا في التوسط في الرفع الجزئي للحصار الروسي للموانئ الأوكرانية والسماح لشحنات الحبوب الأوكرانية بالوصول إلى الأسواق في العالم النامي، حيث بدأت مطالب من مساعديه بمنحه جائزة نوبل للسلام.
التزمت المعارضة السداسية الخط نفسه إزاء تصريحات أردوغان المتعلقة بالسياسة الخارجية الأخيرة، سواءً كانت بشأن منطقة بحر إيجة والبحر الأبيض المتوسط أو الولايات المتحدة وسوريا والكرد. ولم تطعن أحزاب المعارضة في تحوله الأخير في العلاقات مع دول الشرق الأوسط مثل مصر وإسرائيل والسعودية والإمارات أو علاقاته الدافئة بروسيا. كذلك، تفاوضت أنقرة على صفقاتٍ مقايضة بقيمة 28 مليار دولار مع الصين وقطر وكوريا الجنوبية والإمارات لتعزيز احتياطيات النقد الأجنبي. استضاف أردوغان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بعدما اتهمه في وقتٍ سابق بالأمر بقتل الصحافي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول، مقابل وديعة بقيمة 5 مليارات دولار في المصرف المركزي التركي، فيما وصف الخبير الاقتصادي تيموثي آش ذلك بـ«الاستسلام غير المشروط».
في تناقضٍ صارخ مع مقاربته لروسيا والسعودية والإمارات، يميل أردوغان إلى أن يكون أكثر عدوانيةً مع حلفائه الغربيين. لذلك، لا يفوت أبداً أي فرصةٍ لإلقاء اللوم عليهم في جميع المشاكل التي تعاني منها البلاد، من حالة الاقتصاد إلى انقلاب 2016، والذي ادعى أن الولايات المتحدة متورطة فيه.
في غضون ذلك، وضع أردوغان الأساس لتحركاتٍ تركية محتملة على عدة جبهاتٍ أخرى. تنافست تركيا واليونان على مر الأعوام على قضايا مثل المياه الإقليمية ووضع جزر بحر إيجة واكتشافات الغاز. وهدد أردوغان اليونان مرتين مؤخراً، قائلاً: «يمكننا أن نأتي فجأةً ذات ليلة» و«اليونان تخشى صواريخنا»، وجدد تهديده ببدء غزوٍ بري ضد حلفاء واشنطن الكرد في سوريا.
براغماتية غير مسبوقة
أظهرت سياساته بشأن أوكرانيا وروسيا البراغماتية التي يتمتع بها. فمع سعيه لنيل المديحٍ على صفقة الحبوب الأوكرانية ولتوفيره طائراتٍ من دون طيار لأوكرانيا أثبتت فعاليتها في ساحة المعركة، ساعد موسكو، بغض النظر عن التحذيرات الأميركية، على التهرب من العقوبات الغربية وتخفيف أضرارها على الاقتصاد الروسي. من المسلّم به أن العلاقات الروسية- التركية معقّدة ومتشابكة على مستوياتٍ عديدة. لكن تساعد هذه التحركات لمساعدة بوتين الرئيس التركي أيضاً. فتدفق الروبل على الخزائن التركية، سواءً من التجارة التي تلتف على العقوبات أو من خلال السياح الروس، يساعد أردوغان في النهاية على دعم الليرة وتمويل واردات الطاقة من روسيا.
أتاحت العطاءات الرسمية التي قدمتها السويد وفنلندا للانضمام إلى حلف الناتو لأردوغان فرصةً لاستعراض عضلاته لانتزاع التنازلات من كلا البلدين مقابل الدعم التركي ولإظهار موقفه المتشدد ضد الغرب للجمهور المحلي. في يناير/كانون الثاني، استغل أردوغان حرق المصحف أمام السفارة التركية في ستوكهولم من قبل متعصبٍ سويدي يميني لرفع مستوى منسوب معارضته للسويد، مهدداً بأنه لن يوافق أبداً على انضمامها إلى الحلف. أدركت السويد وفنلندا أنه سينتظر حتى ما بعد الانتخابات التركية قبل الإقدام على أي خطوةٍ. لكن تكتيكات أردوغان المتشددة أدت بالفعل إلى نتائج عكسية، إذ رفضت السويد تسليم «الإرهابيين الـ 120» الذين طالب بهم. كما أوضح مجلس الشيوخ الأميركي أنه إذا لم توافق تركيا على انضمامهما، لن يتم السماح بمبيعات الأسلحة إلى تركيا، وتحديداً طائرات F-16.
على عكس سياسته الداخلية، تقدّم سياسة أردوغان الخارجية نفسها على أنها مساومة ومحنّكة في ذات الوقت. وبحكم أن الانتخابات المقبلة ليست عادية، فإن احتمال افتعال أزمةٍ خارجية لتجنب الخسارة سيكون كبيراً. سيصرف أردوغان الانتباه عن المشاكل الداخلية ويهمّش المعارضة الهشة، على غرار ما حدث في 2017 عند شراء صواريخ S-400 الروسية، على الرغم من التحذيرات الصارمة المتكررة من واشنطن. وعلى الرغم من أنه لم يفلت من العقاب جرّاء شراء الصواريخ الروسية، إلا أن هذا لن يمنعه من إعادة التجربة في المستقبل، ليس فقط لأن المخاطر عالية للغاية، ولكن لأن تركيا خالية من عملية صنع القرار المؤسسي الرسمي، إذ أن أردوغان هو صاحب القرار الوحيد.
في مواجهة احتمالية اندفاع أردوغان بشكلٍ متزايد مع اقتراب الانتخابات، تحتاج الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى البدء في الاستعداد لما هو غير متوقع من تركيا. ومن بين تحركات أردوغان المحتملة، مواجهة «عرضية» وإن كانت طفيفة مع اليونان في منطقة بحر إيجة والبحر الأبيض المتوسط ومواجهة مع الولايات المتحدة في شمال سوريا، أو بشكلٍ أكثر دراماتيكية: تغيير الوضع الراهن في الجزء التركي من قبرص. فيما يتعلق بقبرص، يمكن أن يتحرك أردوغان لفتح ضاحية فاروشا السياحية للمستثمرين، والتي تعود عقاراتها إلى القبارصة اليونانيين الذين شردهم الجيش التركي الغازي في عام 1974، وهي خطوة تحظرها قرارات الأمم المتحدة. لقد كانت القيادة القبرصية التركية المتشددة تلمّح بالفعل إلى هذا الاحتمال. ويمكنه أيضاً أن يعد بأنه، بمجرد إعادة انتخابه، سيعمل على إجراء استفتاءٍ على استقلال الجانب التركي من الجزيرة.
هناك عاملٌ آخر غير ظاهرٍ في المعادلة وهو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. سعى أردوغان في عددٍ من المناسبات للحصول على ضوءٍ أخضر من الرئيس الروسي لتنفيذ عملياتٍ كبيرة في سوريا ضد الكرد، لكن بوتين لم يوافق. اليوم، توجد شكوكٌ حول تورط روسيا في حوادث حرق القرآن الأخيرة، كما ألمح وزارة الخارجية الفنلندية، ما يعني أن موسكو قد تقرر تحريك الغطاء من خلال إعطاء تركيا الضوء الأخضر في سوريا.
لدى أيٍ من هذه التحركات القدرة على إثارة أزماتٍ أكثر حدة في التحالف الأميركي- التركي والعلاقات التركية الأوروبية وداخل حلف الناتو. لكن العلاقات الأميركية- التركية معقّدة وواسعة النطاق. تعمل الحكومتان بشكلٍ يومي وعلى نطاقٍ واسع مع بعضهما البعض على جميع المستويات. بقدر ما قد تحتاج واشنطن إلى تركيا، فإن أنقرة تعتمد بشكلٍ أكبر على الولايات المتحدة. يجب على واشنطن أن تتعامل مع أردوغان بشكلٍ مباشر، متجاوزةً المحاورين مثل وزير الخارجية الذي لا يتمتع بنفوذ يذكر. أردوغان مجازف، لكنه سيجد صعوبة في تجاهل رسالةٍ واضحة من الولايات المتحدة تحدد العواقب التي قد يواجهها إذا اختار القيام بمواجهة.
المصدر:فورين بوليسي