تجارب الانتقال السياسي في العالم.. هل من خصوصية سورية؟!

محمد سيد رصاص 
هناك نماذج انتقال سياسي مختلفة حول العالم منذ عقود طويلة، وخاصة في دول مرت بأزمات. ومنها:
1- انتقال ناجح عبر اتفاق بعد حرب أهلية: لبنان بين 1989-1990، أنغولا بين 1991-2006، موزامبيق في 1992، وكمبوديا بين 1992-1993. وفي الحالات الثلاث الأخيرة، كان الانتقال من خلال اتفاق بين الحكومة وحركات تمرد مسلحة برعاية دولية، بينما في لبنان كان هناك توافق بين دول خارجية (الولايات المتحدة، السعودية، سوريا) على إنهاء الحرب الأهلية، وهو ما ترجم لبنانياً في اتفاق الطائف. وعندما عارضه رئيس الحكومة العسكرية العماد ميشال عون، تم إبعاده من قصر بعبدا بالقوة العسكرية السورية. في كمبوديا، حدث الانتقال من خلال إدارة دولية لخمسة عشر شهراً قادت الانتقال حتى الانتخابات. في أنغولا، ظل الانتقال متعثراً لخمسة عشر عاماً بعد اتفاق الحركة الشعبية الحاكمة وحركة «يونيتا» في الجنوب، ثم وضع على سكة التنفيذ منذ عام 2006.
2- انتقال بعد ديكتاتورية عسكرية: اليونان في 1974، اسبانيا 1975، البرازيل في 1985، كوريا الجنوبية في 1987، وتشيلي في 1989. في اليونان والأرجنتين، حصل الانتقال بعد هزيمة عسكرية للسلطة الحاكمة (الأرجنتين) أو انتكاسة لمخطط خارجي للسلطة الحاكمة (اليونان). وفي كوريا الجنوبية، تم بعد ثورة شعبية. أما في البرازيل وتشيلي، فحصل بعد اتفاق بين القوى السياسية المدنية والسلطة العسكرية الحاكمة.
3- فشل الانتقال إلى الحكم المدني التعددي: الجزائر بين 1989-1992، ميانمار بين 1990-2021، مصر بين 2011-2013، وتونس بين 2011-2021.
4- انتقال سياسي من حكم فردي إلى مدني تعددي قاد إلى حكومات متوازية أو أدى إلى فشل إقامة حكومة واحدة للبلد: ليبيا بين 2011-2021، اليمن بين 2011-2015، والسودان بين 2019-2025.
5- انتقال سياسي ناجح من حكم فردي أو حكم الحزب الواحد نحو الديموقراطية: بولندا في 1989، ألمانيا الشرقية في 1989، تشيكوسلوفاكيا في 1989، ثم جرى تقسيم ودي للبلد إلى تشيكيا وسلوفاكيا عام 1993، المجر في 1989، رومانيا في 1989، بلغاريا في 1990، وألبانيا في 1992.
6- انتقال سياسي سلمي نحو تشكل دول جديدة انبثق عن انفراط دولة واحدة (الاتحاد السوفياتي): وقعت اتفاقيات في الشهر الأخير من عام 1991 بدأت من الجمهوريات المؤسسة للاتحاد السوفياتي: روسيا الاتحادية، أوكرانيا، بيلاروسيا، ثم انضمت لها ثماني دول هي: أرمينيا، أذربيجان، كازاخستان، أوزبكستان، تركمانستان، طاجيكستان، قرغيزستان، ومولدافيا. ووقعت جميع الدول الـ11 على اتفاق التفكيك ضمن الحدود الجغرافية القائمة بينها لحظة التوقيع، بينما فضلت جورجيا الإعلان الأحادي للانفصال عن الاتحاد السوفياتي، فيما اعتبرت جمهوريات البلطيق الثلاث: ليتوانيا ولاتفيا واستونيا أن ضم جوزيف ستالين لها كان غير شرعي وأنها استعادت لحظة 1940 التي كان استقلالها قائماً خلالها. نجح هذا الانتقال في توليد دول جديدة ولكنه قاد لاحقاً إلى حروب بينية: أذربيجان وأرمينيا بين 1993-1994و2020-2023، والحرب الروسية- الجورجية في 2008، واحتلال روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، ثم الحرب الروسية-الأوكرانية منذ 2022. كما أن جمهوريات سوفياتية سابقة شهدت تمردات عسكرية قومية مثل التمردات الشيشانية في الاتحاد الروسي بين 1994-1996 و1999-2000، وتمرد إقليم دونباس، وغالبية سكانه من الروس، على سلطة العاصمة الأوكرانية كييف بين 2014-2025.
7- انتقال سياسي عنيف نحو تشكل دول جديدة بعد انفراط دولة واحدة (الاتحاد اليوغسلافي): في عام 1991، تم الإعلان من طرف واحد عن استقلال كرواتيا وسلوفينيا عن الاتحاد اليوغسلافي، وهو ما أنتج حرباً صربية- كرواتية 1991-1995، ثم انفصلت جمهورية البوسنة والهرسك عام 1992، ما أدى إلى حرب ثلاثية صربية – كرواتية- بوسنية انتهت باتفاق دايتون في 1995، حيث اعترفت صربيا باستقلال كرواتيا والبوسنة. وهناك أيضاً، نموذج إقليم كوسوفو، ذو الغالبية الألبانية، الذي أعلن في 2008 الاستقلال عن صربيا، وهو ما تبعه اعتراف الولايات المتحدة وغالبية دول الاتحاد الأوروبي بالدولة الجديدة، ولكن دخولها للأمم المتحدة ظل يصطدم بالفيتو الروسي. في عام 2008، تفكك اتحاد صربيا- مونتينغرو (الجبل الأسود) بعد اتحاد استغرق خمس سنوات.
8- انتقال سياسي ناجح بعد حرب أهلية أنتجت غالباً ومغلوب: رواندا في 1994.
9- انتقال سياسي مضطرب بعد حرب أهلية أعقبه اتفاق المتحاربين: بوروندي بين 2004-2025. بدأ الانتقال في ظل وجود قوات حفظ سلام دولية من الأمم المتحدة مع اتفاق الأطراف المتحاربة من قبيلتي التوتسي والهوتو على المشاركة في السلطة بعد الاستفتاء على دستور جديد.
10- انتقال سياسي ناجح بين نظام أقلية عرقية حاكمة وحزب معارض: في مايو/أيار 1994 في جنوب إفريقيا. بدأ الانتقال بعد اتفاق 1993 بين رئيس دولة جنوب إفريقيا فريدريك دي كليرك ورئيس حزب المؤتمر الوطني الإفريقي نيلسون مانديلا على إنهاء نظام التمييز العنصري، أعقبه انتخابات فاز فيها حزب المؤتمر وأصبح على إثرها مانديلا رئيساً ودي كليرك نائباً له حتى عام 1996.

نظرة عامة

يمكن القول إن تفكك الاتحاد السوفياتي منذ ثلث قرن رسم الملامح العامة للوحة العالمية كما رسمت الثورة البلشفية اللوحة العامة للقرن العشرين. ولكن يمكن القول أيضاً إن اختلال التوازن الدولي لصالح الولايات المتحدة بعد طرح الرئيس رونالد ريغان «حرب النجوم» عام 1983، والتي كسرت حالة «الفناء المتبادل» التي بني عليها توازن الحرب الباردة، ترجم في العلاقات الدولية لغير صالح الكرملين وحلفائه، خاصة بعد تخلي الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف في قمة واشنطن بالشهر الأخير من عام 1987 عن شرط موسكو بربط تفكيك الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى السوفياتية المصوبة إلى المدن والعواصم الأوروبية الغربية بتخلي واشنطن عن «حرب النجوم». وكان هذا الشرط محور السياسة السوفياتية لأربع سنوات. ففي عام 1988، بدأت ترجمات هذا الاختلال في التوازن الدولي تظهر في اتفاقيات تخص نقاط ساخنة في الحرب الباردة، مثل اتفاق انسحاب القوات السوفياتية من أفغانستان الذي لم يتضمن بنوداً تتعلق باتفاق الحكومة الموالية لموسكو مع المعارضة الإسلامية، ما ترك الحكومة الشيوعية المحلية وحيدة قبل أن تنهار في 1992. ويمكن القول هنا إن مسارعة حكام اليمن الجنوبي الماركسيين لعقد اتفاق الوحدة مع صنعاء في نوفمبر/تشرين الثاني 1989 كان أيضاً إحدى هذه الترجمات، أعقبه حرب الشمال- الجنوب بين مايو/أيار ويوليو/تموز 1994 والتي انتهت بانتصار عسكري للشماليين. ولكن العاقبة الأكبر كانت في فقدان الشيوعيين السلطة بانهيار أنظمة حلف وارسو في أوروبا الشرقية والوسطى في صيف وخريف 1989 قبل تفكك الاتحاد السوفياتي في 1991، ما قاد إلى نشوء دول جديدة، وهو أثّر على نموذج يوغسلافيا تيتو الاتحادية التي انهارت بين 1991 و1992.
من جهة مقابلة، يلاحظ بأن الولايات المتحدة التي دعمت أنظمة ديكتاتورية عسكرية في الحرب الباردة، كما في تشيلي مع الجنرال أوغستو بينوشيه عام 1973 ضد الحكم اليساري للرئيس سلفادور أليندي، ضغطت بعد زوال الخطر اليساري من أجل انتقال ديمقراطي نحو حكم مدني تعددي، وهو ما حصل عام 1989 رغم بقاء بينوشيه قائداً للجيش. وفي هذا الصدد، يمكن أن يكون رفع الغطاء الغربي عن نظام التمييز العنصري في دولة جنوب إفريقيا، والذي كان حليفاً للغرب الأميركي- الأوروبي ضد أنظمة يسارية مدعومة من موسكو وهافانا مثل أنغولا وموزامبيق، ساهم في إدراك الرئيس الجنوب افريقي دي كليرك للاتجاه الجديد للريح بعد انتهاء الحرب الباردة، الأمر الذي دفعه لعقد الاتفاق مع مانديلا عام 1993. وهو نفس الأمر الذي دفع اليساريين في أنغولا وموزامبيق إلى عقد اتفاقيات مصالحة مع الحركات المعارضة المسلحة. وتبقى التجربة الكمبودية متفردة، حيث تولت سلطة الأمم المتحدة الانتقالية في كمبوديا إدارة المرحلة الانتقالية لخمسة عشر شهراً بين 1992 و1993 بعد عقد اتفاقيات باريس في أكتوبر/تشرين الاول 1991. وانتهت مهمتها بإجراء انتخابات لجمعية تأسيسية وضعت دستوراً، وكانت برئاسة ياباني، مع قائد لقواتها المسلحة من أستراليا وآخر هولندي للشرطة، إضافة إلى إداريين أجانب من دول متعددة.
أيضاً، كانت هناك عوامل أخرى للانتقال السياسي، مثل هزيمة النظم العسكرية، كما في الأرجنتين بعد الهزيمة  في حرب جزر الفوكلاند مع بريطانيا عام 1982، ما قاد لانهيار الحكم العسكري في العام التالي. وكذلك بعد فشل الانقلاب العسكري للقبارصة اليونانيين في صيف 1974 الذين أرادوا دمج قبرص مع اليونان، ما دفع تركيا إلى التدخل عسكرياً وتقسيم الجزيرة، ليتنحى العسكر في أثينا على إثر ذلك إثر فشل مغامرتهم الانقلابية القبرصية التي خططوا لها ونفذتها قوات الحرس الوطني ضد الرئيس المنتخب المطران مكاريوس. ومن جهة ثانية، نجد أن قوة المعارضة السياسية المدنية أدت في حالات أخرى إلى تنحي العسكر عن السلطة، كما في البرازيل عام 1985 وكوريا الجنوبية في 1987. وتبقى تجربة رواندا لافتة للنظر بعد انتصار التوتسي على الهوتو إثر حرب أهلية راح ضحيتها مئات الآلاف، مع انتهاج الرئيس بول كاغامي سياسة المصالحة ليؤسس لاستقرار سياسي ونمو اقتصادي ونفوذ إقليمي مدعوم أميركياً، خاصةً في شرق الكونغو الغني بالمعادن النادرة، مثل الكوبالت الأساسي لبطاريات السيارات الكهربائية، حيث تدعم رواندا التوتسي ضد سلطة العاصمة كنشاسا. لم تنجح هذه التجربة في بوروندي بين التوتسي والهوتو، بل وقعت اضطرابات أعقبها اتفاق بين المتحاربين على مبدأ لا غالب ولا مغلوب على نسق اتفاق الطائف في لبنان عام 1989.
في سوريا، كان توجه هيئة التنسيق الوطنية في مؤتمر حلبون في 17 سبتمبر/أيلول 2011 أن يكون هناك انتقال سياسي جامع بين السلطة والمعارضة، وهو ما رفضه بشار الأسد والمجلس الوطني السوري الذي أعلن عنه في إسطنبول بعد ذلك بنحو أسبوعين، وشاركت الفصائل الإسلامية المسلحة كذلك في رفض التوجه. تبنت الجامعة العربية الحل الانتقالي التشاركي بين السلطة والمعارضة في مبادرة 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 ثم تبنته القوى الدولية الكبرى عبر بيان جنيف في 30 يونيو/حزيران 2012 والقرار الدولي 2254 في ديسمبر/كانون الأول 2015. تجمّد النزاع السوري المسلح بعد سقوط الأحياء الشرقية في مدينة حلب في ديسمبر/كانون الأول 2016 وما أعقب ذلك من إطلاق مسار أستانا في مناطق خفض التصعيد الأربع، ليتكرس في اتفاق مارس/آذار 2020 بين موسكو وأنقرة. كان سقوط النظام السوري أواخر العام الماضي ناتجاً عن عوامل دولية وإقليمية متمثلة في ضعف حليفه الروسي بعد حرب أوكرانيا وهزيمة حليفه الإيراني في حربي غزة ولبنان. واستغلت واشنطن، بمساعدة أنقرة ورضا الرياض، الأمر من أجل احداث توازن شرق أوسطي جديد عبر تغيير في دمشق ضد إيران، التي تعتبر سوريا جسر محورها وقلبه، قبيل مفاوضات مرتقبة بينها وبين واشنطن حول البرنامج النووي الإيراني ولكي تخلق توازناً عالمياً جديداً يضعف روسيا في المكان الوحيد المتوفر لها في المياه الدافئة في قاعدتي حميميم وطرطوس، قبيل المفاوضات الأميركية- الروسية بشأن الملف الأوكراني. كما أن هذا التغيير الدمشقي يفتح الطريق نحو حلف ناتو شرق أوسطي لا تكتمل مقوماته بدون العاصمة السورية، ويفتح الطريق لمشاريع أنابيب طاقة في الغاز والنفط عبر البر، وليس البحر كما في مشروع الممر الهندي، يصبح فيها الشرق الأوسط بديلاً عن روسيا، أو المزود الرئيسي للطاقة إلى القارة الأوروبية. ومشاريع الطاقة تلك، ومعها حلف الناتو الشرق أوسطي، شرطهما اتفاقيات سلام بين إسرائيل وسوريا ولبنان والسعودية. أي أن سقوط الأسد ليس ناتجاً عن حراك داخلي سوري محض، بل جاء جرّاء انتقال الموقف الأميركي تجاه إيران من  التعايش الإرضائي زمن باراك أوباما إلى التحجيم الإقليمي في مرحلة ما بعد عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ضد إسرائيل، والتي أتت بعد أربعة أسابيع من توقيع اتفاقية الممر الهندي التي تنص على أنه يمر بالنقب نحو عسقلان- حيفا، التي باتت غير آمنة بسبب حرب غزة التي عنت أن طهران قادرة على إفشال المشروع الذي استبعدها حتى لو كان الرئيس الأميركي أول الموقعين عليه. يضاف إلى ذلك، نهج واشنطن الجديد فيما يخص الملف الأوكراني والذي يميل نحو الحل التفاوضي مع موسكو، وهو ما يتطلب أميركياً إضعاف الروس قبل الجلوس على طاولة المفاوضات، وسوريا نقطة ضعف روسية ربما اضطرت موسكو لمقايضتها من أجل أوكرانيا عبر المساعدة في تسهيل إسقاط نظام الأسد بعد أن أدرك بوتين صعوبة استمراره إثر فقدانه حلب وحماة . وهنا، يجب ملاحظة أن الانشطار الجغرافي السوري الذي كان قائماً قبل سقوط النظام، ما زال قائماً بصورته القديمة مع تعديلات قليلة، وأن تأكيد بيان مجلس الأمن في 14 مارس/آذار الماضي على «عملية انتقال سياسي شاملة.. تستند إلى المبادىء المرسومة في القرار 2254» يوحي بأن الحل الانتقالي نحو سوريا مستقرة وموحدة، و الأمر الأخير هو المطلوب دولياً، سيكون محكوماً بالتوافق الداخلي بين مكونات المشهد السوري السياسية والعسكرية والاجتماعية تحت الرعاية الدولية، وليس بالغلبة، إذ أن التوازنات الداخلية القائمة في مرحلة ما بعد الأسد لا تسمح بغلبة أحد.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد