محمد سامي الكيال
تحتاج كل دولة، أياً كان طابعها ونظامها السياسي، إلى أسطورة تأسيسية، ليس فقط لغرض بقاء مجموعة ما في الحكم، بل لإنتاج رواية موحّدة للكتل السكّانية متعددة المواقع والمصالح والثقافات التي تضمّها داخل حدودها، ما يمنح مفهوماً واضحاً عن الذات الجماعية وموقعها في العالم والتاريخ وتجاه الآخرين. ودون ذلك المفهوم، لا يمكن تحقيق أي وظيفة من وظائف الاندماج الاجتماعي أو بناء إطار سياسي ودستوري أو شرعية للسلطة وعنفها المنظّم. كما يتعذّر الحفاظ على الحد الأدنى من السلم الأهلي وتأمين قنوات تواصلية في الحّيز العام. ليس هذا فحسب، فالدول المعاصرة تدخليّة في حياة مواطنيها إلى أبعد الحدود، ولديها دائماً سياساتها الحيويّة المتعلّقة بشؤون جسدية لصيقة مثل الصحة ومستوى الحياة والولادات والوفيات والأسرة والآداب العامة. وكل هذه السياسات مرتبطة برواية الدولة عن «الشعب» وقيمه الأساسية وأهدافه.
ليست «الأسطورة» خرافة أو مجرد كذبة تنشرها السلطة بين الناس، بل هي سرد معياري منظّم ينتج المعنى الجمعي عبر عمليات سرديّة ضرورية مثل انتقاء الوقائع التاريخية والثقافية والتكثيف والتضخيم والتهوين وصناعة الرموز. وهو غير دقيق أو علمي بحد ذاته ولكن لا غنى عنه. إذ لا توجد مجتمعات إنسانية بدون أساطير مؤسِّسة. وغالباً ما تكمن أيديولوجيا الأسطورة المؤسِّسة في لا وعي المؤرخين والباحثين أنفسهم، باعتبارها مبدأً توجيهياً، بل نموذجاً فكرياً متكاملاً في النظر إلى الواقع والتاريخ، إلى أن يتمرّدوا عليه لدوافع اجتماعية وسياسية غالباً. وهكذا تنشأ موجات من المراجعات والتأريخ التنقيحي والمناهج التجديديّة التي قد تُثري الأسطورة المؤسِّسة في نهاية المطاف وتوسّعها ولا تدمّرها بالضرورة، في حال كانت وظائف الاندماج الاجتماعي تعمل بفعالية.
من سمات الأسطورة المؤسِّسة أيضاً أنها تحوي بالضرورة جانباً إقصائياً. إذ إن تعيين الذات الجماعية لا يستقيم إلا بوجود آخر، غالباً خصم أو عدو، أو نقيض للقيم التي تحقق تماسك الجماعة. وهو ليس آخرَ خارجياً فحسب، بل في «الداخل» من الأمّة. إذ لا يمكن لسرد ناظم لسلسلة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والأيديولوجية أن يعترف بشكل كامل بكل المنظورات والثقافات والممارسات وأنماط الحياة والعمل، وإلا سيفقد اتساقه ومعناه. وبالتالي، فعلى المغايرين والمخالفين أن يتماهوا مع السرد المؤسِّس، أو سيُعتَبَرون ظواهر معادية للمتن الاجتماعي والوطني يجب علاجها أو مراقبتها أو بترها. وتلك الممارسات العلاجية والرقابية والإلغائية المتنوّعة هي الجانب الأساسي من تقنيات أي سلطة. ولها طابعها المُنتج، وليس فقط العنيف والقاتل. إذ أن جانباً كبيراً من ذواتنا هو، في نهاية المطاف، مُنتجٌ لمجموعة من الممارسات السلطوية التي تعرّضنا لها في مؤسسات متنوّعة لإدماجنا في متن اجتماعي له أبعاده القانونية والأيديولوجية.
عرفت سوريا كل هذا عبر أنظمة حكم متعاقبة استعمارية ومحليّة راكمت كثيراً من الطبقات الأيديولوجية والخطابات والممارسات السلطوية. إلا أن الأكثر تأثيراً حتى الآن في «الأيديولوجيا السورية» التي نعرفها هو الأسديّة، التي أعادت صياغة عناصر أساسية في الأسطورة المؤسِّسة للدولة السورية عبر مؤسسات وخطابات وأدوات وممارسات متعددة. وما يزال جانب مهم من ذواتنا أسديّاً، حتى لو سقطت دولة الأسد. وتفكيك هذا الجانب أمر شديد التعقيد. فالأسدي ليس فقط من هتف للأسد أو ينتظر اليوم عودته.
يتحدث كثيرون حالياً عن «بناء دولة» في سوريا ما بعد الأسد على يد هيئة تحرير الشام وحلفائها وما يُفترض أنه قاعدتها الاجتماعية. والأسطورة المؤسِّسة لهذه الدولة ستكون «الثورة السورية» ضد الأسد بالتأكيد. فهل هذه «الثورة» قادرة على إنتاج خطابات تبني ذاتاً جماعية للسوريين عبر سلسلة من المؤسسات والممارسات؟ وهل يمكنها تجاوز الأسديّة فعلاً؟
بعيداً عن الجدل الخاوي من المعنى السيسيولوجي والتاريخي عن «علوية» نظام الأسد، لم يقدّم ذلك النظام في أي مرحلة من مراحله رواية أيديولوجية طائفية مُعلنة، تصريحاً أو تلميحاً، وإنما بنى حيّز الوطنية الخاصة به بناءً على أيديولوجيات كانت تتمتع بشعبية كبيرة في عصر تأسيسه واحتفظت بتأثيرها نسبياً إلى حين سقوطه، وهي أساساً القومية العربية ومناهضة الاستعمار والصهيونية والقضية الفلسطينية. كثيرون من معارضي الأسد الأكثر شراسة، إذا ابتعدنا عن الطيف الإسلامي القريب من تنظيم «الطليعة المقاتلة»، لم يخرجوا من هذه الأيديولوجيات، بل عادوا النظام لأنهم رأوه منافقاً أو مُقصّراَ أو غير كفء في نصرتها. حتى اتهامه بالطائفية، جاء في أحيان كثيرة ضمن السياق نفسه. فـ«النظام العلوي» لا يمكن أن يكون عروبياً حقاً أو جديّاً في تحرير فلسطين.
بنت الأسدية شعبها عبر ائتلاف اجتماعي واسع شمل فئات متعددة، بدون أن يعني هذا أن تلك الفئات كانت متساوية، وإنما تموضعت في هرمية معيّنة من الولاء والتبعية. وكان لكل منها عُصبتها في النظام القائم ودورها فيه؛ كما كان للأسدية سياساتها الاجتماعية والتعليمية والحيويّة عبر أشكال متعددة من الدعم الاقتصادي؛ والربط بجهاز الدولة وقواه الأمنية والعسكرية، وكذلك عبر مجموعة من المؤسسات الأيديولوجية المرتبطة بحزب البعث، والتي ظلّت فعالة جديّاً حتى التسعينيات من القرن الماضي. وبالطبع، اتسمت الأسدية بكثرة وشدة أنماطها من الاقصاء والاستئصال. فإضافةً إلى الشعب الكردي، الذي سيقصيه حتماً هذا النوع من الأيديولوجيا القومية، كان على الجميع، من المدرسة وحتى الثكنات العسكرية وزنازين الأفرع الأمنية، أن يصيروا عرباً بعثيين أسديين. فيما سيصطدم التمرّد على ذلك بـ«حق سيادي» للدولة ووطنيتها يصل إلى درجة القتل المنهجي تحت التعذيب والمجازر الجماعية. تبدّت السيادة الأسدية ضمن حالة استثناء دائمة كان تدوينها الأساسي قانون الطوارئ، الذي سبق نشأة نظام الأسد نفسه، ولم يُرفع عام 2011 إلا لتحل محلّه سلسلة معقدة من القوانين الاستثنائية في مجال «مكافحة الإرهاب».
أنتج مجموع هذه الممارسات، الاقتصادية والأيديولوجية والعنيفة والقاتلة، الجماعة الوطنية السورية المعاصرة، أي «شعب» الأسد بثقافته الجماهيرية ومفاهيمه عن الذات. ويجب التشديد على أن الأسدية لم تقم على العنف وحده. فلا يمكن لأي نظام سياسي أن يقوم ويستقر على أساس عنف عُصبة حاكمة فحسب. بل كان العنف مكوّناً بارزاً ضمن عدد من الإجراءات والخطابات والمؤسسات التي أسَّست لأكثرية سياسية واجتماعية على الجميع الانتماء إليها طوعاً أو إجباراً، أو بالأصح بشكل طوعي إجباري، بحسب العبارة الساخرة التي كان يتداولها الموظفون السوريون عن يوم «العمل الطوعي» الإجباري الذي كان الأسد الأب يفرضه أحياناً في العُطل الرسمية.
في كل الأحوال، نجحت الأسدية في تأدية الحد الأدنى من الوظائف الاجتماعية والسياسية، مما مكَّنها من الاستمرار لحوالي نصف قرن من الزمن. وكان للتغيّرات الاقتصادية والأيديولوجية فيها منذ التسعينيات وتغيّر طبيعة عُصبها المسيطرة، دورٌ أساسي في تعطل قدرتها على الدمج والحفاظ على ائتلافاتها الاجتماعية. وعندها، لم ينفعها العنف العاري، فسقطت في آخر المطاف رغم انتصارها عسكرياً على معارضيها.
إلا أن سقوط الأسدية، بوصفها نظاماً، وتفكك شعبها، لا يعني أنها تبدّدت تماماً، فقد خلّفت مخزوناً كبيراً من الخطابات والممارسات السلطوية يمكن دوماً استعمال عناصر منه، حتى لو تشتتت وفقدت ناظمها البنيوي. يبقى أن «الشعب السوري»، أي شعب الأسد سابقاً، لم يعد يملك أي مفهوم للذات الجماعية. ويمكن التساؤل بجديّة حول قدرته على الخروج من الأسديّة، خاصة أن المرشّح الأبرز لخلافتها هو «الثورة السورية ضد الأسد».
لا توجد ثورة اجتماعية جذريّة لم تمارس العنف أو ترتكب انتهاكات ترقى لجرائم ضد الإنسانية، وفق مقاييس القانون الدولي الإنساني الحالي. كما أن وصف «الحرب الأهلية» ليس نقيضاً بالضرورة لمفهوم «الثورة». فكل ثورة كبرى كانت في جانب منها حرباً أهلية. إلا أن ذلك المفهوم قد لا ينطبق على «الثورة السورية». ليس بسبب عنفها أو طائفيتها، وإنما لأنها لم تسعَ أو تؤدِ لتغيير جذري في العلاقات الاجتماعية يمهّد لصعود فئات مغايرة تنتج بديلها الخاص وقادرة على بناء نظامها وائتلافاتها. لا تبدو «الثورة» أكثر من انحلال عنيف وفوضوي للأسدية نفسها، وانحداراً متسارعاً للمجتمعات السورية نحو نزع التحضّر. فضلاً عن هذا، لم تنتج التيارات الأساسية في «الثورة» أية فكرة خلال أربعة عشر عاماً أبعد من عبارات عمومية عن «الحرية» وربما «الانتقال الديمقراطي» (الذي بات ذكره نادراً الآن)، والتي لم تُترجَم عملياً إلا بمقولتين: «حكم الأكثرية» و«مظلومية السنّة».
و«الأكثرية» في المقولة الأولى مثل «السنّة» في الثانية، مجرد مفردتين تحت سياسيتين تؤخذان بشكل بديهي وكأنهما موجود طبيعي: هنالك «أكثرية» ذات جوهر مكتمل وخياراتها وميولها مُشتقة حتماً من هويتها التي تشكّل «المظلومية» جانباً أساسياً منها. كما أن «حكمها» يعني فقط وجود رئيس من أبنائها في السلطة.
لا جدوى من مناقشة هكذا مقولات. فالأكثريات السياسية لا تُبنى بهذه البساطة حتى لو كانت قائمة على أسس دينية أو طائفية، إذ لا بد من تأسيس ائتلاف متعدد الفئات والمواقع والمصالح قادر على تحقيق التماسك والاندماج الداخلي تحت الراية الدينية أو الطائفية. وهذا يتطلّب فعلاً سياسياً ومؤسساتياً وحدّاً أدنى من المشاركة في السلطة حتى لو كانت في إطار غير ديمقراطي؛ وتوزيعاً معيّناً للموارد يؤمّن قليلاً من الدعم الاقتصادي للأنشطة الأساسية والرعاية الاجتماعية. لا توجد حتى الآن بوادر لتأسيس هذا النمط من الأكثرية، بل غالباً سيؤدي ميل تجمّع الميليشيات الحاكم للاستفراد بالسلطة وتعيينات اللون الواحد وإصراره على روابط مناطقية معيّنة، فضلاً عن تشدده الديني، إلى «أقللة» الأكثرية الطائفية، أي تحويلها إلى مجموعة أقليات متنافرة لا تستطيع التماهي مع «صورة الأكثرية» التي يفرضها الحكم، وهي صورة ضيّقة للغاية لا تتسع حتى لكثير ممن يفترض أنهم أبناؤها. قد يكون بالإمكان شدُّ عَصَب بعض المجتمعات السنيّة بتصوير «الأقليات» عدواً داخلياً يتحمّل مسؤولية كل الفشل والمشاكل والتناقضات الداخلية لـ«الأكثرية»، و«فلولاً» يجب دحرها والنفير ضدها، ولكن إلى متى؟
ربما يكون السؤال الفعلي هنا: هل يمكن لمقولتي «حكم الأكثرية» و«مظلومية السنّة» العائدتين لـ«الثورة السورية» بناء أسطورة مؤسِّسة لسوريا يمكن مقارنتها حتى بالأسديّة؟ سيبدو غريباً نشأة «شعب» على أساس «سوريا سنيّة» و«طوائف» على هامشها يؤمن أبناؤها بالأحقيّة أو التفوّق العربي السني ويندمجون على هذا الأساس في «الوطن» الذي لا عدو خارجياً له إلا امتدادات لطوائف غير سنيّة في دول الجوار. لن يعمل هذا غالباً، وقد لا يكون أكثر من وصفة لحروب أهلية واضطرابات اجتماعية دائمة. إذ لا يمكن تحقيق هيمنة أيديولوجية بهكذا تصوّر مهما كان مدعوماً بالعنف.
قد لا نكون أمام ما هو أكثر من أسديّة مشوّهة وعاجزة. فـ«الجمهورية العربية السورية» مستمرة وتفخر بسيفها الأموي وافتراضاتها عن تاريخها الإمبراطوري. والحزبيون البعثيون «القادة للدولة والمجتمع» أصبحوا «شرعيين وأمراء» يتواجدون في كل ما تبقى من مؤسسات. أما العصب الأمنية والعسكرية المتصدّرة، فباتت تأتي من مناطق ريفية أخرى غير التي أتت منها العُصب الأسديّة السابقة. وكذلك شبكات المحاسيب والمتنفذين، التي صارت مرتبطة بالميليشيات التي عيّنت «الرئيس». إلا أن كل هذا يتم في ظل رواية غير قادرة على الإقناع. بل أن لكثيرين ثأراً جديّاً معها، وسط تمزّق ورثاثة اجتماعية غير مسبوقة واختفاء معظم ما تبقّى من بيروقراطية سورية.
لا يمكن توقع مستقبل هذه التركيبة، وإن كانت السيناريوهات المحتملة لا تدعو للتفاؤل. والأجدى، الخروج من تصورات ومقولات «الثورة» الأقرب للفصامية والعاجزة عن تقديم سرد سوري مقنع أو متسق والتفكير بمنطق تجنّب المأساة، التي قد توصلنا إليها الأسدية المشوّهة. وهذا لن يكون إلا بتجاوز «الجمهورية العربية السورية»، بصيغها البعثية والإسلامية، ونمطها من الوطنية الاستئصالية وأكثرياتها الإجبارية والضيقة، والتفكير بسوريا أخرى قادرة على لملمة كل هذا الشتات الاجتماعي المُتعَب.