اللقاء الأفغاني -الكردي في احتلال أصفهان (1-2)

حسين جمو

حين قطع الرحالة المغربي ابن بطوطة (توفي عام 1377) بلاد خراسان، نزل في قرية اسمها “كابُل” وذكرها بإيجاز: “وكانت فيما سلف مدينة عظيمة، وبها الآن قرية يسكنها طائفة من الأعاجم يقال لهم الأفغان”. حينها لم يكن اسم الأفغان يطلق سوى على قسم من قبائل البشتون، ثم اتسعت دلالة الاسم وأصبحت تشمل كل أقسام هذا التحالف القبلي الكبير، وهو تطور شبيه بتطور دلالة “الكرد” التي اتسعت تدريجياً لتشمل كل الكرد الحاليين. ومع تعدد الروايات الأسطورية حول أصول الأفغان، من أقباط مصر وأسباط بني إسرائيل ومهاجرة أغوار الشام وأرمن شيروان وألبان أذربيجان، قلّل العلامة جمال الدين الأفغاني (1838 – 1897) في كتابه “تتمة البيان في تاريخ الأفغان” من جدية هذه الروايات، وانتهى إلى القول: “والحق أن هذه الأمة من أصل إيراني وأن لسانها مأخوذ من لسان «زندواستا» وهو اللسان الفارسي القديم، وله مشابهة تامة بالفارسية المستعملة الآن”. ومن بين روايات دلالة اسم “الأفغان” ينتهي جمال الدين، وهو الضليع في لغات المنطقة ولهجاتها المتقاربة، إلى ترجيح تفسير الاسم بواقعة غزو قام به الملك الآشوري “بخت نصر” وتعرض سكان هذه البلاد للأسر، فكان لهم أنين وحنين في مسيرة السبي، والأنين يسمى بالفارسية “أفغان”. على أنّ الأنين له معنى أعمق في الكردية، ويرد ذكر كلمة “أفغان” في قصيدة لملا جزيري، أشهر شعراء التصوف الكردي، والمتوفي سنة 1640، وتأتي الكلمة مقترنة بصوت البلبل.

وأفغانستان هي قلب بلاد آريانا القديمة، وآريانا أقدم اسم لتلك البلاد، وكانت تشمل أيضاً مناطق الانتشار القبلي الآري غرباً، من فارس وحتى ميديا، إلا أن المنطقة التي احتفظت باسم آريانا هي أفغانستان الحالية. بعد آريانا أطلق عليها اسم خراسان منذ القرن الثالث الميلادي، ثم أفغانستان في العصور الوسطى.  

إن الموطن الأصلي للأفغان هو جبال سليمان، الممتد بين أفغانستان وباكستان، وهي سلسلة جبلية شبيهة، من حيث طبيعة الاجتماع البشري عليها، بسلسلة زاغروس الجبلية المأهولة بالكرد في معظم امتداداتها. وهذه الطبيعة أورثت المكانين خصائص متشابهة، من حيث العزلة الحضارية التي تمتد أحياناً قروناً عديدة، وكذلك في ضعف تأثير المدن على التكوين الاجتماعي. غير أنّ بلاد الأفغان اشتهرت بخصلة خبيثة في الطبقات الحاكمة، وهي ذبح الأشقاء بعضهم البعض، في الصراع على الحكم، بتكرار مستمر، خاصة خلال القرون الثلاثة السابقة على القرن العشرين، وورثت هذه البلاد من حكام بلاد إيران عادة سمل عيون الأشقاء المهزومين إذا ما تم الإبقاء على حياتهم، وانتشرت هذه العقوبة على نحو فاحش في فترة تملّك نادر شاه معظم مساحة آريانا القديمة، أفغانستان وفارس والقسم الشرقي من كردستان وأذربيجان، ولم يتروع عن قلع عيني ولده البكر حين شك في تآمره، وهي الواقعة التي هزّته نفسياً بقية حياته.

رغم أن اللغة الدرية، وهي الفارسية الأفغانية – الطاجيكية، هي الغالبة على البلاد، واللغة الوسيطة بين الأقوام، فإن مغامرات التوسع الخارجي قادها البشتون، بهويتهم المحلية، وأبرزها محاولتان في القرن الثامن عشر، الأولى باتجاه إيران، والثانية باتجاه الهند.

المغامرة الأفغانية الأولى، وهي موضوع هذه السطور، بدأت سنة 1722 وحتى مطلع 1730، وتزعمها، على التوالي، قائدان أفغانيان من قبيلة الغلزائي، أو “غلجي” بلغة البشتو، وهي من أكبر مكونات تحالف البشتون. في هذه المغامرة تلاقى الكرد والأفغان للمرة الأولى وفق التاريخ المدوّن. كان هناك بعض التلاقي الذي يمكن وصفه بـ”غير المركزي” في فترات متعددة بين الجناح الآخر القوي من البشتون، وهي القبيلة الأبدالية (المعربة إلى العبدلية)، وبين كرد خراسان في أقصى شمال شرق إيران، ولا توجد الكثير من الوقائع السردية عن طبيعة العلاقة في تلك الجهات، إلا أن الأبداليين كثيراً ما غزوا تلك الأنحاء واصطدموا مع الحاميات العسكرية الإيرانية. وفي فترة نشأة نادر شاه، حاكم إيران بعد الصفويين، اضطربت منطقة خراسان بسبب تنازع القوى فيها، حيث تتمركز في هذه المنطقة الاستراتيجية قبائل كردية وأفشارية وأوزبكية، وفي هذه البيئة نشأة نادر شاه، وكان الكرد جيرانه المباشرون في مدينة خابشان (تسمى الآن قوشان).

في الوقائع التي جمعها مايكل أكسورثي في كتابه “سيف فارس”، يتطرق عدة مرات إلى العداء المستحكم بين أكراد خراسان ونادر. وقد تحالف الكرد هناك مع خصم نادر، المدعو “مالك محمود السيستاني” الذي كسب مكانة أكبر من نادر في تلك الأنحاء، ليس لدهائه فقط، بل لانتسابه إلى الملوك الكيانيين (الأخمينيين). وقد دعمه زعماء القبائل الكردية ليصك عملة خاصة تحمل اسمه في مدينة مشهد. ما كان بإمكان نادر شاه أن يتخلص منه سوى بضربة سيف من الخلف في رحلة صيد، فكان ذلك، وقتل السيستاني، فوقع أكراد خراسان تحت سطوة نادر شاه، فصاروا عوناً للبشتون الأبدال المتمركزين بالقرب من مدينة هرات.

لم يكن نادر شاه القائد الوحيد الذي يفكر في حكم بلاد إيران، والسيطرة على قلب هذه الدولة – الأمة التاريخية، وهي الهضبة الإيرانية ومقاطعة فارس.

تعد فكرة غزو الأفغان لكرسي الملك الإيراني، وما يمكن وصفه بالعاصمة الاتحادية للشعوب الآرية الآسيوية ذات اللهجات المتقاربة، وهي أصفهان، إلى داهية من دهاة البشتون، بالمفهوم القبلي، وقائد لامسؤول وطائفي، بالمفهوم الاجتماعي، ويدعى “مير ويس” فقد قاد تمرداً صغيراً على مبعوث الشاه حسين الصفوي (توفي الشاه عام 1722)، فتمّ اعتقاله وإرساله إلى سجن في أصفهان. تتقاطع الروايات الخاصة بهذا الحدث جميعاً حول محورية السجن في إلهام “مير ويس” بفكرة غزو كرسي المُلْك الإيراني، فهناك تعرّف على هشاشة الدولة، وأدرك أنها قابلة للسقوط بهجوم من أطراف الدولة الصفوية باتجاه مركزها، أي الزحف من قندهار إلى أصفهان، ليس لغرض التحرر من الحكم الصفوي الشيعي الذي كان يبغضه الأفغان السنّة، بل لطموح لم يراود أياً من نظرائه الأفغان، وهو وراثة الحكم الصفوي نفسه. عقد هذا الأمير الأفغاني علاقات في أصفهان، وأتاح له مركزه القبلي أن يتخذ السجن مكتباً للعلاقات العامة، وتواصل مع الشاه حسين، وأطلق سراحه. كان أول خطوة احتاجها الأمير الأفغاني الحصول على فتاوى لتكفير الشيعة والدولة الصفوية، فاتجه إلى الحجاز، ومكث هناك شهوراً وحصل على ما يريد، إلا أن المنيّة عاجلته، وتوفي قبل ان يشرع في تنفيذ مخططه الطموح. فورثه ابنه الأكبر، محمود خان، بعد أن ذبح عمّه لإزاحته من طريقه، فكان الطريق معبداً لجحافل الغلزائية صوب كرسي المُلْك. واستقر المشهد في أفغانستان على مركزين للحكم، الأبدال في هرات، والغلزائي في الجنوب، وحمل زعيم الغلزائي لقب “شاه قندهار”.

قبيل الغزو الأفغاني، كانت الاضطرابات قد أنهكت الدولة الصفوية، والتمردات في كل زاويا من زوايا هذا الكيان السياسي الواسع، وكان من سوء حظ الدولة أن جناحيها الشرقي والغربي، أفغانستان وكردستان، تقدما باتجاه المركز كفاتحين. المحاولة الكردية التي لا يذكرها التاريخ الكردي نفسه، بحدود العام 1720، يذكرها جمال الدين الأفغاني، ضمن الوقائع التي لفتت نظر “شاه قندهار” للتقدم صوب أصفهان. وجاء ذكر الحادثة لدى الأفغاني كما يلي: “وفي أثناء هذه الفتن، هجم الأكراد السُّنِّيون للنهب والإغارة على بلاد إيران، وتوغلوا فيها حتى وصلوا إلى جدران أصفهان، كرسي المملكة..”. لم يكن هذا الهجوم الكردي سياسياً، على ما يبدو، وإلا كانوا قد اجتاحوا العاصمة نفسها.

لاحقاً يلتقي هؤلاء الكرد مع الاحتلال الأفغاني لأصفهان، ومن الواضح أن الأفغان المتقدمين صوب أصفهان، على علّاتهم المرتبطة بضعف التمدن، كما سيتبين في تجربتهم الإدارية الكارثية، كانوا أكثر تحضراً في السياسة من أبناء عمومتهم في الطرف الآخر، الذين وصفهم جمال الدين بـ”الأكراد السنيون” الذين كانوا في جوار أصفهان طيلة تاريخهم، ولم يحاولوا حتى ذلك التاريخ التحرك نحوها لوراثة “كرسي البلاد الإيرانية” في مراحل تصدع المُلك.  

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد