حسين جمو
ترسم سيرة الاحتجاجات الحالية ضد النظام الإيراني حكايةً تاريخية متكررة. فالهتاف الأول، خرج من منطقة شرق كردستان ، إذ أن أقوى الثورات على النظام المتمركز تاريخياً في الهضبة الإيرانية (الريّ في العصر العباسي ثم أصفهان وطهران)، تأتي من سلسلة زاغروس الجبلية المأهولة بالكرد من أدناها إلى أقصاها. لكنها أيضاً ثورات، غالباً، لا تصل مبتغاها في نهاية الأمر. بمعنى، أنها لا تنجح في إسقاط النظام أو الانفصال عنه، منذ معركة قلعة دمدم مطلع القرن السابع عشر التي انتهت بإبادة جماعية لقوات أميرخان لبزيرين (ذو الكف الذهبية). ذلك أنه من دون أن تكون هناك قناة اتصال ثورية بين السلسلة الجبلية (الكرد) والهضبة (الفرس)، فلا أمثلة في التاريخ عن إمكانية إسقاط النظام بطريقة انقلابية – شعبية، مع استثناء تاريخي هو إسقاط الحكم الصفوي من الخارج على أيدي الأفغان عام 1720 بمشاركة كردية فاعلة من الداخل.
لدى العودة إلى مجريات الثورة الدستورية الطويلة والمرهقة بين عامي 1905–1911، نعثر على أنقى مثال على أهمية تحقق هذه الصلة. فمن دون دور فرسان البختيارية اللور، سكان الجهة الشرقية لزاغروس، وبالدرجة الثانية فرسان تبريز، ما كان بالإمكان تثبيت الدستور عام 1906 ولا خلع الشاه محمد علي القاجاري في 1909. وانقسم الكرد مذهبياً إلى حدٍ كبير خلال الثورة الدستورية. وفي مفارقة تحتاج إلى مزيدٍ من التقصي والبحث، أصدر الشيخ علاء الدين النقشبندي، من بلدة طويلة، فتوىً في العام 1909 بتحريم الانضمام إلى الدستوريين. وكان لهذه الفتوى صدى واسعاً في أماكن انتشار الطريقة النقشبندية في كردستان إيران.
وتمهيداً لتقديم مقاربة تاريخية في تشكل إيران الحديثة، وصولاً إلى الانتفاضة الحالية وأدوار الكرد في هذه التحولات، سلباً وإيجاباً، لا غنى عن إلقاء نظرة أولاً على الجذور الثقافية لفكرة «الأمة الإيرانية» الحديثة.
ساسان وآل البيت
أدى الابتكار المذهبي في ربط آل البيت بالسلالة الساسانية من جهة الأم شهربانو، ابنة يزدكورد، آخر ملك ساساني، إلى إحداث صلة بين عهدين، عربي وإيراني- إسلامي وزرادشتي. وعليه، حتى لو أن الحظ لم يحالف بعض السلالات، مثل القاجاريين، في إيجاد صلةٍ لهم بآل البيت، فإن هذا المسار نجح في إلحاق «آل البيت» بالساسانيين باعتبار أن الأئمة، بدءاً من رابعهم علي زين العابدين، من أحفاد الساسانيين جهة الأم. وكان هذا الربط مثالياً للسلالة الصفوية الكردية أساساً، التي ابتكرت لها نسباً هاشمياً بهيئة إمبراطورية ساسانية. ومثل ذلك في حديث غير موثوق منسوب للإمام جعفر الصادق برواية المعلى بن خنيس عن عظمة يوم النوروز. ويزخر التراث العربي المبكّر بأحاديث ومرويات ترفع من شأن الفرس والثقافة الفارسية. وجاهر بعضٌ من تابعي المسلمين الأوائل «الصحابة»، مثل سعيد ابن المسيب، بالقول: «لو لم أكن رجلاً من قريش لأحببت أن أكون من أهل فارس أو أصبهان». وفي رواية أخرى يقول: «لو تمنيت أن أكون من أهل بلدٍ لتمنيت أن أكون من أهل أصبهان». (أبي الشيخ الأنصاري- طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها – الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع- ج ١ – ص 39).
حين فرض الصفويون المذهب الشيعي الإثني عشري في إيران، لم تكن هناك طبقةٌ من الفقهاء المحليين الأقوياء لتنظيم المذهب الجديد في الحياة العامة، فتمّ سد النقص من خلال استدعاء علماء شيعة من جبل عامل والبحرين والإحساء، أي من خط التشيع العربي. فبدأ هؤلاء حركة ترجمةٍ واسعة لأمهات الكتب من العربية إلى الفارسية. ولاحظ معدّا كتاب «نشوء وسقوط الدولة الصفوية»، كمال السيّد وعباس الموسوي، هذه الظاهرة التي بقيت نشطة إلى حين تسلم الأسرة البهلوية الحكم عام 1925، لتبدأ حينها حقبة بعث التاريخ الساساني وتنقية الفارسية من العربية. ( ص 94).
التشيع والأدب الملحمي
خلال اتساع دور رجال الدين، ظهر الشعر الديني المرادف للمذهب الشيعي. وأزيح بذلك الشعر الملحمي الفارسي من مكانه من دون أن يختفي كليّةً، بفضل احتضان بلاط المغول في دلهي لهذا النوع الأدبي. إلا أن مجهود القراءة العامة في إيران توجه إلى المؤلفات الجديدة المترجمة من العربية لعلماء جبل عامل والبحرين الذين ربما أنقذوا – بشكلٍ غير مخطط – اللغة الفارسية من الانحطاط. فالشيخ علي الكركي، «نائب الإمام» ومرشد الشاه طهماسب، نجح في منع التصوف القزلباشي من ابتلاع المذهب الشيعي. وفي الوقت نفسه، أدى هذا – بشكلٍ غير مباشر – إلى تكريس الفارسية لغةً للدين، بعد أن لوحظ في أدبيات تلك الفترة تقدم التركية الشفاهية التي باتت لغة الهرطقة الدينية للقزلباش. وهكذا، وعلى الرغم من تشوه الفارسية خلال الحقبة الصفوية، إلا أن التركية الحاكمة أزيحت تماماً من فرصة أن تكون لغة الكتابة في إيران. وبتأليف الكتاب الضخم «بحار الأنوار» للعلامة محمد باقر المجلسي، في صدر العصر الصفوي، تمت ترجمة التراث الشيعي بأكمله من العربية إلى الفارسية، إذ تألف من 110 مجلدات. أما نسخته الحالية، فهي 38 مجلداً. المؤلفات الدينية كتبت بالفارسية تنفيذاً لأمرٍ ملكي أصدره الشاه عباس الثاني (1642- 1666). إذ كتب والد المجلسي، محمد تقي الدين، كتابه «من لا يحضره الفقيه»، «استجابةً لرغبة الشاه الذي أكد على ضرورة أن تكون لغة الكتاب هي الفارسية لأنها لغة معظم أفراد المجتمع الإيراني» (عباس الموسوي وكمال السيد – نشوء وسقوط الصفوية – ص 215).
قبل اكتساب الفارسية وظيفتها المذهبية كلغة للتراث الشيعي غير العربي، كانت التركية قد شقّت طريقها إلى القصور الحاكمة، ليس فقط نحو ذوي الأصول التركية، بل حتى حاكم كردستان الأردلاني، أمان الله خان، ومنصبه الرسمي والي سنه، كان يتحدث بالتركية مع الضيوف الذين يتقنونها. ويروي الرحالة البريطاني كلاوديوس ريج خلال لقائه الأمير الكردي عام 1820 كيف أنه بادر بالتحدث بالتركية التي أصبحت «لغة الطبقة الراقية الآن في إيران» (رحلة ريج – الدار العربية للموسوعات– ص 235)
في الحقبة القاجارية، أصيب الشاه ناصر الدين شاه، بهوس السفر إلى أوروبا، وانعكس ذلك على وجهة التعليم أيضاً. ففي عهده، تم تنشيط البعثات الطلابية إلى الدول الأوروبية. وعبر هؤلاء الطلاب الذين عادوا إلى بلاد فارس، نشأت بواكير دعوة فارسية وطنية جرّاء احتكاكهم بالأساتذة الأوربيين الذين كانوا يبجّلون الثقافة الفارسية القديمة والعباسية، إلى حدٍ كبير، وارتقت هذه الطبقة الطلابية إلى قيادة الحركة السياسية في إيران ضد الحكم القاجاري لاحقاً. وحين بدأت حركة الصحافة في إيران، عززت اللغة الفارسية موقعها في أعلى هرم الثقافة من دون منازع، وتدهورت اللغات الإيرانية غير المركزية ولم تجد طريقها إلى التدوين الحديث إلا بصعوبة وبشكل غير معترف به، مثل الكردية والبلوشية.
قبل وصول الأسرة البهلوية إلى الحكم، ظهرت بوادر صحوة إيرانية في ظل تدهور المعيشة؛ إذ منح الشاه المهووس بأوروبا بحجة العلاج الطبي، مظفر الدين القاجاري، شركةً بريطانية امتياز الحصول على كل إنتاج التبغ الإيراني. فظهرت بوادر اضطرابات من أصحاب مزارع التبغ، خاصةً في مناطق لورستان والبختيارية والكهكلوية، إلى أن تم إلغاء الامتياز في احتجاجات تحالف فيها التجار مع الطبقة الدينية. وفي عام 1906، لقي تاجرٌ إيراني يبلغ 79 عاماً حتفه تحت التعذيب بسبب اتهامات احتكاره السكر، فخرجت احتجاجات قادها المثقفون وطبقة التجار، وقدموا عريضة من المطالب وافق عليها الشاه. في ذلك الاحتجاج، هتفت الحشود «لتحيا الأمة الإيرانية». وكانت المرة الأولى التي يظهر فيها هذا الهتاف في شوارع طهران (إيران 1900، 1980 – مجموعة مؤلفين – مؤسسة الأبحاث العربية – ط1، 1980 – ص 50).
مساهمة قاجارية
وعلى الرغم من أن القاجار شيعة على المذهب الاثني عشري، إلا أن الاحتجاجات اتخذت طابعاً دينياً تجاههم، فظهرت تشبيهات لا خطّ رجعة فيها، تمثلت في ربط القاجار بيزيد بن معاوية (إيران -مؤسسة الأبحاث العربية – ص 51)، لتظهر بذلك التباشير الأولى لوضع التشيّع تحت قيادة فارسية مناوئة للسلالات ذات الأصول غير الإيرانية. إلا أن القاجارية، رغم ذلك، لها فضل في تعزيز الدمج بين آلب البيت وملوك إيران القديمة، فقد أحيت، طيلة القرن التاسع عشر، الثقافة الفارسية الكلاسيكية بعد عقودٍ من التهميش في عهد نادر شاه وكريم خان زند في القرن الثامن عشر. «وقد رعوا القراءات العامة للشاهنامة، وسمّوا أبناءهم على أسماء أبطال الفردوسي، مثل كامران، باهمان، أردشير، جهانكير. وأقاموا روابط نسبٍ بينهم وبين البارثيين القدامى. وقد احتفلوا بعيد النيروز بالألعاب النارية. وزيّنوا قصورهم بزخارف أخمينية وساسانية. وعمدوا إلى تصميم راية جديدة تحمل الأسد والشمس. وأعلنوا أن هذه الراية هي الحد الفاصل بين الخير والشر منذ أيام زرادشت. وقد ارتجلوا على الراية القديمة بوضع سيف علي بن أبي طالب (ذو الفقار) في قبضة الأسد. وعلى الرغم من معارضة بعض رجال الدين لرمزي الأسد والشمس، فقد أصبحت الراية رمزاً قومياً، متميزة بوضوح عن الهلال العثماني». (أروند إبراهيميان – تاريخ إيران الحديثة – ص 38).
وفي أواخر القرن العشرين، تميز انبعاث الثقافة الإيرانية في ظل السلطة المتهالكة والاستبدادية واللامسؤولة للسلالة القاجارية، بمركزية البطولة التاريخية في شخصية رستم بن زال. وهي ملاحظة ملفتة يتوقف عندها المؤرخ البريطاني وأستاذ اللغة الفارسية «آن لامبتون – Ann Lambton» الذي ألّف كتاب «ملاّك الأراضي والفلاحون في إيران – 1953». ففي الجزء الأول من كتاب الشرق الأوسط الحديث الذي أعده ألبرت حوراني وآخرون، كتب لامبتون فصلاً بعنوان «التغير الاجتماعي في إيران في القرن التاسع عشر»، جاء فيه:
«كانت ذكرى الإمبراطورية الفارسية القديمة تعيش في أشعار الفردوسي مع أن التفاصيل كانت قد بهت لونها ولكن الأسطورة تظل منتصرة عبر التاريخ. إن الشعور بأن يكون المرء إيرانياً ظل حياً، بقوة، بفضل التراث الأدبي الذي عبّرت عنه اللغة الفارسية وأخذ ينتشر في المجتمع الإيراني، لكن التشديد على الثقافة أكثر منه على القومية وتلك الذكرى والشعور (بأننا إيرانيون) لم يقد أسساً ملائمة للقومية بمعناها الحديث فلم يكن هناك ذاكرة واضحة ومحددة لحكومة مشتركة أو جيدة..» (الشرق الأوسط الحديث- الجزء الأول – ص 213)، وهذا ما يقدم تفسيراً آخر لاعتدال النزعة الفارسية في الثورة الدستورية الطويلة بين 1905 – 1911، على عكس «الانقلاب الاتحادي» في إسطنبول على السلطان عبدالحميد الثاني، الذي نفذّته مجموعة من الضباط بحماسٍ اجتماعي فاتر وحرج. فلم تحمل جماعة الاتحاد والترقي إرثاً ثقافياً تاريخياً ممتداً، ولم يعثر قادتها ومنظروها على بطلٍ تاريخي رمزي لـ«الأمة التركية». وحين حاول بعضهم، استنسخوا بخجلٍ الاستنتاجات الغريبة – في وقتها – للبروفسور اليهودي في جامعة السوربون ديفيد ليو كاهون (David Léon Cahun) (1841-1900) الذي أثّرت أفكاره بخصوص التاريخ والقومية التركية بشكلٍ كبير على تشكل مفهوم «الأمة التركية» العنصرية لدى جماعة الاتحاد والترقي. وقدم كاهون قراءةً تاريخية صادمة حتى للقوميين العثمانيين، أمثال نامق كمال، معتبراً أن المغول بناة أهم امبراطورية تركية في التاريخ، وجنكيز خان (التركي) أعظم قائدٍ في التاريخ. (Uğur Ümit Üngör, Young Turk social engineering – p:315).
وعلى العكس من المثال التركي، لم تكن الثقافة القائدة للتمرد على آخر سلالة امبراطورية تقليدية حاكمة (القاجارية) متمحورة حول العنصر الفارسي. وهذا العنصر عموماً غير شائع حتى عبر التاريخ، أي التمركز حول الاثنية الفارسية. بل أقرب ما يكون إلى بدعةٍ استشراقية غربية متأخرة، وخطأ تدويني – أو ربما تلاعب – بلغ ذروته في العصر العباسي حين تم اختصار إيرانشهر من أفغانستان إلى كردستان بمقاطعة «فارس». على أن ملاحظة لامبتون الملفتة بشأن دور البطولة في الشاهنامة لأبي القاسم الفردوسي في إحياء التقاليد الإيرانية القديمة، تشي بمعجزة ثقافية استثنائية وهي تعظيم شعوب إيران قاطبةً لشيءٍ أعمق من الإسلام في التاريخ. ولم تسمح شحنة البطولة الكامنة في إيران القديمة بأن يتم نسخها بالدين الجديد. ويسهم هذا الجانب في اعتدال غلواء التطرف في النزعة الفارسية الحديثة المتشيعة، إذ أنه بطل كل الإيرانيين. وقد يتحول تخصيص رستم بالأمة الفارسية إلى نقطة ضعف وخروجاً عن المألوف الإسلامي، وكان هذا الإشكال سائداً في حقبة الأسرة البهلوية الحديثة والأكثر تطرفاً فارسياً من لاحقتها، الثورة الإسلامية، فالأخيرة رعت إعادة تعظيم بطولة «آل البيت» لكن من دون إلغاء أبطال ما قبل الإسلام. فكان هناك توفيق بين أبطال الشاهنامة الفارسية وعلي بن أبي طالب ثم الحسين بن علي، حتى في الصفات الأسطورية، لدرجة أن شخصيات الحقبتين خضعت لمزج أدبي عبر القرون في تركيب الصفات البطولية الواحدة.
رستم في «رسائل النور»
يتردد اسم رستم بن زال في الأدبيات الكردية مطلع القرن العشرين على نحوٍ أخف، لكنه حاضر. في وقائع ثورة آرارات بين أعوام 927 – 1930، ردد الجنرال إحسان نوري باشا الاسم عدة مرات وهو يشحذ همم مقاتليه ضد القوات التركية. لكن في كل الأحوال، تختلف البطولة في الثقافة الكردية عنها في الفارسية، إذ أن أبطال الكرد متعددون، وليس هناك بطل مركزي عموماً. وإن وجد، فإنه لا يطغى على الأبطال التاريخيين للعشائر المحلية. وبالتالي، يناسب البطل الكردي حالة اللامركزية، على عكس البطولة الفارسية شديدة المركزية والتي لا تتكرر إلا كل بضع مئات من السنين. وفي حالة رستم، هي غير قابلة للتكرار.
تنبّه الشيخ سعيد الكردي (النورسي) إلى هذه الخاصية «السلبية» في شخصية البطل الإيراني، وذكر ملاحظةً في غاية الحذق والعمق في «صيقل الإسلام» من كليات رسائل النور، وهو جزء معظمه خطبٌ من جولته في كردستان بين عامي 1909 – 1911 لإقناع العشائر بفوائد الدستور. وتحت عنوان «المقدمة الرابعة»، تحدث النورسي عن مثالب الشهرة وكيف أنها «تملّك الإنسان ما لا يملك»:
«فإن شئت فانظر إلى صورة رستم بن زال المعنوية، الذي نما في خيال العجم، ترى العجب العجاب. فإنه لما اشتهر بالشجاعة اغتصب مفاخر الإيرانيين وأغار عليها بقوة الشهرة، وبحكم الاستبداد الذي لم يتخلص منه الإيرانيون قط. وهكذا ضُخّمت تلك الشخصية واستعظمت في الخيالات. ولما كان الكذب يردفه كذب ويسوق إليه، استلزمت هذه الشجاعة الخارقة للعادة عمراً خارقاً، وقامة خارقة، وما يكتنفهما من لوازمهما.. حتى تجسم ذلك الخيال في الذهن وهو يصرخ: (أنا نوع منحصر في شخص، لا من أبناء البشر بل ككائنٌ خرافي يدور في حكايات الناس ويتقدم الخرافات فاتحاً الطريق إلى أمثاله». (ص 35).
لقد استوعب النورسي على نحوٍ مثير للإعجاب ذلك النوع من الشخصيات الأسطورية الذي يفتح الباب أمام الاستبداد. لكنه مع ذلك، لم يستبعد رستم بن زال من أمثلته، فذكره في أكثر من موضوعٍ كدلالةٍ ضمن «القواد الدهاة» إلى جانب صلاح الدين الأيوبي والسلطان سليم وخير الدين بارباروس (ص 433).
يفيد مثال رستم في فهم كيفية لعب التراث التاريخي، في منعطفاتٍ معينة، دوراً في كراهية السيطرة الأجنبية. وأفاد هذا النفور، المتزامن مع إعادة بعث الأساطير الإيرانية على أيدي طبقة المثقفين الذين أرسلهم الشاه ناصر الدين قاجار للدراسة في الدول الأوروبية، الطبقة الدينية الأصولية وتجّار البازار الإيراني الذين أفلسوا تحت وطأة الإعفاءات الجمركية على السلع المستوردة. فنشأ في النهاية التقاء مصالح فئات متنافرة في الأصل من أجل الإطاحة بالقاجاريين، الضعفاء أمام «رستم»، وأمام الهيمنة البريطانية والروسية المتزايدة.