محمد سيد رصاص
منذ بداية الأزمة السورية، هناك أردوغان مع الرئيس الأميركي باراك أوباما بين عامي 2011 – 2016 في مرحلة تحالف بينهما حتى عام 2013 وتفارق بعد هذا العام، وهناك أردوغان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ لقائهما في 9آب/أغسطس2016 بعد ثلاثة أسابيع من محاولة الانقلاب العسكري على الرئيس التركي وحتى اتفاقهما حول الوضع في محافظة إدلب في 5آذار/مارس2020.
في المرحلة الأميركية لأردوغان، كان هناك قطيعة مع السلطة السورية مارستها واشنطن وأنقرة معاً بنفس شهر آب/أغسطس2011، ثم كانت طريقة الدعم الأميركية لقيام “المجلس الوطني السوري”، المولود تحت الرعاية التركية بتوأم من إسلاميي “الإخوان المسلمون” وليبراليي “إعلان دمشق”، توحي بأن هناك نية أميركية لتكرار السيناريو الليبي في سوريا من خلال قيام مجلس محلي معارض يطلب تدخلاً عسكرياً خارجياً لحماية المدنيين يتم تشريعه عبر قرار من مجلس الأمن الدولي مع دور تركي لقيادة تلك العملية العسكرية يشبه الدور الفرنسي في قيادة العملية الليبية ضد نظام القذافي مع قيادة أميركية من الخلف حسب تعبير أوباما، وهو ما أفشلته موسكو في 4 تشرين الأول/أوكتوبر بـ”فيتو” في مجلس الأمن عندما قدم قرار يخص سوريا لهناك بعد يومين من قيام مجلس اسطنبول، بإعلان من موسكو بأن موقفها الليبي لن يتكرر في سوريا.
وقد كان هذا التنسيق الأميركي- التركي في سوريا متزامناً مع رعاية الأميركان لعملية تنصيب جماعة الإخوان المسلمين كبدلاء عند واشنطن لأنظمة سقطت في تونس ومصر، وكشركاء في أنظمة جديدة أعقبت سقوط حكام في ليبيا واليمن، وكشركاء في الحكم مع الملك عبر عملية انتخابية جرت في المغرب جعلت الإسلاميين يتولون رئاسة الحكومة أواخر عام2011. هنا، لم تكن عملية تشكيل مجلس اسطنبول خارج هذا السياق عند أردوغان، والأرجح أنها كانت تصل عنده إلى وضع الأصوليين الإسلاميين الإخوانيين في دمشق كحكام تابعين له برضا واشنطن في الوضع الشبيه الذي كان للأصوليين الاسلاميين الشيعة من حزب الدعوة في بغداد من حيث تبعيتهم لخامنئي في طهران، وهو الذي صرح آنذاك بأنه “سيصلي قريباً في الجامع الأموي” في لحظة كانت ذروة الخلاف مع السلطة السورية، وفي وقت كانت أنقرة تشجع العنف السوري المعارض وتدعمه وتوفر الظهير المكاني له وتيسر التمويل المالي الآتي عبرها له من قطر. هنا أيضاً، كان وقوف موسكو بالتحالف مع طهران مع السلطة السورية ضد خطة أوباما- أردوغان السورية، قد جعل هذه الخطة تلاقي الفشل ، وجعل الأزمة السورية تنتقل إلى مدار تكون فيه مدخلاً لكي تصبح سوريا مكاناً للصراع على سوريا ومكاناً للصراع في سوريا لقوى دولية وإقليمية طوال الفترة المنصرمة عن خريف عام2011.
في عام 2013 تبدلت الأمور بين واشنطن وأنقرة مع تراجع الأميركان عن تحالفهم مع الإسلاميين الإخوانيين، وهو ما توضح في صيف ذلك العام مع سقوط حكم الإسلاميين في مصر بدعم أميركي غير معلن ولكن يمكن لمسه، وهو ما انعكس توتراً بين أردوغان وأوباما في سوريا وافتراقاً، كان أحد مظاهره عند الأميركان اتجاههم للتنسيق مع موسكو في سوريا عبر الاتفاق مع الروس حول السلاح الكيماوي السوري (14أيلول 2013)، وهو ما أنتج القرار الدولي 2118 الذي دعا لمؤتمر “جنيف2” ولتفعيل بيان “جنيف1″، ثم الاتفاق الأميركي- الروسي على الدخول الروسي العسكري إلى سوريا (30 أيلول/ سبتمبر 2015) في ظرف اجتاح فيه الإسلاميون المسلحون بتشجيع من أنقرة محافظة إدلب وسهل الغاب ووصلوا لمشارف اللاذقية وحماة وحمص، الأمر الذي أنتج القرار الدولي 2254 ومؤتمر “جنيف3” بين السلطة السورية و(هيئة المفاوضات)، وهو مؤتمر أفشله رياض حجاب بتشجيع من أردوغان، الذي كان بلحظتها في حالة خلاف مع أوباما وبوتين معاً، وكان أردوغان لا يكتفي وقتها بتشجيع جبهة النصرة على الهجوم على منطقة الراموسة بحلب بصيف 2016 بل كان يرى مصلحة تركية في تمدّد تنظيم داعش داخل الأراضي السورية في وقت تشكل برعاية واشنطن وموسكو تحالف دولي منذ صيف 2014 ضد داعش. وقد منعت أنقرة التنظيمات المسلحة السورية المعارضة من الاشتراك في الجهد الدولي ضد داعش، فيما كانت (وحدات حماية الشعب) ثم (قوات سوريا الديمقراطية- قسد) هم الجهة المسلحة السورية الوحيدة التي شاركت في الجهد الدولي ضد داعش.
بعد محاولة الانقلاب العسكرية ضده في 15 تموز/يوليو 2016، والتي رددت أنقرة الكثير من المؤشرات على ضلوع واشنطن بها، بدأت تلاقيات أردوغان مع بوتين، وقد باع أردوغان المعارضة المسلحة في الغوطة وشمال حمص وحوران مقابل أن يأخذ، بموافقة الروس، سيطرة عسكرية تركية على خط جرابلس- الباب- إعزاز (آب2016- شباط2017) وعلى مدينة عفرين ومنطقتها ( كانون ثاني- آذار 2018) وعلى خط تل أبيض- رأس العين (سري كانيه) في تشرين الأول 2019. وعندما نشب القتال في محافظة إدلب أوائل عام 2020 بين السلطة السورية والمعارضة المسلحة، دخل الروس للتهدئة، وأرادوا أن تكون إدلب هي منطقة خفض التصعيد الرابعة، على غرار شمال حمص والغوطة وحوران، وعندما عقد بوتين اتفاق 5 آذار2020 مع أردوغان في موسكو كان نص الاتفاق يقول بفتح خط (إم 4) الرابط بين اللاذقية وحلب عبر محافظة إدلب وبالتعامل مع (هيئة تحرير الشام- النصرة) كتنظيم إرهابي يجب نزع سلاحه وبتسوية أوضاع المسلحين المعارضين الباقين وفق ما تم في مناطق خفض التصعيد الثلاث السابقة مع دخول الإدارة السورية الحكومية لمحافظة إدلب. ولكن أردوغان لم ينفذ اتفاقه مع بوتين، وتوحي الأربع سنوات السابقة بأن خطط الرئيس التركي تجاه المناطق السورية التي يسيطر عليها الآن تحوي الكثير من الأجندة “التتبيعية” لتلك المناطق لأنقرة في الاقتصاد والتعليم والبنية التحتية مع فرض سيطرة عسكرية- أمنية تركية مباشرة مع واجهات إدارية مثل “حكومة الإنقاذ” في إدلب و”الحكومة المؤقتة” شمال حلب، مع تعاون تركي وثيق مع الجولاني.
على الأرجح، أن هذه الخطط التركية التتبيعية لمناطق سورية يسيطر عليها الأتراك، بشكل يذكر بما جرى للواء اسكندرون بين عامي1937و1939عندما تم ضمه بعد سنتين من التتبيع التدريجي له، هي السبب في فشل المحادثات السورية- التركية برعاية روسية على مستوى وزراء الخارجية والدفاع وعلى مستوى استخباراتي رفيع، أواخر عام 2022 وأوائل 2023، وخاصة عندما وضعت السلطة السورية شرط الانسحاب العسكري التركي من الأراضي السورية كشرط مسبق للتطبيع بين دمشق وأنقرة، فالانسحاب العسكري التركي يعني انهيار حبات المسبحة التركية كلها في سوريا بعد انقطاع خيطها، وأردوغان خلال تلك المحادثات، حسب ما أوردت وسائل إعلام تركية، لم يقبل بالانسحاب العسكري مقابل إعادة تفعيل اتفاقية أضنة لعام 1998، ولو مع محاولة توسيع نطاقها الجغرافي، ولا مقابل مكاسب اقتصادية تركية من خلال فتح خط الترانزيت البري المار من أوروبا عبر أراضي تركيا وسوريا والأردن إلى منطقة الخليج، ولا مقابل حلول عرضت لعودة اللاجئين السوريين في تركيا إلى بلدهم وهم الذين كانوا آنذاك موضوعاً ساخناً ضده قبيل أشهر من الانتخابات التشريعية والرئاسية بربيع 2023 استغلته المعارضة التركية.
الآن، هناك أردوغان ثالث، أو ملامح لإرهاصات ذلك، تختلف عن أردوغان أوباما، وأردوغان بوتين، ويبدو أن سبب ذلك هو ماجرى في أيلول/سبتمبر2023عندما تم التوقيع في نيودلهي على مشروع (الممر الهندي) لتكون هناك قناة برية جافة تمتد من الساحل الإماراتي عبر السعودية والأردن تصل للساحل الاسرائيلي لنقل البضائع عبر طرق برية وسكك حديد وأنابيب طاقة من الغاز والنفط بين القارتين الآسيوية والأوروبية تمتد من الساحل الهندي إلى الساحل الايطالي( وربما أيضاً اليوناني) وبالعكس.
في (الممر الهندي) هناك استبعاد لباكستان وإيران والعراق واليمن ومصر ولبنان وسوريا وتركيا، وهناك أرجحية بأنه موجه ضد مشروع (الحزام والطريق) الذي طرحته الصين عام 2013 كطريق واصل لها برياً إلى أوروبا عبر باكستان – إيران – العراق – سوريا ومنه إلى أوروبا عبر خطي إيران- تركيا وخط إيران – العراق- سوريا- تركيا، مع أهمية قصوى لخط النقب – غلاف غزة الذي يمر فيه (الكوريدور الهندي) قبل أن يصعد عبر عسقلان إلى مصبه البري الأخير في مرفأ حيفا.
هناك ثلاثة أسابيع تفصل توقيع (الممر الهندي) عن يوم (7 أكتوبر) الذي أعلنت من خلاله حركة حماس عبر عمليتها بأن غلاف غزة منطقة غير آمنة، وسط رضا ضمني من طهران وأنقرة وموسكو وبكين. وكان هناك وقبل أسبوع من توقيع (الممر- الكوريدور الهندي) قد جرى وضع حجر الأساس لربط خط سكتي الحديد الإيرانية- العراقية بين الشلامجة والبصرة، وهو مايعني أن سكة حديد ستصبح ممتدة عبر باكستان – إيران- العراق- سوريا- تركيا بين الصين والقارة الأوروبية وهو ما سيشكل عصب مشروع (الحزام والطريق) الذي طرحه الرئيس الصيني غداة توليه مسؤولياته كمشروع رئيسي للدور الاقتصادي الصيني في مداره الغربي عام 2013. وأيضاً ، والأرجح أن خط الشلامجة – البصرة ، ومعه (الحزام والطريق) ، يرتبطان بما طرح في بداية عام 2023 كمشروع تمت تسميته ب”القناة الجافة” لوصل بري عبر أوتوسترادات وسكك حديد بين مرفأي الفاو- مرسين والفاو- اسطنبول عبر البصرة- الديوانية- النجف – كربلاء- بغداد- الموصل – زاخو.
هنا، يمكن تفسير العمليات العسكرية المكثفة خلال سنتي 2023 و 2024 التي أجراها الأتراك في منطقتي زمار وسنجار وعند المثلث الحدودي التركي- العراقي- السوري بإقليم كردستان العراق من خلال تفكير الأتراك بـ”القناة الجافة”، ويلفت النظر هنا تفكير بغداد وأنقرة في استبعاد إقليم كردستان من أن يكون ممراً لمشروع القناة الجافة. وكذلك يلفت النظر في أيار/ مايو الماضي تصريح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عندما طالب الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان العراق بإخراج قوات “وحدات مقاومة سنجار” من منطقة سنجار (شنكال) وجنوب منطقة زمار التي تسيطر عليها منذ عام2017 بعد إخراج قوات داعش من هناك، ويتهم الأتراك هذه القوات بموالاة حزب العمال الكردستاني، وهي تسيطر أو تهدد أمنياً أجزاء من طريق “القناة الجافة”.
من الممكن هنا التفكير في تصاعد التصريحات التركية منذ نهاية أيار/مايو الماضي تجاه المصالحة مع دمشق وربطه بتصريح فيدان حول منطقة سنجار وزمار من حيث أن طريق العراق- تركيا غير آمن، وبالتالي التفكير بطريق سوري للقناة الجافة إلى تركيا، ومعها الحزام والطريق، عبر الناصرية- السماوة -النجف – كربلاء – الفلوجة – الرمادي- القائم- البوكمال- الميادين- ديرالزور، ومن هناك إلى معبري (باب السلامة) شمال حلب و(باب الهوى) غرب إدلب. كما يجب ربط تلك التصريحات بتوترات تتصاعد داخل المجتمع التركي ومنها مدن مثل قيصرية، أحد المعاقل لحزب أردوغان، ضد اللاجئين السوريين بظل الأزمة الاقتصادية التركية، وحاجة تركيا إلى الأوكسجين السوري سواء عبر طريق الترانزيت إلى الخليج أو عبر “القناة الجافة” و”الحزام والطريق” إضافة إلى إعادة اللاجئين السوريين إلى سوريا كوسيلة عند أردوغان لتخفيف الاحتقان المجتمعي التركي ضدهم وضده.
الآن، هناك أسئلة كثيرة ،وقضايا عدة، هي التي تشكل المفتاح إلى موضوع (أردوغان وسوريا): أولها، هل يتخلى الرئيس التركي عن خطط ظل يرسمها وينفذها منذ عام 2011، وبعضها يصل إلى خطط توسعية تركية في الأراضي السورية، مقابل مكاسب اقتصادية؟…السؤال الثاني: إن انخرط أردوغان في مشروع المصالحة مع دمشق، برعاية روسية ورضا إيراني وصيني، فهذا يعني بطريقة أو بأخرى انضماماً تركياً إلى ثالوث بكين- موسكو- طهران الذي تشكل عام 2022 مع الحرب الأوكرانية كمحور يواجه واشنطن وحلفائها في حلف الأطلسي وفي اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، مع حياد الهند وترجرج موقفها، على نطاق العالم في ملامح لحرب باردة جديدة بدأت تأخذ منحى عالمياً، وبالتالي انشقاق أردوغان عن حلف الأطلسي- الناتو، واتجاهه شرقاً. فهل تسمح واشنطن لأنقرة بذلك؟.. السؤال الثالث: ألا يشكل إصرار بوتين على مصالحة أنقرة- دمشق اتجاهاً عنده لجعل تركيا في الطريق الأوراسي بدلاً من الطريق الأطلسي الغربي، وبالتالي بداية تقويض (الناتو) من خلال أول انشقاق في هذا التحالف منذ ولادته عام 1949، وهو ماحاول ديغول فعله ولو بشكل أوّلي من خلال انسحابه عام 1966من الجناح العسكري للناتو، وربما كان هذا سبباً في سقوطه بعد ثلاث سنوات، فهل تسمح واشنطن لبوتين وأردوغان بذلك؟