دولة أم سلطة فصائلية في سوريا؟

طارق عزيزة
يطيب لمؤيدي السلطة الانتقالية في سوريا الحديث عنها بصيغة «الدولة فعلت»، «الدولة وعدت»، و«الدولة عملت»، على نحو ما كان مؤيدو النظام البائد من قبلهم يماهون بين السلطة والدولة كأنهما شيء واحد. لكن الوقائع تؤكّد غلبة الحالة الفصائلية وغياب الدولة حتى الآن.
المسألة لا تتعلّق بـ«حوادث أمنية» فقط، فهذا يحصل حتى في الدول المستقرة والمتقدمة، وإنما غموض آليات اتخاذ القرارات، وحدود السلطات وعلاقاتها فيما بينها. ولعلّ ما جرى الشهر الفائت في حلب بين رئيس قسم شرطة وقاضٍ على رأس عمله، يكثّف فكرة غياب الدولة، حين تطوّر تلاسن بينهما إلى التعدّي على القاضي بالضرب وتوقيفه وتعذيبه ثم الإفراج عنه. أصدرت وزارة العدل بياناً رسمياً قالت فيه إن وزير العدل «تواصل شخصياً مع وزير الداخلية، الذي استنكر الحادثة بشدة ووجّه بالإسراع في اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة»، فجرى توقيف ضابط الشرطة. رغم ذلك، أُطلِقَ سراح الضابط بعد ساعات بضغط عشائري، وخرج محمولاً على الأكتاف وسط صيحات التكبير والنصر، ونشرَ تسجيلاً مصوّراً قال فيه إن القاضي سامحه وانتهى الموضوع. فإذا كان للقاضي المتضرّر التنازل عن حقه الشخصي، ماذا عن الحق العام وسيادة القانون واستقلال القضاء وحصانته؟ وأين «الدولة» في هذا كلّه؟
كانت سلطة الأسد الأمنية تُخضِع مؤسسات الدولة لخدمة النظام لا الشعب، على حساب المصلحة العامة. فالأصل وجود دولة، تغوّل النظام الأمني المستبد وسيطر على هياكلها وتآكلت تدريجياً بعد الثورة وتخلخلت أركان النظام، فتراجع دورها وحضورها لصالح ميليشياته وحلفائه، وصولاً إلى انهيار ما تبقى منها لحظة فرار الأسد. سارعت هيئة تحرير الشام إلى ملء الفراغ وفرضت سلطتها من موقع الجماعة التي قادت آخر المعارك ضد النظام وتمتلك أدواتها الأمنية والإدارية والاقتصادية، مستعينةً بقادة بعض الفصائل الحليفة. لكنها فعلت ذلك بعقلية الفصيل المتغلّب، مدعومةً بإرادات إقليمية ودولية، رأت فيها وفي زعيمها خياراً انتقالياً ملائماً.
لم تبسط السلطة الجديدة سيطرتها على كامل التراب السوري. وما زالت هناك مناطق نفوذ مليشياوية. وبالتالي، تواجه سوريا، كغيرها من الدول الخارجة من نزاعات مديدة، مشكلة الفصائل المسلّحة التي نشأت في سياق الحرب وشكّلت بنى موازية سيطرت على مساحات جغرافية ومجتمعات محلية وموارد اقتصادية ونازعت الدولةَ سلطتَها ووظائفها العامة. ساعد في «ازدهار» الحالة الفصائلية هشاشة الدولة واضمحلال شرعيتها بعد الفظائع التي ارتكبتها قوات النظام، ثم تفاقم التدخلات والاحتلالات الخارجية.
استمرّت الحالة الفصائلية بعد سقوط النظام، إذ لم تفلح محاولات السلطة الانتقالية دمج الفصائل في وزارة الدفاع وأجهزة الأمن الجديدة في الحد من فوضى السلاح ومعالجة هشاشة الوضع الأمني. فخارج أطرها الرسمية وفي مناطق سيطرتها، ثمّة جماعات مسلحة «غير منضبطة»، بعضها سوري وبعضها متعدد الجنسيات، ستصبح جزءاً من الجيش. وهي رغم تأييدها للسلطة ومؤازرتها في «النفير العام»، لا يكترث عناصرها لسيادة «الدولة الجديدة» ولا لقوات أمنها، فيبطشون بالسوريين المدنيين خارج نطاق القانون. وهذا وضع لا يستقيم مع فكرة «الدولة» مطلقاً، لكن يمكن لسلطةً فصائلية التعايش معه ضمن معادلات المصالح وميزان القوى أو بسبب التوافق الأيديولوجي.
في ظل السلطة الفصائلية، تصبح هياكل الدولة واجهة شكلية، ويُصاغ القرار الفعلي في الدوائر القريبة من زعيم الجماعة المتغلّبة. وفي المحصلة، تتراجع كفاءة الحكم والإدارة وشفافيتهما وتتقوّض أسس الدولة مع ازدياد تغلغل الفصائل فيها، لا سيما المتطرفة منها. قد تتمكن فصائل «عادية» من الانخراط في صفقات وتسويات وتلقي سلاحها وتخضع لمركزية السلطة وهرميتها وتلتزم بسياساتها. لكنّه  أمر صعب على نظيراتها المتطرفة أسيرة العقيدة الصلبة، مما يجعلها أكثر عنفاً وعدائية وأشدّ استعصاءً على الاحتواء وأكثر قدرة على الاستقطاب حين تمزج الديني بالسياسي. وعلى هذا النحو، من المرجح أن دمجها في مؤسسات الدولة لن يجدي نفعاً، لأنّ الجماعات المتطرفة لا ترى في الدولة سوى وسيلة تعينها على قوننة عنفها المقدس وفرْضِ النمط المتشدّد الذي تريد.
وإذ تتداخل مرجعيات عناصر السلطة الفصائلية ما بين الجماعة والمؤسسة الرسمية، في الأمن والقضاء والبيروقراطية الإدارية، تصبح الدولة كياناً هجيناً مشوهاً يفتقر إلى أدنى معايير الحوكمة الحديثة، لا سيما وأنّهم تولّوا مواقعهم لثقة القيادة بولائهم لا بخبراتهم ومؤهلاتهم. وسينعكس الأمر تالياً على الاقتصاد. فالنهج الفصائلي يضعف بيئة الاستثمار والتنمية ويتيح استشراء الفساد والابتزاز، فتتراجع فرص النهوض الاقتصادي وإعادة الإعمار.
أظهرت السلطة الانتقالية في سوريا حرصاً شديداً على اعتراف الخارج، وأصابت نجاحاً كبيراً في تحقيقه. لكن حالة القبول الدولي ومنح الفرص والوقت والدعم قد تتراجع تدريجياً مع استمرار غياب الدولة المزمن. فتحقيق الأمن والاستقرار والتنمية واستعادة الدولة، بهياكلها وآليات عملها القانونية، عملية معقّدة تقتضي كفّ السلطة عن نهجها الفصائلي، سواء في بنيتها وعلاقاتها الداخلية أم في معالجتها الملفات المتراكمة. ومن دون ذلك، ستبقى سوريا غارقة في الفشل، وتتغلب الفوضى على مشروع الدولة. فهل تملك فصائل دينية مسلّحة القدرة على الانتقال ببلد أنهكته الحرب من الانهيار والفوضى وتفتّت السلطة إلى النهوض والاستقرار وسيادة الدولة؟

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد