ألمانيا الجديدة.. جيش عملاق لمواجهة روسيا وإجراءات طاردة للمهاجرين

د. طارق حمو 
توصل كل من حزبي الإتحاد الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى اتفاق يفضي بتشكيل حكومة ائتلافية، بعد مرور أسابيع على الانتخابات البرلمانية التي جرت في 23 فبراير/شباط 2025، والتي أسفرت عن نتائج وصفها محللون بأنها تمثل تغييراً جذرياً في المشهد السياسي الألماني. وأتى ذلك بعد التصدر الكبير لحزب البديل من أجل ألمانيا اليميني، والذي حصل على نسبة 20,8% محتلاً المرتبة الثانية، فيما حصل الإتحاد الديمقراطي المسيحي وحليفه الإتحاد الاجتماعي المسيحي البافاري على 28,6%، والحزب الاشتراكي الديمقراطي على 16,4% وحزب الخضر على 11,6% وحزب اليسار على 8,8%، فيما لم يتمكن كل من تحالف سارا فاغنكنيشت والحزب الليبرالي الحر عمن اجتياز الحاجز الانتخابي المتمثل بـ5% من الأصوات، وبالتالي بقيا خارج البرلمان الألماني.
وجاءت الموافقة الأولية على تشكيل حكومة ائتلافية إثر مفاوضات طويلة جرت بين الحزبين الذين احتلا المرتبة الأولى والثالثة في الانتخابات البرلمانية. وتم الاتفاق على توزيع المقاعد الوزارية، ومن المنتظر الآن إجراء استطلاع بين الأعضاء والقواعد في الحزبين للموافقة على تشكيلة وبرنامج الحكومة الائتلافية، وبالتالي انتخاب فريدريش ميرتس (69 عاماً) رئيس الإتحاد الديمقراطي المسيحي مستشاراً لألمانيا. ومن المأمول أن يكون ذلك في الأسبوع الأول من شهر مايو/ أيار 2025.

مجابهة الركود الاقتصادي

من أولى مهام الحكومة الائتلافية القادمة العمل على تحسين حالة الاقتصاد الألماني، الذي يشكل الاقتصاد الأكبر في القارة الأوروبية ويعاني الآن من بطء في النمو وركود وانكماش واضح. وكان ميرتس أعلن نيته خفض الضرائب المفروضة على الشركات، وتحدث عن أقل من 25% من الضرائب عوض نسبة 30% المعمول بها حالياً، لتشجيع الشركات على العمل بغية تنفيذ مشاريعها في التطوير والابتكار، وبالتالي تحسين جودة ونوعية الإنتاج للمنافسة في الأسواق العالمية. وقدّرت مؤسسة الضرائب الأوروبية أن اجراء الحكومة القادمة لعملية تخفيض الضرائب على الشركات المصنعة والمطوّرة في ألمانيا بالنسبة التي يطمح إليها ميرتس، سوف يؤدي إلى تعزيز كل من الاستثمار في البلاد بنسبة 1,4% وزيادة الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1% ورفع متوسط الأجور بنسبة 0,8%.
كذلك تحدث ميرتس عن تخفيض أسعار الطاقة لتشجيع قطاع الصناعة في البلاد. وكانت أسعار الطاقة ارتفعت في ألمانيا بشكل كبير جراء تخلي برلين عن الغاز الروسي الرخيص في اطار العقوبات التي فرضها الإتحاد الأوروبي على موسكو إثر الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، وهو ما ساهم في القاء أعباء إضافية على كاهل الشركات الصناعية وقطاع الإنتاج في البلاد جراء تضاعف أسعار الغاز والكهرباء، ما أضطر الحكومة السابقة إلى تحمل جزء من تكلفة سعر الطاقة لكل الشركات والمنازل لعام واحد في إطار الإجراءات المتخذة لحماية قطاع الصناعة في البلاد من تداعيات الأزمة الناتجة عن توقيف ضخ الغاز الروسي. كما اضطرت الحكومة إلى استيراد الغاز من الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبية وأخرى شرق أوسطية بأسعار مرتفعة قياساً بالغاز الروسي.
كما اتفق الائتلاف الحكومي الجديد على تحويل الإعانة الاجتماعية المقدمة للأسر والأشخاص غير القادرين على العمل، والمعروفة بإسم أموال المواطنين (Bürgergeld) وعدد هؤلاء يزيد عن 5,4 مليون شخص، إلى نظام إعانة جديد أسمته التأمين الأساسي (Grundsicherung)، وحجب نظام الإعانة هذا عن لاجئي الحرب والأزمات، وهم في المقام الأول الأوكرانيين، الذين تدفق أكثر من 1,3 مليون منهم إلى ألمانيا، (بعضهم قدم من دول الجوار الآمنة) للاستفادة من نظام الإعانة الاجتماعية القديم السخي الذي اعتمدته الحكومة السابقة (حوالي 50 مليار يورو لعام 2024).
كما تعتزم الحكومة الجديدة دعم ميزانية البلديات التي تعاني من ديون وعجز ناتج في الأصل عن استقبال ورعاية وتأهيل الأعداد الكبيرة من اللاجئين، وذلك بتخصيص مبلغ 250 مليون يورو سنوياً لرعايتها، كنصف حصة في حال تولي الولايات منح البلديات قروض جديدة غرضها سد العجز في الميزانية وتطبيق برامج التطوير واستكمال خطط تحديث البنية التحتية. وبحسب البنك الألماني، فإن البلاد تحتاج في عام 2026 إلى حوالي 30 مليار يورو لتطوير البنية التحتية، وفي عام 2027 إلى ما مجموعه 60 مليار يورو، وفي 2028 إلى تخصيص 40 مليار لاستكمال أعمال البناء والتأهيل والصيانة في البنية التحتية التالفة والمتهالكة في البلاد.
وما يزال الاقتصاد الألماني يعاني ركوداً واضحاً، حيث نقل عن معهد «إيفو» للبحوث الاقتصادية بأن نسبة النمو للعام الجاري 2025 لن تزيد عن 0,4%، وهو أقل المعدلات المتوقعة في جميع البلدان الصناعية الأخرى. وفيما يخص العامين القادمين 2026 و2027، من المتوقع أن تكون معدلات النمو ما بين 1% إلى 1,3%. وبهذا، سيبقى النمو أقل من المتوسط العام في البلدان الصناعية التي كانت لسنوات تلهث جاهدة لمجاراة الصناعات والتقنيات الألمانية. وكان الاقتصاد الألماني سجل انكماشاً بنسبة 0,2% في 2024 للعام الثاني على التوالي، وهو ما أدخله في أطول فترة ركود منذ 20 عاماً. وترجع أسباب ركود الاقتصاد الألماني إلى فرض الحكومة ضرائب كبيرة على قطاع الصناعة والابتكار، وإلى البيروقراطية ونقص الخبرات والعمالة الماهرة التي تفضل دولاً أخرى تقدم امتيازات أفضل، حيث أن ألمانيا لم تعد منذ سنوات السوق الجاذبة للعقول والمهارات والخبرات، بالإضافة إلى تردي الخدمات العامة وحاجة البنية التحتية من شبكات طرق وجسور وخطوط إمداد وأبنية ومؤسسات إلى صيانة وإعادة تأهيل، ولجوء الحكومات السابقة إلى الانفاق الكبير الضخم على مشاريع غير منتجة مثل إجراءات حماية البيئة واستقبال ملايين اللاجئين، ولاحقاً الاستثمار في بناء الجيش والقدرات الدفاعية الألمانية.

تشديد سياسة اللجوء والهجرة

اتفق الائتلاف الحكومي الجديد على تشديد الإجراءات فيما يخص سياسة الهجرة واستقبال طالبي اللجوء. ونقل عن ميرتس قوله إن الحكومة القادمة ستعمل على إنهاء كل من برنامج استقبال اللاجئين الخاص بألمانيا وبرنامج إعادة التوطين التابع للأمم المتحدة، كما ستعمل على تنظيم عمليات ترحيل وإبعاد كبيرة، بشكل خاص إلى كل من سوريا وأفغانستان، وإطلاق حملة لإعادة طالبي اللجوء طوعاً إلى بلدانهم. وبموازاة ذلك، ستعمد الحكومة إلى زيادة الضغوط على هذه البلدان لاستقبال مواطنيها الذين رفضت ألمانيا طلبات لجوئهم. كذلك ستعلق الحكومة برنامج لم الشمل الأسري لمن حصل على الإقامة المحدودة بسنتين/الحماية الثانوية (الذي أقرته المستشارة السابقة أنجيلا ميركل عام 2015 عندما أمرت بفتح الحدود لاستقبال مليون لاجئ سوري عبروا بلدان أوروبية آمنة متوجهين إلى ألمانيا، وسارت الحكومة السابقة على نهجها، والتي أصدرت فقط في عام 2024 ما مجموعه 120 ألف تأشيرة دخول في إطار لم الشمل لأفراد عائلات اللاجئين الذين يتمتعون بالحماية الثانوية).
كما ستعمل الحكومة القادمة على إعادة اللاجئين القادمين من دول جارة وإبعادهم إلى المكان الذي قدموا منه، أي إلى ما وراء الحدود الوطنية لألمانيا، وكذلك تصنيف دول جديدة كدول آمنة لا يقبل لجوء الأفراد القادمين منها. ويقول محللون إن ميرتس وحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي فرضا رؤيتهما بخصوص تشديد الإجراءات لمنع الهجرة وفرض شروط جديدة من شانها أن تعيق تدفق طالبي اللجوء إلى ألمانيا باعتبارها دولة تتساهل في قبول اللاجئين وتمنحهم مزايا مادية ورعاية طبية واجتماعية وسكنية مجانية مغرية. ونقل عن ميرتس إن الحكومة ستعمل على تخفيض عدد طالبي اللجوء إلى أقل من 100 ألف طالب لجوء سنوياً، مشيراً إلى الضغط الذي تشكله الأعداد الكبيرة من طالبي اللجوء على مؤسسات البلاد وبنيتها التحتية. وكانت ألمانيا سجلت ما يقارب من 230 ألف طلب لجوء عام 2024، أي أقل بحوالي 100 ألف طلب لجوء عن العام السابق 2023.
وتعتقد الحكومة الجديدة بأن إصلاح برنامج الإعانة الاجتماعية، بحيث لا يتمكن اللاجئون القادمون من الحصول على امتيازات كانت متاحة سابقة وتحويل المعونات النقدية إلى أخرى عينية، سيشكل إجراء رادعاً يحول دون تدفق طالبي اللجوء إلى ألمانيا، وبالتالي مواصلة ارهاق نظام الضمان الاجتماعي الذي أسس خصيصاً لمساعدة المواطنين الألمان غير القادرين على العمل. كما سيمنع النظام الجديد اللاجئين من إرسال الأموال لذويهم ولشبكات التهريب التي جاءت بهم من بلدانهم إلى ألمانيا ووسط أوروبا.

الدفاع

عمدت الدولة الألمانية، بعد سقوط جدار برلين وتحقيق الوحدة بين شطري البلاد، إلى تخفيض النفقات العسكرية والإبقاء على جيش صغير محدود الإمكانات، رسم له القانون مهمة واحدة وهي حماية الحدود والدفاع عن البلاد في وجه الهجمات الخارجية. ولم يكن القانون الألماني يسمح بإرسال قوات إلى خارج الحدود، وهو ما تم تعديله لاحقاً عندما قررت برلين إرسال قواتها إلى أفغانستان بعد عام 2002 في إطار مهام الأمم المتحدة لحفظ الأمن هناك.
وظل الجيش الألماني يعاني سوء تسليح ونقص في أعداد الجنود والضباط المختصين. وكان من الواضح أن البلاد تعتمد بشكل رئيسي على الحلفاء في حلف الناتو في مهام تأمين الحماية الإستراتيجية لها. لكن هذا الواقع تغير بعد عام 2014 عندما اتفق أعضاء الحلف على إنفاق ما مجموعه 2% من الناتج المحلي الإجمالي على متطلبات الدفاع سنوياً. وحالت العديد من الظروف دون تنفيذ ألمانيا لهذا الشرط، إلى أن جاء عام 2022 ووقع الهجوم الروسي على أوكرانيا، ما أضطر البرلمان الألماني إلى الموافقة على إنشاء صندوق سيادي خاص ممول بالقروض قيمته 100 مليار يورو لبناء وتأهيل وتحديث الجيش الألماني ورفده بالأسلحة النوعية والأفراد المدربين، مع مراعاة الاستمرار في تخصيص ميزانية سنوية كبيرة للدفاع. وفي عام 2024، بلغت الميزانية العسكرية الألمانية 52 مليار يورو. كما صرفت الحكومة مبلغ 20 مليار من الصندوق السيادي. وتخمن مصادر مختصة في شؤون الدفاع بأن برلين قد تستنفذ مبلغ الصندوق السيادي بحلول عام 2027، في حين أظهرت دراسات بأن الدول الأعضاء في حلف الناتو تحتاج إلى تخصيص ما مقداره 3,6% من ناتجها المحلي الإجمالي لأمور ومتطلبات الدفاع، للحفاظ على قدرة الحلف العسكرية وحالة الردع التي ينبغي الوصول إليها في المقاييس العسكرية.
وبحسب مصادر، فإنه وبحسب الناتج المحلي الألماني لعام 2024 والبالغ 4,3 ترليون يورو، فإن تخصيص نسبة 3,6% من الناتج الإجمالي للدفاع يعني تأمين مبلغ 150 مليار يورو للدفاع والعسكرة، وهو ما يعني تغطية خطط تحديث وتوسيع الجيش الألماني، وهو ما لن يكون عليه الأمر لو اعتمدت الحكومة على نسبة 2% فقط من الناتج المحلي الإجمالي (52 مليار فقط للدفاع)، الأمر الذي ستضطر معه الحكومة للاستدانة لتغطية مصاريف تسليح وتحديث الجيش الألماني الجديد، فضلاً عن تغطية المساعدات العسكرية التي تمنحها الحكومة الألمانية للحلفاء وخاصة أوكرانيا.
وقدّمت ألمانيا لأوكرانيا منذ وقوع الهجوم الروسي عليها قبل ثلاثة أعوام مساعدات عسكرية بقيمة 28 مليار يورو. وبذلك، كانت برلين ثاني أكبر داعم لأوكرانيا بعد الولايات المتحدة. وبعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، رأت واشنطن بأن على الأوروبيين تولي تمويل الحرب في أوكرانيا والاعتماد على أنفسهم فيما يخص أمور وشؤون الدفاع، وتخصيص ميزانيات أكبر للتسليح وتحديث جيوشهم لمواجهة التهديدات والمخاطر الروسية المحتملة. وطلبت واشنطن من بروكسل التوقف عن الاعتماد عليها لحماية القارة الأوروبية والعمل على ردع موسكو عن التمدد في أوروبا اعتماداً على جيوشهم الوطنية وقدراتهم الذاتية.
كما تخطط الحكومة الجديدة لتطبيق نموذج الخدمة العسكرية التطوعية ضمن الجيش الألماني الذي يتم بناؤه الآن. وهذا يعني تشكيل المزيد من المؤسسات المعنية بالتسجيل العسكري والمراقبة وتهيئة البنية التحتية اللوجتسية والهياكل الإدارية اللازمة. وكذلك، ستعمد الحكومة إلى إنشاء مجلس للأمن القومي بغية جمع المعلومات حول الأزمات التي من المحتمل أن تواجه البلاد (حروب أو كوارث طبيعية)، واتخاذ القرارات وقت الأزمات الوطنية بشكل أسرع وأكثر سلاسة ودون الرجوع إلى شروط التزامات البيروقراطية الألمانية التي تعيق التعامل السريع والمرن مع الأحداث المفاجأة.

الديون

سقطت الحكومة الائتلافية السابقة (حكومة إشارة المرور) المكونة من الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر والحزب الديمقراطي الليبرالي الحر بسبب رفض هذا الأخير سد العجز الذي حدث في ميزانية عام 2025 وكان يقدر بمبلغ يصل إلى 25 مليار يورو من خلال الاقتراض. ومع تمسك هذا الحزب برأيه الرافض للجوء إلى نظام الاستدانة، وبدل ذلك تأمين النقص من خلال التوفير في النفقات الاجتماعية وهو ما رفضه شريكيه، انهار التحالف الحكومي في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2024.
ولم يكن نظام كبح الديون قبل التغيير الأخير (المستند على المادة 115 من الدستور الألماني) يسمح للحكومة بالاقتراض إلا ضمن إطار محدود بحيث لا يتجاوز المبلغ المستدان حاجز 0,35% من الناتج الإجمالي، مع وجود استثناءات في حالات الطوارئ والكوارث الطبيعية والأزمات الاقتصادية الخطيرة. وكانت المستشارة السابقة ميركل صعّبت من شروط الاقتراض عندما أدخلت عام 2009 بند منع الاستدانة بأكثر من نسبة 0,35% من الناتج الإجمالي العام بعد الأزمة الاقتصادية التي نتجت عن انهيار الأسواق العالمية عام 2008. وبقيت حكومة الائتلاف ضمن النطاق الذي يسمح به الدستور في الاستدانة، كما عمدت إلى تفعيل بند الطوارئ بالاقتراض خلال أزمة جائحة كورونا وكذلك بعد توقف تدفق الغاز الروسي الرخيص على البلاد، وهو الأمر الذي زاد من ارتفاع أسعار الطاقة وأحدث خسائر كبيرة في قطاع الصناعات وأدى إلى تدهور أوضاع أصحاب الشركات الإنتاجية المتوسطة والصغيرة والمواطنين من فئة محدودي الدخل.
لقد عانى الاقتصاد الألماني من تحديات كبيرة خلقت عجزاً دائماً في الميزانية. وظهرت أولى هذه التحديات عام 2015 مع أزمة اللاجئين نتيجة قرار ميركل فتح الحدود الألمانية أمام تدفق أكثر من مليون سوري، ومن ثم وضع نظام لم الشمل الذي ألحق بهؤلاء مئات الآلاف من أفراد أسرهم، بالإضافة إلى استمرار تدفق موجات اللجوء بمئات الآلاف سنوياً منذ عام 2015 إلى العام المنصرم 2024 (حوالي 5 ملايين لاجئ ومهاجر، إذما أضيف ما مجموعه 1,3 مليون أوكراني)، وهو الأمر الذي أرهق أنظمة الرعاية الاجتماعية والرعاية الطبية والتعليم والمواصلات وسوق العمل، وكلف خزانة الدولة مئات المليارات منذ 2015. وزاد على ذلك، المصاريف الهائلة الناتجة عن الدعم الألماني العسكري والمالي لحكومة أوكرانيا في وجه الهجوم الروسي، وبرنامج تحديث وتوسيع وإعادة هيكلة الجيش الألماني، وإصلاح البنية التحتية التالفة، والبرامج المرهقة مالياً والتي فرضها حزب الخضر الشريك في ائتلاف «حكومة إشارة المرور» لتحويل ألمانيا إلى صديق للمناخ والتخلي عن الطاقة التقليدية وعن نظام التدفئة عبر الغاز والوقود الطبيعي، فضلاً عن عمليات الرقمنة واستيراد الكفاءات والعقول. وهنا، عجزت إيرادات الضرائب عن تسديد تكاليف جميع أوجه وبرامج الصرف الحكومي.
وجراء كل تلك التطورات، وافق البرلمان الألماني في 18 مارس/آذار 2025 (مٌرر نهائياً من خلال موافقة مجلس الولايات في 21 مارس/آذار 2025) على إحداث تعديلات في المواد الدستورية 109 و115 و143 لتمرير حزمة ديون ضخمة مخصصة للإنفاق الدفاعي والاستثمارات في البنية التحتية وحماية البيئة. وتمت الموافقة على تغطية ما قالت الحكومة إنه عجز في الميزانية والنفقات المتزايدة في مجالات الدفاع والحماية المدنية وأجهزة الاستخبارات والأمن السيبراني عبر السماح بالاقتراض بنسبة 1% من الناتج الإجمالي، عوض النسبة السابقة المتمثلة بـ0,35% والمعمول بها منذ عام 2009. وبحسب التعديلات الجديدة، فإن الحكومة ستنشأ صندوقاً سيادياً بقيمة 500 مليار يورو للإنفاق على مدار 12 عاماً على الدفاع والعسكرة وتحديث البنية التحتية، مع منح 100 مليار يورو لمشاريع حماية البيئة والمناخ وتطوير قطاع الطاقة المتجددة، وهو شرط فرضه حزب الخضر مقابل تصويت كتلته البرلمانية على إقرار التعديلات وتمريرها في البرلمان.
وكان المستشار السابق أولاف شولتس برر لجوء حكومته إلى الاستدانة من خلال الإشارة إلى وجود العديد من الدول المتقدمة اقتصادياً التي تلجأ إلى نظام الاقتراض، مقارناً بين ألمانيا من جهة والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية من جهة أخرى. وقال شولتس إن الولايات المتحدة لديها دين وطني يتجاوز 120% من ناتجها الإجمالي، كما تجاوز الدين الوطني لكل من إيطاليا وفرنسا وكندا واليابان 100% من ناتجها الإجمالي، بينما تبلغ ديون ألمانيا في واقع الحال أقل من 60% من الناتج الإجمالي. وبموازاة توسيع نظام الاستدانة، تخطط الحكومة الألمانية القادمة لوضع برنامج توفير وتقشف اقتصادي من خلال تخفيض 8% من الوظائف في الإدارات والمؤسسات الاتحادية (باستثناء الوظائف الأمنية والعسكرية) خلال أربع سنوات. كذلك، من المقرر تخفيض أربعة مليارات يورو من مبالغ تمويل البرامج والمساهمات للمنظمات الدولية.

مكافحة حزب البديل

بحسب آخر استطلاع للرأي أجري على مستوى البلاد في 15 أبريل/نيسان الجاري، احتل حزب البديل من أجل ألمانيا المرتبة الثانية محققاً 24,2% بعد الإتحاد الديمقراطي المسيحي/الإتحاد الاجتماعي المسيحي البافاري الذي جاء في المرتبة الأولى بنسبة 25,4%. وتظهر نتائج هذا الاستطلاع التقدم الكبير لحزب البديل بعد شهرين على مرور الانتخابات البرلمانية، بعدما أصبح الحزب الثاني على مستوى البلاد، والحزب الأول في الولايات الشرقية (ألمانيا الشرقية سابقاً). ويركز الحزب على مواضيع مثل الهجرة وتكاليفها الباهظة وتردي مستوى معيشة المواطن الألماني المنتج وتزايد الجرائم والانفاق العسكري السخي على الحرب في أوكرانيا ورعاية الحكومة للاجئين والعاطلين عن العمل وتقديمها كل التسهيلات لهم، في مقابل التضييق على العمال وأصحاب المداخيل المتوسطة وأرباب المشاغل والصناعات الصغيرة عبر فرض المزيد من الضرائب المرتفعة عليهم.
وبغية الطعن في حجج حزب البديل وإجراء إصلاحات في القضايا التي يرفع هذا الحزب لوائها ويتهم الحكومة أو الأحزاب التقليدية بالتفريط والتقصير فيها، تعهدت الحكومة القادمة بإلغاء «قانون التدفئة» المثير للجدل واستبداله بقانون جديد آخر للطاقة أكثر انفتاحًا على التقنيات المختلفة وأكثر مرونة وبساطة. إضافة إلى ذلك، سيتم وضع سعر للكهرباء للصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة بهدف تعزيز القدرة التنافسية لها. ومن المقرر أن يظل مستوى المعاش التقاعدي البالغ 48 في المئة مضموناً بالقانون حتى عام 2031. ويتم التمويل من خلال الموازنة الاتحادية. وسيتم التوسع فيما يعرف بتقاعد الأمومة: بغض النظر عن سنة ميلاد الأطفال، سيتم إضافة ثلاث نقاط معاش تقاعدي عن الأطفال. وسيتم تمويل هذا البند أيضاً من عائدات الضرائب.
وتواصل الأحزاب التقليدية بناء ما تسميه جدار ناري (Brandmauer) حول حزب البديل، لتطويقه والتضييق عليه، مع الرفض الدائم للتحالف معه لتشكيل الحكومة المركزية والحكومات المحلية في الولايات الشرقية التي فاز فيها وحقق المرتبة الأولى. وعلى الرغم من الاختلاف الأيديولوجي والتباين في الرؤى والتوجهات بين هذه الأحزاب، فإنها تتفق تماماً على عزل الحزب ومحاصرته وإبقاءه خارج دائرة الحكم والمسؤولية. وعليه، لا يجد الإتحاد الديمقراطي المسيحي ضيراً من التحالف مع أحزاب مثل الاشتراكي الديمقراطي والخضر واليسار، لبناء حكومة ائتلافية واستبعاد البديل من الحكم. ويعتبر هذا التوجه سكيناً ذو حدين، إذا إنه يغضب الناخبين المحافظين في الإتحاد الديمقراطي المسيحي الذين يرفضون أي تعاون أو تحالف مع الخضر واليسار ويميلون إلى منح حزبهم فرصة لحزب البديل لتشكيل حكومة ائتلافية وتحميله المسؤولية ومواجهة المشاكل والمعضلات من موقع صاحب القرار.
من جانبه يكثف حزب البديل حملته الإعلامية، مستغلاً وسائل التواصل الاجتماعي في فضح سياسات الأحزاب التقليدية التي يقول إنها لا تهتم لمصلحة الناخب ولا تحترم قرار الناخبين في التصويت لحزب البديل، بقدر ما يهمها البقاء في الحكم حتى لو تحالفت مع أحزاب تختلف معها أيديولوجياً بشكل جذري، فقط من أجل إقصاء حزب البديل والبقاء في سدة الحكم. ومن هذا المنطلق، يقول «البديل» إن الأحزاب التقليدية فقدت هويتها ولم تعد تلتزم ببرامجها ورؤاها، بل على العكس، أصبحت باهتة ولا هم لها سوى مواصلة الحكم عبر التحالف مع خصومها. ويشير «البديل» إلى حزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي الذي يقول إنه لم يعد حزباً محافظاً، بل أصبح يساري التوجه، وهو الآن يفضل التحالف مع الخضر واليسار على التحالف مع «البديل» المحافظ، الذي يفترض أن له الأولوية بسبب تقارب رؤى القاعدتين الجماهيريتين للحزبين، وكذلك احتلالهما الموقعين الأول والثاني في الانتخابات الأخيرة وحيازتهما معاً على نسبة تفوق 51%، المطلوبة لتشكيل الحكومة المحلية.
لقد نجح «البديل» في قضم الأصوات التقليدية التي كانت تذهب لحزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي من خلال التركيز على مسؤولية هذا الحزب إبان عهد ميركل عن المشاكل الحالية، ومن أهمها تزايد أعداد المهاجرين، وكذلك لعبه على أخبار وإحصاءات تفيد بتضاعف أعداد الجرائم وحالات الاعتداء على المواطنين الألمان وتفشي الأصولية الإسلامية وارتفاع أعداد المتطرفين الإسلاميين. كذلك، عمدت الآلة الإعلامية لحزب البديل للإشارة إلى التراجع الاقتصادي الكبير وتدني مستوى معيشة المواطنين وأزمة السكن الخانقة، وما يعانيه المتقاعدون جراء راتب التقاعد المتواضع، فيما يقول إعلامه إن الحكومة تستمر في إيواء المهاجرين في الفنادق والمباني الحديثة وإغداق المساعدات عليهم، بل وتذهب حد بناء شقق حديثة لهم بشكل سري بعيداً عن أعين الإعلام وتحرم المواطنين الألمان من استئجارها أو شرائها.
ويقول حزب البديل إن الأحزاب التقليدية ما تزال عاجزة، بل وليس لديها الرغبة أصلاً، في إعادة حوالي 300 ألف طالب لجوء رفضت الدوائر المختصة طلبات لجوئهم، وهم الآن على لوائح التسفير. واستطاع الحزب ترسيخ صورة «المظلومية» في أذهان الناخبين، حيث صوّر تحالف الأحزاب التقليدية ضده بأنه «ترسيخ للديكتاتورية واحتكار أوليغارشية محددة للسلطة»، وأنه أصبح «ضحية مؤامرة» تقودها هذه الأحزاب لتنفيذ خططها بـ«أسلمة ألمانيا» وإحداث «التبادل السكاني الشامل». وبالإضافة إلى ملفات الهجرة والتطرف الإسلامي ومظاهرات السلفيين المطالبة بتطبيق الشريعة والهجمات التي حدثت مؤخراً في مانهايم وزولينغن ونفذها متطرفون إسلاميون وجرائم الاغتصاب والطعن شبه اليومية، فإن تمسك الأحزاب التقليدية بدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، هو أحد الأسباب في زيادة شعبية حزب البديل الذي يصف نفسه بـ«حزب السلام» المراهن على المفاوضات والحل السياسي والرافض للحرب ولإرسال مزيد من الأسلحة.
من جهتها، تتمسك الأحزاب التقليدية بقرارها عزل حزب البديل واستبعاده من أي تحالف حكومي، بسبب ما تعتبره ميولاً يمينية متطرفة موجودة في بنيته وصدور تصريحات عديدة من مسؤوليه تبرأ ساحة النظام النازي السابق وتهون من الجرائم التي ارتكبها، وكذلك إعلان دائرة حماية الدستور (المخابرات الداخلية) بشكل رسمي مراقبة الحزب بوصفه «محل شبهة»، في ظل اتهامات لعدد من المسؤولين والموظفين فيه بالتجسس لصالح روسيا، فضلاً عن التحقيق المستمر في مصادر التمويل والتبرعات التي تتدفق على الحزب.
وكخلاصة، من الواضح بأن ألمانيا القادمة ستعتمد استراتيجية جديدة تنهي معها المرحلة السابقة التي توطدت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في كونها دولة تعتمد على الاقتصاد والدبلوماسية والقوة الناعمة ودعم ورعاية السلام من أجل ترسيخ دورها في أوروبا والعالم. واليوم، تفتح ألمانيا صندوقاً سيادياً وتلجأ لنظام الاقتراض الكثيف لبناء جيش كبير وقوي تتعهد من خلاله بحماية كل أوروبا من التهديدات الروسية وإنهاء مرحلة الاعتماد على الحليف الأميركي.
من المهم دراسة تداعيات توجه ألمانيا نحو العسكرة والضخ في الجيش على ملفات الاقتصاد والأوضاع الداخلية وعلى توجه وبرامج الأحزاب السياسية والعلاقات مع الجوار، وكذلك على التوجه العام القادم للدولة وعقيدتها في الإقليم. كذلك، يعني إعلان الحكومة تقليص أعداد اللاجئين وتغيير العديد من القوانين للحد من الهجرة سياسة جديدة في التعامل مع المهاجرين وإعادة تعريف ألمانيا كبلد هجرة، وبالتالي وضع شعارات «الانفتاح» و«التعددية» و«المجتمع المتنوع» محل تساؤل.
هناك توجه لتطويق حزب البديل اليميني عبر «نزع سلاحه» من يده، أي التشدد حيال اللاجئين عبر تغيير القوانين لجعل ألمانيا بلاد طاردة وليست جاذبة للاجئين والمهاجرين، والعمل على تحسين مستوى معيشة المواطن الألماني الكادح لإبعاده عن «البديل»، وتوفير النفقات التي تصرف على استقبال اللاجئين والمهاجرين وتأهيلهم في المجتمع الألماني. كما تتجه الدولة في المرحلة القادمة إلى التوسع في بناء الأجهزة الأمنية والشرطية والاستخبارات لمراقبة نشاط المنظمات الأصولية ومتابعة الجريمة المنظمة وحالات العنف المتصاعدة وسط قطاعات محددة، أغلبها وافدة.
ويبقى السؤال: هل ستتمكن ألمانيا الجديدة التي تلجأ إلى العسكرة وبناء الأجهزة الأمنية ومجابهة اليمين عبر التشدد حيال اللاجئين والمهاجرين، من البقاء كمجتمع منفتح ومتسامح وجاذب للاستثمارات والكفاءات والعقول؟ 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد