حسين جمو
توحي توجيهات وزارة الدفاع الأميركية بمغادرة عائلات الجنود الأميركيين والموظفين غير الأساسيين عدداً من دول الشرق الأوسط بحرب قريبة جديدة. قد لا تظهر النتيجة بعد أيام، لكن مساراً جديداً في التفاوض مع إيران يرتسم بشيء غير قليل من الاستعداد للحرب. لكن ماذا يعني هذا السيناريو، سواء الحرب أو مجرد الاستعداد للحرب، بالنسبة لسوريا؟ والتي بات مبرراً توصيفها بـ«القضية السورية» ضمن الصيغة الأحدث وغير المتوقعة من عودة «المسألة الشرقية» و «اللعبة الكبرى» باتساعها الكبير الذي يشمل حدود المسألة الشرقية في القرن التاسع عشر من خط ديوراند بين أفغانستان وباكستان إلى البوسفور.
إذا انهارت المفاوضات مع إيران وتم إعلان ذلك رسمياً على لسان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فإن الرؤية الإسرائيلية تكون انتصرت على طريقة ترامب في سوريا أيضاً. ومن المفارقة كيف أن سوريا ما زالت مرتبطة بإيران ولو بطريقة عكسية عما كان سائداً في عهد الأسد. ما يعني، على الخط ذاته، أن التصور الإسرائيلي سيحل محل الأميركي، بما في ذلك الترتيبات الداخلية في سوريا بين القوى الفاعلة وكذلك الصلات الإقليمية بالحكم في دمشق. وليس خافياً أن التناقض بين الجانبين – ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو- ظهر أساساً في «القضية الإيرانية» و«القضية السورية» حيث سارعت إدارة ترامب إلى حرق المراحل والاستعجال في تثبيت أولويات حلفائها العرب في سوريا، ومنحت حكومة الرئيس السوري أحمد الشرع التفويض الأميركي الكامل لترسيخ حكمه.
يخاطب مبعوث ترامب الجديد إلى سوريا توم باراك الوعي المشرقي بالنسخة الرثة والفارغة من «ثقافة الضحية» تحت ركام مليء بالإجرام المحلي المتبادل في المشرق على مدى 150 عاماً. في أحد تصريحاته الأخيرة تحدث بقلق عن إمكانية تعرض الشرع للاغتيال وأن الولايات المتحدة تتطلع أن يبني الشرع نموذجاً للحكم يشبه ما أسسه الجولاني في إدلب. ثم عرج على فضائل ترامب على سوريا وخاطب المجموعة الحاكمة (وهو يعتقد أنه يخاطب السوريين) بالقول: «تريدون بناء أمتكم؟ تفضلوا!».
منذ لقاء ترامب والشرع في الرياض، استوعبت إسرائيل التحول الأميركي تجاه دمشق الجديدة، وكذلك تجاه لبنان وغزة. وتدريجياً، لكن بتسارع، قضت على جهود ستيف ويتكوف لهدنة في غزة، وعادت إلى قصف لبنان بلا هوادة، وشنت غارات على سوريا بذرائع انطلاق صواريخ منها باتجاه الجولان. ما يعني أن محاولة ترامب إزاحة إسرائيل من التدخل في إعادة صياغة المنطقة – كما كان يتفاخر نتانياهو – فشلت، وكذلك فشلت رهانات كل من كان يعتقد أن أولوية إسرائيل هي عقد اتفاق سلام مع الشرع. فأولوية إسرائيل، وفق خط تدخلها الهجومي الاستباقي في سوريا، لا يتحدد باتفاق سلام ثم ترك سوريا تصبح قوة مسلحة كبيرة وخطراً محتملاً (نظرياً بالطبع) في وقت ما من المستقبل. لذلك، السلام ليس أولوية حكومة نتنياهو. بل الأرجح أن حكومة نتانياهو لا تريد سلاماً مع سوريا من الأساس، لأنه سينهي عملياتها في التحكم في درجة القوة المسموح بها لكل من سوريا ولبنان.
من المؤشرات التي تدعم تعطيل إسرائيل المسار الحالي الأميركي لـ«القضية السورية» هو انتقال ترامب إلى موقع دفاعي داخلي أمام كتلة جمهورية وديمقراطية ترى الأحداث من منظور مختلف عن فريق «اجعلوا أميركا عظيمة مرة أخرى» وهو الفريق الذي فقد أحد أهم رموزه: إيلون ماسك، حيث أن خروج هذا الملياردير من هذه المجموعة ينظر له على أن المجموعة باتت على منحدر.
من أمثلة ذلك، وهذا الأسبوع في جلسة استماع بمجلس الشيوخ، ظهر خلاف علني وعميق داخل الحزب الجمهوري حول السياسة تجاه روسيا والحرب في أوكرانيا، من خلال مشادة كلامية بين السيناتور ميتش مكونيل ووزير الدفاع بيت هيغسث، لتكشف عن انقسام بين التيار الجمهوري التقليدي وتيار «أميركا أولاً».
انتقد مكونيل، أحد أبرز الصقور الجمهوريين، علناً إدارة ترامب وهيغسث، معتبراً أن «سمعة أميركا على المحك» في المعركة ضد روسيا.
كشفت الجلسة عن انقسام كبير داخل الحزب الجمهوري: مكونيل وليندسي غراهام يمثلان التيار التقليدي المؤيد للسياسة التدخلية ودعم الحلفاء. بينما هيغسث ونائب الرئيس جي دي فانس يمثلان جناح «أميركا أولاً» الأكثر انعزالية. قاطع السيناتور غراهام وزير الدفاع الأميركي عندما أبدى شكوكاً حول ما إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيتوقف عند أوكرانيا، مشبهاً الوضع بسياسات التوسع النازي في ثلاثينيات القرن العشرين. وخاطب غراهام وزير الدفاع بالقول: «ما نشهده هي الثلاثينيات الجديدة».
بمعنى آخر، لم يعد ترامب فقط هدفاً للهجوم من خصومه التقليديين، بل بات يُساءل من داخل بيته السياسي. وهذا يعكس انتقال فريقه إلى وضعية دفاع في مواجهة محاور ضغط متعددة: داخل الحزب، من مؤسسات الدولة، ومن شبكات المال والإعلام التي لم تعد تسلم بطريقته في إدارة الولايات المتحدة وعلاقاتها.
بشكل أكثر تحديداً، تدور في الملف الإيراني معركة بين جناحين داخل الإدارة الجمهورية: من جهة، تيار الصقور الجمهوريين المتوافقين مع الرؤية الإسرائيلية والدافعين نحو عمل عسكري ضد طهران؛ ومن جهة أخرى، جناح «اجعلوا أميركا عظيمة مجدداً» المناهض لأي تورط عسكري جديد في الشرق الأوسط. غير أن مآلات هذه المعركة لا تخص إيران وحدها، بل من المرجّح أن تكون سوريا أحد أكثر الملفات تأثراً بانتصار هذا الطرف أو ذاك، سواء في واشنطن أو تل أبيب.
فالتقارير الأخيرة الصادرة عن صحيفة «بوليتيكو» كشفت عن حملة ضغط متصاعدة يقودها إعلاميون نافذون مثل مارك ليفين، بدعم من لوبيات إسرائيلية، تهدف إلى دفع ترامب للانسحاب من مسار التفاوض مع طهران وتبنّي موقف أكثر عدائية تجاه برنامجها النووي، وصولاً إلى منح إسرائيل ضوءاً أخضر للقيام بعملية عسكرية. وفي حال تجاوب ترامب مع هذه الضغوط، فإن ما قد يبدو قراراً محصوراً بإيران ستكون له آثار مباشرة على الساحة السورية.
خلال الشهور الأولى من ولاية ترامب، قبل أن يلتقي الرئيس السوري المؤقت، كانت السياسة الأميركية تجاه سوريا شبه مطابقة للرؤية الإسرائيلية. لكن تلك المقاربة بدأت تتغير بعد صعود تيار «أميركا عظيمة» داخل البيت الأبيض، وهو تيار يتمسك بمبدأ «لا حروب خارجية»، ويدفع باتجاه تسويات تفتر إلى العمق في الحلول المطروحة، مثل حديث مبعوث ترامب في سوريا عن حدود «سايكس بيكو» وكأنها قسمت دول المنطقة التي كانت موحدة، منطلقاً من فرضيات مدرسية بعثية وما يشبهها في الأساس. وكذلك الأمر حديث ترامب عن بناء ريفيرا في غزة المدمرة.
في كل الأحوال، ينبغي انتظار ما إذا كان بالفعل أصبح ترامب في موقع دفاعي. لأنه بناء على ذلك، يمكن فهم «التالي» فيما يخص «المسألة الشرقية» برمتها. في حال انتصرت حملة الصقور داخل البيت الأبيض، فإن أولى ضحايا هذا التحول سيكون شعار أميركا «لنمنح الشرع فرصة». وإذا ما تم تبنّي مقاربة إسرائيلية صرفة، فإننا أمام مجموعة من التداعيات السريعة:
عودة النشاط العسكري الإسرائيلي داخل العمق السوري، مع تراجع الدعم الأميركي لحماية خطوط التسوية.
إعادة تفعيل سياسة تعطيل الإعمار، بما في ذلك تعطيل القنوات المالية الدولية التي بدأت تُفتح تدريجياً بفضل رفع العقوبات الأخير.
انفتاح واشنطن على الحفاظ على وجودها في منطقة الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية. ولا يمكن ضمان ذلك بكل الأحوال، حيث قد يقرر ترامب عكس ذلك.
«القضية السورية» رهينة حسابات بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وإذا كان عهد ما بعد الأسد بدأ بشعار «منح الشرع فرصة»، فإن مستقبل هذا الشعار مرهون اليوم بنتيجة المزاحمة الإسرائيلية للرؤية الترامبية. وفي ظل صعود الصوت الإسرائيلي في ملفات إيران وسوريا ولبنان معاً، بعد فترة سيادة قصيرة لواشنطن في هذه الملفات، فإن أي انكسار لفريق ترامب أو تراجع في مشروعه الخارجي، سيعني إعادة التموضع الأميركي تحت مظلة الرؤية الإسرائيلية الكاملة في الملفات التي تخص إسرائيل، ومنها سوريا وأجزاء كبيرة من الجغرافيا القديمة للمسألة الشرقية.