تعد مسودة العقد الاجتماعي بنسختها الثالثة في شمال شرق سوريا، بمثابة رد أخلاقي وحقوقي على ثلاثة مسائل ملحة: الأولى، تفكك المنظومة المرجعية الأخلاقية والسيادية في البلاد نتيجة إطالة الأزمة الداخلية وما استتبع ذلك من صراع جيوسياسي وفشل المقررات الدولية في إنتاج حل سياسي عادل بين المعارضة والنظام السوري. الثانية، وجوب إنتاج حلول سيادية محلية من القدرات الذاتية، بغرض سد الفراغ القانوني والمؤسساتي في المناطق التي تحررت من داعش والخارجة عن نفوذ النظام السوري. الثالثة، ضرورة هيكلة بنية الإدارة الذاتية التي تحتوي على تنوع ثقافي وقومي وديني، وتعزيز المبادئ الأساسية من الحريات والحقوق والواجبات للأفراد والجماعات في المنطقة، بغية مواجهة الفوضى المستدامة، مشروطاً بعدم الانتظار بلا جدوى لحلول خارجية عقيمة.
من أجل ترسيخ هذه المبادئ، تناقش اللجنة المصغرة لصياغة مسودة العقد الاجتماعي منذ فترة تفاصيل العقد مع الرأي العام ومؤسساتها المدنية، مثل الكومينات والمجالس المحلية ومؤسسات الإدارة الذاتية والمجتمع المدني وأهل الخبرة والاختصاص، بحيث تكون خلاصة المداولات الجارية حول العقد بمثابة انعكاس للإرادة العامة قدر المستطاع.
ومع ذلك، ثمة تحديات اقتصادية وأمنية واجتماعية متداخلة تهدد البنية المعيشية وتفرض عدم الاستقرار وزعزعة أمن المنطقة، لتقف حائلاً دون ترجمة مبادئ العقد على النطاق العملي بصورة مناسبة، علاوة على جملة من الملاحظات الفنية والتقنية على صياغة نص العقد نفسه، جنباً إلى جنب مع غياب الثقافة القانونية والأخلاقية بين المكونات الاجتماعية في المنطقة، نتيجة عقود من هيمنة ثقافة الاستبداد، وإمعان التنظيمات المتطرفة في نشر الفوضى مؤخراً. معطوفاً على ذلك، نقص الخبرة التي رافقت تجربة الإدارة الذاتية، واتساع نطاق المناطق التي تعرضت بنيتها التحتية إلى دمار هائل جراء عمليات مكافحة تنظيم داعش.
لكن هذه الظروف العسيرة كما ترى عضوة اللجنة المصغرة لصياغة العقد الاجتماعي وعضوة هيئة الرئاسة المشتركة لحزب الاتحاد الديمقراطي، فوزة يوسف، في حوار خاص مع المركز الكردي للدراسات، ليست مبرراً لتبني حالة العقم والاستسلام في منطقة تحتضن حوالي 5 ملايين نسمة، وينبغي، حسب يوسف، أن تضطلع المكونات في المنطقة لسن عقد يصون وجودهم التاريخي وكرامتهم من الفوضى التي تجتاح البلاد. ولتحقيق ذلك لابد من صياغة عقد اجتماعي يضمن المبادئ الأساسية من العدالة والمساواة واحترام التنوع الثقافي وتعزيز الإرادة العامة، أفراداً وجماعات، وذلك في هيئة مؤسسات الإدارة الذاتية، وفق لـ يوسف.
فيما يلي نص الحوار:
* حبذا لو نتحدث في مقدمة حوارنا عن أهمية طرح مسودة العقد الاجتماعي في شمال وشرق سوريا، وخاصة في ظل مواصلة التهديدات التركية اليومية ومحاولة تنظيم داعش إعادة صفوفها؟
حسناً، بغرض الرد على هذا السؤال لا بد أن نعود قليلاً إلى الوراء، وتحديداً عندما حررنا مناطقنا من قوات النظام منذ بداية الأحداث في البلاد. ففي عام 2014، استدعت الحاجة المحلة بوجوب تأسيس الإدارة الذاتية الديمقراطية للمقاطعات الثلاث، عفرين كوباني والجزيرة، من قبل القوى السياسية والعسكرية في المناطق الكردية. على ضوء ذلك، تم الإجماع بين المكونات التي تعيش في هذه المناطق بوجوب سن عقد اجتماعي يصونهم من الفراغ المؤسساتي القائم، بغية تنظيم أمورهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومن ثم، تحررت كل من الرقة ومنبج والطبقة ودير الزُّور من سيطرة داعش على يد قوات سوريا الديمقراطية، وظهرت معها حالة جديدة من حيث توسع حجم المساحة الجغرافية وتزايد نسبة السكان التي تصل على نحو ٥ ملايين نسمة. وبغرض إعادة تنظيم حياة السكان المحليين هذه، كانت ثمة حاجة لإدارة مشتركة تنسق وتنظم العلاقة بين هذه المناطق من النواحي الاقتصادية والسياسية والقانونية والدفاعية.
* سبق أن أقرت مناطق الإدارة الذاتية عقد اجتماعي في عام 2018 أيضاً، وكأن تلك الوثيقة لم تعد تواكب المرحلة الراهنة أليس كذلك؟
صحيح، حينها تم إقرار بتاريخ 3 تشرين الأول/ اكتوبر وثيقة تفاهم وتأسيس إدارة مشتركة في كل من الجزيرة وإقليم الفرات وعفرين تحت مظلة الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا. لكن بعد مرور خمس سنوات، وإطالة الأزمة في سوريا، باتت وثيقة التفاهم هذه ضيقة ولا تلبي حاجة المجتمع بكل مكوناتها، لذا تم الإقرار في مؤتمر الجزيرة والفرات الذي عقد من قبل مجلس سوريا الديمقراطية، بوجوب صياغة عقد اجتماعي يشمل شمال شرق سوريا عموماً، وذلك بهدف تحقيق التعاون والتكامل والتنسيق بصورة راسخة بين مناطق الإدارة الذاتية، سيما أنّ هذه المنطقة تعاني من هجمات أمنية وعسكرية مستمرة، فضلاً عن تداعيات الأزمة الاقتصادية. أي أن مقترح صياغة هذا العقد كان ضرورة ملحة من أجل تنظيم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدفاعية، وخاصة أنّ سوريا تنزف بصورة مستمرة، وليس هنالك أفق يبشر بإمكانية وجود حلول للقضايا المتراكمة والشائكة. بناء على ذلك، قررت القوى السياسة والمجالس المجتمعية صياغة عقد تحميهم من الفوضى وعدم الاستقرار والتهديدات، علاوة على أنّه من حق الشعوب، التي طالما عانت من القوانين العرفية التي مورست من قبل نظام البعث، أن يعقدوا فيما بينهم عقداً يضمن حقوقهم كأفراد وجماعات، ويصون للنساء مع باقي الشرائح الاجتماعية مفهوميّ العدالة والمساواة. ونظراً لحجم التضحيات الجسامة من قبل المجتمع عموماً في هذه المنطقة، لا بد أن تترجم هذه التضحيات إلى مطالب محقة تضمن للمجتمع حياة كريمة وحرة وذلك عبر احترام إرادة مكوناته. وكي لا تبقى هذه القيم والتطلعات معلقة في الهواء، لا بد من إقرار عقد اجتماعي متوافق عليه عبر إرادة مشتركة تعكس مصالح المكونات وحقيقتهم التاريخية والوجودية.
* دوماً يتبادر إلى الأذهان لا سيما في ظل الظروف الموضوعية والذاتية غير المستقرة في سوريا عموماً؛ آليات تطبيق العقد الاجتماعي بغية بناء نظام مؤسساتي، كيف ستكون مقاربة شمال شرق سوريا بغية تجاوز هذا التحدي؟
من حيث المبدأ، دخلت الأزمة السورية عامها الثاني عشر، ولا يوجد أي حل في الأفق، بالعكس تتفاقم الأزمة بشكل أكبر يوماً بعد يوم، لذلك صياغة العقد ضروري جداً للتعامل مع هذه الحالة لحماية المجتمعات من التشتت والحفاظ على حقوقهم. بكل التأكيد ستثار تساؤلات حول الآليات والوسائل حيال تطبيق بنود العقد، لكن العقد يجيب عن هذه الإشكاليات وذلك من خلال منح صلاحيات للجهات القضائية والمؤسسات الإدارية، مثل المجالس والإدارات المختصة، وكذلك محكمة حماية العقد الاجتماعي، وهي بمثابة” المحكمة العليا”. والأهم من كل هذا، أن العقد يمنح إرادة للمجتمع بأن يقوم بمراقبة المؤسسات من أجل الحفاظ على مبادئ العقد. من الضروري أيضاً أن يصبح كل فرد في المجتمع قوة رادعة ضد من يحاول أن يتجاوز مبادئ العقد. لأن المواد الموجودة في العقد تمس جميع الأفراد والمكونات وتصون حقوقهم، لذلك من المهم جداً القيام بحماية مواد العقد من قبل الجميع وعدم تركها فقط للجهات المعنية من المؤسسات.
* ما هي تحديات تطبيق العقد الاجتماعي في شمال وشرق سوريا؟
التحدي الأول هو أن حالة الحرب هذه وعدم الاستقرار تؤثر بشكل سلبي، وتعيقنا من طرحها بشكل أكبر على المجتمع، الأمر الآخر هو التهديدات التي تتعرض لها مناطقنا والتي تؤدي الى التوتر الدائم، والضعف في الاستقرار السياسي والاقتصادي، فضلاً على أن الحالة الاجتماعية والثقافية التي تؤثر سلباً على فهم مضمون العقد والتفاعل المطلوب معه، كل هذا يحتاج الى وقت لكي يتم استيعابه وتطبيقه عن وعي.
* عندما يطرح موضوع العقد الاجتماعي، يشكل موضوع شرعيته محلياً ودولياً جدلاً وسط النقاد، ويدور هذا الجدل غالباً حول آليات طرح العقد ومناقشته محلياً وعالمياً لكسب الشرعية، وإدراج إرادة كافة شرائح المجتمع ضمن العقد. هل ستقومون باستفتاء شعبي على سبيل المثال؟
في ظل هذه الظروف، من الصعب القيام باستفتاء شعبي، لذلك سيتم عقد اجتماعات للشرائح الاجتماعية، وأخذ الآراء عن طريق وسائل الإعلام المتنوعة ومنصات التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى مناقشتها مع المنظمات المحلية والمجتمع المدني والجهات الدولية. سنأخذ كل الآراء ونقيمها كلجنة صياغة العقد. على هذا الأساس نهدف الى التوصل إلى نسبة كبيرة من الناس للحصول على آرائهم والتي سنستفيد منها كثيراً ونأخذها بعين الاعتبار.
* ثمة آراء فنية تقول بإن مسودة العقد الاجتماعي تشبه دستوراً محلياً، وهناك من يتحدث بأنها بمثابة ردة فعل على مسار جنيف واستبعاد التمثيل السياسي في شمال شرق سوريا من لجنة صياغة الدستور السوري؟
إننا لا نبني دولة لكي نكتب دستوراً، بل نقوم ببناء نظام مجتمعي ومؤسسات تخدم المجتمع وتسهل أموره، لذلك نرى بأن العقد الاجتماعي هو المصطلح الذي يعبر عن مفهومنا، ولا علاقة له مع عملية جنيف ولجنة صياغة الدستور السوري، بل له علاقة مباشرة مع حاجة المكونات في شمال وشرق سوريا، حيث لا يمكن أن نترك مناطقنا للفوضى والنهب والسلب، أو للدستور السوري الذي كان ينكر هويتنا ووجودنا ككرد، ويهمش كل الحقوق الديمقراطية للسوريين. فالسوريون بحاجة إلى نظام ديمقراطي، ونحن كجزء من سوريا، من حقنا أن ننظم حياتنا على أسس ديمقراطية إلى حين يتم التوافق على دستور عادل في سوريا. لذلك نرى بأن جنيف أولاً همش شمال وشرق سوريا، ثانياً بات يعيش في حالة العقم بحكم عدم تمثيل السوريين كافة، ناهيك عن أن القوى المشاركة فيها لا تملك مقومات صياغة دستور ديمقراطي. لذا، نحن هنا قررنا أن نعمل بمحض إرادتنا في خلق نموذج يقدم لكافة السوريين بديلاً جديداً ليصبح خارطة لطريق الحل من أجل القضايا في سوريا.
* بالانتقال إلى محتوى العقد. هنالك أشكال مختلفة للديمقراطية مطروحة في العقد؛ المباشرة والتمثيلية والتوافقية. في أي من الأبعاد الإدارية سيتم توزيع كل شكل من أشكال الديمقراطية المطروحة؟ وبالمناسبة، كلمة الديمقراطية مكررة جداً في العقد.
الديمقراطية المباشرة تدار في الكومينات، حيث تكون مشاركة مباشرة من قبل المجتمع، ولا يوجد النظام التمثيلي في هذه الحالة. في حين تعتبر المجالس مكاناً للديمقراطية التمثيلية، أي سيكون هناك من يمثل المجتمع، بدءاً من البلدة وصولاً إلى مجلس الشعوب (البرلمان) في شمال وشرق سوريا. بينما تظهر الديمقراطية التوافقية إلى الوجود لدى بروز القضايا الاستراتيجية والتي تمس مكوناً ما أو قضية مصيرية، بحيث يتم المناقشة وتحقيق التوافق على تلك القضية. أما بالنسبة لتكرار كلمة الديمقراطية، إننا كسوريين عانينا كثيراً من انعدام الديمقراطية والحريات، قد يعود السبب إلى ذلك نسبياً، وربما يكون من باب التركيز على أهمية هذه الخاصية في نظامنا المجتمعي أيضاً.
* هناك ثلاثة قطاعات اقتصادية مذكورة في العقد، الخاص والعام والكومينالي. وحسب مراقبتنا للوضع ميدانياً في شمال وشرق سوريا، فالاقتصاد الكومينالي التعاوني على وجه الخصوص يكاد يكون معدوماً عملياً. كيف يعالج العقد الاجتماعي مشكلة تضخم الاحتكارات والتمويل غير الانتاجي والعائد للمنظمات غير الحكومية من ناحية، وتطبيق الاقتصاد التعاوني من ناحية أخرى؟
بالطبع من أجل ترسيخ حالة مجتمعية في الاقتصاد نحتاج الى وقت، ليس من السهل تحقيقها في مدة قصيرة، يجب أن يتم وضع قوانين ضريبية تعيق تضخم الاحتكارات، وينبغي أن نطور آليات مراقبة قوية تحد من آليات التمويل الغير الانتاجي. وبقدر ما يتم خلق البديل سيتم تقليص والتقليل من الحالات الأخرى.
* إلى أي مدى يستطيع العقد مقاومة النزعات الرجعية القوموية والدينية والهوياتية الضيقة التي انفجرت في سوريا بعد 2011، وحماية القيم العالمية القائمة على التحرر النسوي والمجتمع الديمقراطي البيئي والاقتصاد التعاوني الاجتماعي؟
خلال السنوات الاثني عشر الماضية، حققنا خطوات مهمة بهذا الخصوص، يوجد بالطبع نزعات رجعية، لكن المكاسب التي تحققت، خلقت ثقة لدى المجتمع، بأن هذه الادارة لديها القدرة على استيعاب الحالة الموجودة والتعامل معها بشكل علمي. إننا عن طريق المحاضرات وعملية التوعية قطعنا شوطاً مهماً لمواجهة هذه التحديات والنزعات، باعتقادي تم تحقيق تطور ملحوظ. ويمكن رؤية ذلك بشكل واضح في عملية التعايش السلمي الموجودة بين المكونات، وكذلك في قضية المرأة والمقاربة من العشائر في المنطقة. لكن من المهم جداً التركيز الدائم على عملية التوعية والنهضة الفكرية والثقافية، حيث لا يمكن تحقيق كل شيء عن طريق مواد العقد أو القوانين، يجب أن يكون هناك عمل دائم ومستمر من قبل كافة المؤسسات المجتمعية لمكافحة هذه النزعات.
* هل سيستطيع العقد أن يعكس هوية مجتمع سياسي وأخلاقي وديمقراطي عصري؟
العقد يمكن أن يكون ركيزة أساسية لتحقيق ذلك، ولكن العقد ليس عصا سحرية. بقدر ما يقوم المؤسسات المجتمعية بدءاً من المجالس وحتى التنظيمات السياسية، النسائية، الثقافية، الشبابية، بترسيخ مبادئ هذا العقد في الحياة اليومية وتطبيقها، سيلعب هذا العقد دوره في عملية التحول في المجتمع. العقد يعطي القوة لتلك المؤسسات الداعية لخلق مجتمع سياسي وأخلاقي وديمقراطي، لكن من يعطي الروح لهذه المواد هم نحن، أفراد ومؤسسات هذا المجتمع.