ممر جديد للطاقة شمال الشرق الأوسط.. ما الترتيبات السياسية؟

المركز الكردي للدراسات
في خلفية أحداث كبرى تشهدها منطقة الشرق الأوسط، من حروب أهلية وثورات وانهيارات اقتصادية، تنطلق مشاريع كبيرة تحت ركام الصراعات. وأحياناً لا تخلو التحليلات من مبالغات ترى في التنافس الاقتصادي على الممرات والطرق التجارية الجذر الأعمق لصناعة السياسات وبناء الدول أو تحطيمها.
ورغم الحديث الكثير في الاستراتيجيات الأميركية والأوروبية عن تراجع أهمية منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً شرق المتوسط، فإن جاذبية هذه المساحة التاريخية ما زالت قوية سواء للبناء (على شكل استثمارات يلهث خلفها رئيس أقوى دولة في العالم) أو الهدم حيث نوايا الإبادة السكانية لمجموعات كاملة ما زالت تشغل الحيز الأكثر نشاطاً في السياسات المضمرة في هذه المنطقة. والملفت أن المضمر والمسكوت عنه هو المحرك الأساس للدينامية المتوحشة في هذه الأرجاء، وتتبع المجموعات الواقعة تحت التهديد مسارات مختلفة – غير مضمونة – للنجاة.
وعلى قدر اشتغال القوى الأكثر عنفاً على رؤى تطهيرية – إبادوية – واستعبادية لـ«الأسياد الأحرار»، تُرسم خرائط اقتصادية جديدة ليس فيها عائد للقوى المحلية سوى الحصول على رخصة للانتهاكات وضمان عدم المحاسبة من الأقوياء الدوليين. يمكن في هذا الإطار تفسير كثير من السياسات الإقليمية ومقايضتها ثروات البلاد بالبقاء في الحكم.
قد تفيد هذه المقدمة في قراءة صدام للمشاريع في الشرق الأوسط تدفع ثمنها شعوب ومجتمعات بدون أن يكون لها فرصة التعبير أو المشاركة، من طريق الحرير الصيني (الحزام والطريق) إلى طريق التوابل (الهندي- الخليجي- الإسرائيلي) وطريق التنمية العراقي- التركي، وممر الشمال- الجنوب الإيراني- الروسي، وممر الأرز الروسي- الصيني. يفاقم الصدام بين هذه الطرق النزعات الدموية في الشرق الأوسط.
آخر المشاريع المطروحة هو ممر للطاقة والتجارة بين آسيا وأوروبا يعرف مبدئياً بممر بحر قزوين، الذي اندلعت على هامشه الحرب الأذربيجانية- الأرمنية الأخيرة. فقد بدأت كازاخستان أعمال حفر في قاع بحر قزوين حول مينائها الرئيسي بهدف زيادة الطاقة الاستيعابية للممر. ويدعم الأوروبيون هذا المشروع إذ يسمح بتجاوز روسيا.
يُتوقع أن تنتهي أعمال التجريف بحلول نهاية العام. والهدف زيادة القدرة الاستيعابية للسفن في ميناء أكتاو والنقل على طول ممر الشحن في بحر قزوين. والممر عبر بحر قزوين معروف أيضاً باسم «الممر الأوسط» وهو طريق تجاري بديل للممر الشمالي عبر روسيا الذي تعبر من خلاله كل البضائع المشحونة بين الصين وأوروبا تقريباً.
ودفعت الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية المفروضة على موسكو الأوروبيين إلى تأهيل ممر بحر قزوين الذي سيتيح أيضاً تقليص فترة الشحن من الصين إلى أوروبا من خلال عبور طريق بحري يمتد من آسيا الوسطى إلى بحر قزوين والقوقاز وتركيا. وأعلن الاتحاد الأوروبي أنه سيستثمر عشرة مليارات يورو لتطوير هذا الممر التجاري عبر آسيا الوسطى.
من المتوقع أن يتضاعف حجم الشحن السنوي من نفط وحبوب وحاويات وغيرها بحلول العام 2030 ليصل إلى 11 مليون طن، في حال توافر استثمارات بحسب البنك الدولي. ولكن تراكم الرمال في بحر قزوين يعرض هذا الممر للخطر. وفي مطلع مايو/أيار، حذرت إدارة ميناء أكتاو الكازاخستاني من عواقب تراكم الرمال على النقل البحري، حيث لم يكن ممكناً تحميل سفن الشحن وناقلات النفط بكامل طاقتها. والمعروف أن بحر قزوين مغلق ويوصف بأنه أكبر بحيرة في العالم بمساحة 371 ألف كيلومتر مربع، ما يزيد عن مساحة ألمانيا. ويحد هذا البحر خمس دول هي أذربيجان وإيران وكازاخستان وروسيا وتركمانستان.
من شأن هذا الطريق الجديد في طور الإنشاء منافسة مسارات عديدة أبرزها مسار أو ممر الأرز الروسي الذي عاد إلى الأضواء في ربيع 2021 حين تعطلت الملاحة في السويس إثر غرق سفينة ملاحية عملاقة. فقد أعرب الملياردير الروسي أوليغ ديريباسكا عن أمله في أن تقوم شركة السكك الحديدية الروسية، التي تديرها الدولة، بإلقاء نظرة جديدة على خدمات النقل في البلاد في ضوء الحدث الكارثي على أحد أهم الممرات المائية في العالم. فلدى روسيا عدة مشاريع يمكن أن تصبح بسهولة بديلاً مناسباً للقناة المصرية، وأهمها تطوير سكة الحديد العابرة لسيبيريا التي تربط موسكو بالشرق الأقصى الروسي. في فترة ذروة أزمة وباء كورونا التي عرقلت التوريد العالمي، استفادت روسيا من سكة حديد سيبيريا الذي يعرف بـ«مسار الأرز»، إذ ضاعفت الصين البضائع المنقولة بالسكك الحديدية عبر روسيا وآسيا في الشهرين الأولين من 2020، حيث أجبر ارتفاع الأسعار والتسليم البحري الطويل بكين على زيادة النقل بالسكك الحديدية.
لكن روسيا كانت ترسم لمستقبل أكثر طموحاً، وهو تغيير مسار المشروع الصيني (الحزام والطريق) كلياً، ليكون مسار النقل البري عبر روسيا إلى أوروبا.
كان الطرح الروسي مدعوماً بثلاثة عوامل، إذ أعرب وزير الدفاع الروسي السابق سيرغي شويغو في 7 سبتمبر/أيلول 2020 عن تأييده لمبادرة إنشاء «مسار الأرز». وليس خفياً أن مثل هذا الطموح يتطلب إعداداً جيوسياسياً مسبقاً، وهو ما يتقاطع مع الأحداث في منطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا. ففي مقابلة أجرتها قناة «روسيا اليوم» الناطقة باللغة العربية مع وزير الدفاع الروسي آنذاك قال: «كانت سيبيريا منذ زمن طويل جزءاً من طريق الحرير الكبير.. يجب إنشاء مسار الأرز الحديث ليكون طريقاً آمناً وفعّالاً بين أوروبا والصين». وأضاف شويغو: «تبلورت ضرورة إنشاء مثل هذا الممر الآمن للنقل بشكل واضح منذ فترة طويلة، خاصة عند استذكار الأحداث الأخيرة المتعلقة بانسداد قناة السويس وهجمات القراصنة، وكذلك الأوضاع الراهنة في أفغانستان».
الرؤية الروسية مبنية على عوامل عديدة حينها قبل شنها الحرب على أوكرانيا، أولاً: عدم انسيابية النقل عبر قناة السويس. ثانياً: عدم استقرار الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، والتي تفاقمت في الوقت الحالي بالنظر إلى الأحداث في سوريا وإسرائيل وغزة، وهي دول على تماس مباشر أو غير مباشر مع المسار الصيني المعلن. ثالثاً: انهيار الحكومة الأفغانية وسيطرة حركة طالبان على البلاد.
فعلياً، دعمت هذه التحديات الثلاثة بقوة «مسار الأرز». وفي الوقت نفسه، مثّلت الصراعات المتفجرة على المسار النظري للطريق الصيني عائقاً كبيراً قد يدفع بكين إلى إعادة نظر شاملة، في ظل تراجع التدفقات المالية في الآونة الأخيرة، والتفكير في البديل الروسي كخيار متاح.
غرقت الرؤية الروسية في العديد من العوائق أبرزها الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية الثقيلة رغم الانفتاح الأمريكي في عهد دونالد ترامب. وفي الجزء المتعلق بالشرق الأوسط، فإن الرؤية الصينية معطّلة كلياً إلى الوقت الحالي. وهناك نشاط صيني على جانبي أفريقيا على شكل استحواذات على موانئ واحتكار لتطوير البنى التحتية في العديد من دول القارة الأفريقية.
كذلك بالنسبة للممر الهندي الخليجي الإسرائيلي، فإن الحرب في غزة جعلت تنفيذ المشروع مؤجلاً إلى أن تتضح نتائج الحرب. وربما يدفع اجتماع كل هذه العوامل قدماً بممر قزوين ليخترق مناطق هي الأكثر استقراراً مقارنة بالممرات المنافسة. فالهدنة والتطبيع بين أذربيجان وأرمينيا وعملية السلام بين الكرد والدولة التركية، عاملان يسهّلان مثل هذا المشروع التجاري بين وسط آسيا وأوروبا، ويقلل من التهميش التجاري لتركيا على مسارات الأموال والبضائع.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد