طارق حمو
تتمسك تركيا في اعتبار «سوريا الجديدة» منطقة واقعة تحت نفوذها والنظام السياسي فيها مؤيداً وتابعاً لها. ومن هذا المنطلق، تجاهد في التغلغل في كل مفاصل ومؤسسات الدولة السورية وإحداث تشابك متين بين البنى المختلفة في سوريا وبين مؤسسات الإدارة والتسيير، المدنية منها والعسكرية، داخل الدولة التركية. ينهض جهاز متابعة وإشراف تركي عملاق لمتابعة الحالة السورية من أجل السيطرة والإحكام والحيلولة دون دخول المنافسين الساحة السورية.
اصطدم هذا النزوع التركي مؤخراً بالظهور العربي القوي، خاصة من جانب السعودية، وتفعيل العلاقات وأوراق الضغط العربية لمصلحة «سوريا الجديدة»، لجهة رفع العقوبات الاقتصادية عليها وقبول قيادتها وتسويقها دولياً. ومن هنا، كان اللقاء الذي تم بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع في الرياض في 14 مايو/أيار الجاري، وإعلان ترامب، بوساطة وتشجيع من السعودية، رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية عن سوريا، وهو الأمر الذي حقق إنجازاً بدا أنه كامل بعد أن حذا الإتحاد الأوروبي حذو واشنطن وأعلن رفع العقوبات. ورغم كلام ترامب عن «مشاورة» الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أمر رفع العقوبات، إلا أن تركيا اعتبرت التحرك السعودي الفاعل حضوراً قوياً للمملكة والعرب في المشهد السوري، وبالتالي تراجعاً لا يمكن تغافله (على المستوى النفسي على أقل تقدير) للدور التركي في الدولة الجارة التي تسوق أنقرة سردية أنها هي صاحبة الفضل في «تحريرها» عبر دعمها «الخفي والمستتر» لهيئة تحرير الشام في عملية «ردع العدوان».
والأخطر من وجهة النظر التركية هو التحرك العربي (الخليجي حصراً) لجهة إحداث تفاهم، وربما سلام ومصالحة، بين كل من النظام السوري وإسرائيل. بمعنى استبعاد تركيا من هذا الملف وتفعيل المشروع العربي (الاتفاقيات الإبراهيمية) في التطبيع مع الدولة العبرية بإشراف وتشجيع أميركي، وهو ما يعني انتزاع أوراق تفاوضية ثمينة من اليد التركية أمام إسرائيل، ما يضعف الدور والنفوذ التركي ويجعل من وجود أنقرة، الاقتصادي والعسكري، مكشوفاً أمام أجهزة الرصد الإسرائيلية الحاضرة في الجغرافيا السورية. ومن هنا، سارعت أنقرة إلى تمرير أخبار تفيد بوصولها إلى اتفاق مع تل أبيب حول تفادي الاصطدام في سوريا وفتح خط اتصال على مدار الساعة للتنسيق معاً في الساحة السورية. وكذلك ما أعلن عنه مؤخراً في تل أبيب عن حدوث لقاءات مباشرة بين مسؤولين إسرائيليين ونظرائهم السوريين، بوساطة تركية، والحديث عن «مرونة» سورية و«لفتات حسن نية» من جانب سلطة دمشق ستقابل بالمثل في تل أبيب. ولعل من «لفتات حسن النية» تلك قرار السلطات السورية طرد فصائل فلسطينية مسلحة من سوريا وتسليم إسرائيل «الأرشيف السوري» وبعض مقتنيات الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين إلى الدولة العبرية.
الأرجح أن تركيا قبلت واقع النفوذ الإسرائيلي والإرادة الإسرائيلية في إبقاء كل من السويداء والقنيطرة ودرعا مناطق منزوعة السلاح يحظر على السلطة الجديدة نشر قوات عسكرية فيها، بالإضافة إلى تخلي أنقرة عن فكرة إقامة قواعد ومطارات عسكرية في المناطق الداخلية السورية، أي أبعد من الحدود الإدارية لمحافظتي حلب وإدلب. تحاول تركيا انتزاع ملف العلاقات السورية- الإسرائيلية من الجانب العربي ولعب دور الوصي على السلطة السورية عبر منح إسرائيل ما تريده من ضمانات، مقابل انتزاع مكاسب من الدولة العبرية لصالح أنقرة وليس لصالح الدولة السورية. وفي هذه النقطة، تهدف أنقرة إلى إفهام إسرائيل، ومن خلفها واشنطن والإتحاد الأوروبي، بأنها هي صاحبة الكلمة العليا في سوريا، وهي من تمتلك الوجود والنفوذ والميليشيات العسكرية، بخلاف السعودية والإمارات التي تريد تأهيل سوريا ونظامها اعتماداً على الاقتصاد والدبلوماسية، أي عبر مشاريع إعادة الإعمار وفتح قنوات السياسة الدولية أمام الشرع وطاقمه.
وتعمد تركيا إلى إبراز كلمتها ودورها «المفصلي» و«الحاسم» في المشهد السوري، علانية ودون مواربة، فترسل رئيس استخباراتها إلى دمشق، وتعلي صوتها وتأمر دمشق بالإسراع في «حل قسد» وترسيخ الدولة المركزية الرافضة للإدارات المحلية والخصوصيات المجتمعية. تريد تركيا دولة مركزية شمولية بهوية وتفسير أحادي تتبع لأوامر وتوجيهات من أنقرة دون أي مراعاة لمصالح الوطن السوري ولا خصوصيات مكونات الشعب السوري.
ما تقوم به تركيا هو إفراغ الدور العربي من مضمونه وسد الطرق أمام تفعيل دور سوريا في «محور الاعتدال العربي»، عبر الإسراع إلى فتح قنوات الاتصال مع إسرائيل والموافقة على كل شروطها، فضلاً عن محاولتها تشكيل لجنة على عجل تضم كل من تركيا وسوريا والولايات المتحدة والعراق لمتابعة وضع معتقلي تنظيم داعش في السجون السورية (سجون الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا). والهدف فرض كل ذلك كواقع وحقيقة على الجميع. ولا تنسى أنقرة هنا الإبقاء على هيكلية الميليشيات التابعة لها فيما يسمى «الجيش الوطني السوري» الذي يضم عشرات الآلاف من المقاتلين الذين يأتمرون بأمر وزارة الدفاع التركية ويقبضون رواتبهم منها، وما يزال الآلاف منهم يقاتلون كمرتزقة (مفرغين لمهام خارجية) في ليبيا والنيجر والصومال لصالح الميليشيات والسلطات المحلية، من تلك المؤيدة للدولة التركية. إن الميليشيات التابعة لتركيا التي تسيطر على المناطق التي احتلتها أنقرة في شمال وغرب سوريا هي هراوة تلوح بها أنقرة في وجه سلطة دمشق. وعلاوة عليها، ثمة حركة متسارعة لبناء قواعد ومطارات عسكرية تركية في تلك المناطق بدون أخذ أي إذن من دمشق أو حتى إطلاع وزارة الدفاع السورية على ما يجري على الأرض من تغلغل عسكري تركي مباشر، ناهيك عن نفوذ وتواجد ميليشيات «الجيش الوطني السوري» التي تعمل مستقلة عن أوامر سلطة دمشق.
التحرك التركي الهادف لتطويق المساعي العربية الأخيرة وفك الارتباط بين السلطة في دمشق والدول العربية (السعودية والإمارات خاصة) يسير في اتجاهات عديدة وبنبرة وفعل وصائي واضح لا يخرج عن الفهم الرسمي لنخبة أنقرة في اعتبار سوريا كلها منطقة نفوذ وحديقة خلفية ومصرف بضائع ليس إلا. ولعل زيارة الشرع لإسطنبول تظهر رغبة أنقرة الجامحة في الاطلاع على المستجدات التي حصلت بمعزل عنها، وربما لتزويد الشرع بمطالب/أوامر أنقرة التي تراعي مصالحها ورؤاها التي قد لا تتفق بالضرورة مع مصالح ورؤى الجانب السوري، ومن خلفه الداعم العربي.