حزب البديل وتغيير قواعد الديمقراطية في شرق ألمانيا!
المركز الكردي للدراسات
تضم شرق ألمانيا، أو ما كنت تعرف سابقاً قبل الوحدة الألمانية في 1990، بجمهورية ألمانيا الديمقراطية، خمس ولايات. وتسمى هذه الولايات في القاموس السياسي الألماني لما بعد عملية الوحدة بـ “الولايات الجديدة”، وهي كل من: براندنبورغ (2,5 مليون نسمة)، ومكلنبورغ فوربورمرن (1,6 مليون نسمة)، وساكسن (4 مليون نسمة)، وساكسن ـ آنهالت (2,2 مليون نسمة)، وتورينغن (2,1 مليون نسمة). وعند متابعة توزيع المقاعد في مجالس هذه الولايات، ودراسة مكانة الأحزاب السياسية ومزاج الناخب الألماني في الولايات الخمس، نلاحظ حضوراً ملفتاً لحزب (البديل من أجل ألمانيا)، وهو حزب شعبوي تأسس عام 2013، ويكاد يعارض كل سياسات الاقتصاد والهجرة والتعليم التي تتبعها الأحزاب التقليدية المعروفة في ألمانيا. وقد تصدر حزب البديل في السنوات الأخيرة، وبات يشكل رقماً صعباً في المعادلات السياسية على صعيد كل ألمانيا، كما أصبح الحزب الأكثر شعبية في ولايات شرق ألمانيا.
انتخابات ولايات الشرق الألماني:
رغم أن الانتخابات المحلية في ولايات شرق ألمانيا لم تكتمل بعد، إذ أن انتخابات برلمان ولاية براندنبورغ ستجري في 22 سبتمبر/ أيلول الجاري، إلا أن الخارطة السياسية اتضحت تقريباً في شرق ألمانيا، وذلك بالتقدم الواضح الذي حققه حزب البديل في الولايات الأربعة.
ففي الانتخابات التي جرت في 9 يونيو/ حزيران الماضي في كل من ولايتي مكلنبورغ ـ فوربومن وساكسونيا ـ آنهالت، حقق حزب البديل نتائج كبيرة، وأصبح القوة الأكثر بروزاً في الولايتين الشرقيتين. ففي ولاية مكلنبورغ ـ فوربومن جاءت النتائج كالتالي:
حزب البديل: 25,6%
الإتحاد المسيحي الديمقراطي 20%
الحزب الإشتراكي الديمقراطي 12,7%
حزب اليسار 8,8%
حزب الخضر 6,7%
تحالف سارا فاغنكنيشت 6,1%
وفي ولاية ساكسونيا ـ أنهالت:
حزب البديل 28,1%
الإتحاد المسيحي الديمقراطي 26,8%
الحزب الإشتراكي الديمقراطي 11.9%
حزب اليسار 8,3%
حزب الخضر 4,5% (لم يشارك تحالف سارا فاغنكنيشت في هذه الانتخابات)
وفي الانتخابات التي جرت في 1 سبتمبر/ أيلول الجاري في كل من ولايتي ساكسن وتورينغن، جاءت النتائج كالتالي: في ولاية ساكسن:
حزب البديل 30,6%
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: 31,9%
تحالف سارا فاغنكنيشت: 11.8%
الحزب الإشتراكي الديمقراطي: 7,3%
حزب الخضر: 5,1%
حزب اليسار: 4,5%
وفي ولاية تورينغن:
حزب البديل: 32,8%
الإتحاد المسيحي الديمقراطي 23.6%
تحالف سارا فاغنكنيشت: 15,8%
حزب اليسار: 13,1%
الحزب الإشتراكي الديمقراطي 6,1%
حزب الخضر: 3,2%
وبحسب استطلاعات الرأي المتعلقة بانتخابات ولاية براندنبرغ التي ستجري في 22 سبتمبر/ أيلول الجاري، فإن التوقعات كالتالي:
حزب البديل: 28,6%
الحزب الإشتراكي الديمقراطي: 24,5%
الإتحاد المسيحي الديمقراطي: 15,4%
تحالف سارا فاغنكنيشت: 13,8%
حزب الخضر: 5%
أما بالنسبة لإنتخابات البرلمان الألماني، والتي ستجري في 28/09/2025، فإن استطلاعات الرأي تتحدث عن أن الأحزاب الأكثر شعبية وحصداً للأصوات سيكون كما يلي:
الإتحاد المسيحي الديمقراطي: 32,5%
حزب البديل: 17,6%
الحزب الإشتراكي الديمقراطي 14,4%
حزب الخضر: 11,3%
تحالف سارا فاغنكنيشت: 8,1%
البديل يصبغ الشرق الألماني بالأزرق:
بتقدم حزب البديل الواضح، أصبحت الولايات الشرقية تتشح باللون الأزرق، وهو رمز الحزب، فيما بدأت مراكز الدراسات والأبحاث المهتمة بالانتخابات وبتوجهات ومزاج الناخب، ترصد الأسباب التي دفعت الناس في شرق ألمانيا لانتخاب هذا الحزب والانصراف عن الأحزاب التقليدية، وأهمها الإتحاد المسيحي الديمقراطي، حزب المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، وزعيم المعارضة الحالي فريدريش ميرتس، والذي كان قد وعد باختراق قاعدة حزب البديل وتحجيمه إلى النصف في حال انتخابه خلفاً لميركل زعيماً للاتحاد المسيحي الديمقراطي. ولكن سياسة ميرتس لم تنجح في تحجيم البديل.
الآن تتباحث الأحزاب التقليدية التي منيت بخسارة وتراجع واضح، في التكاتف للتصدي معاً للبديل، وبناء ما أسمته بجدار ناري (Brandmauer) حول البديل، وذلك برفض التحالف معه لتشكيل الحكومة المحلية في الولايات الشرقية التي فاز فيها وحقق المرتبة الأولى. ورغم الاختلاف الأيديولوجي والتباين في الرؤى والتوجهات بين هذه الأحزاب، إلا أنها متفقة تماماً على عزل البديل ومحاصرته، وإبقاءه خارج دائرة الحكم والمسؤولية. وعليه فلا يجد الاتحاد المسيحي الديمقراطي ضيراً من التحالف مع أحزاب كل من الاشتراكي الديمقراطي والخضر واليسار، لبناء حكومة ائتلافية واستبعاد البديل من الحكم. وهذا التوجه “سكين ذو حدين” إذا إنه يغضب ناخبي الإتحاد المسيحي الديمقراطي المحافظين، والذين يرفضون أي تعاون أو تحالف مع الخضر واليسار، ويميلون إلى منح البديل فرصة لتشكيل الحكومة وتحمل المسؤولية ومواجهة المشاكل والمعضلات من موقع صاحب القرار.
من جانبه يكثف حزب البديل حملته الإعلامية، مستغلاً وسائل التواصل الإجتماعي، في فضح سياسات الأحزاب التقليدية، التي يقول إنه لا يهمها مصلحة الناخب، ولا تحترم قراره في انتخاب البديل، أكثر ما يهمها البقاء في الحكم، حتى لو تحالفت مع أحزاب تختلف معها جذرياً، وتحارب برامجها، وكل ذلك من أجل اقصاء البديل، والبقاء في سدى الحكم. ومن هذا المنطلق يقول البديل بأن الأحزاب التقليدية فقدت هويتها ولم تعد تلتزم ببرامجها ورؤاها، بل على العكس، أصبحت باهتة ولا هم لها سوى مواصلة الحكم. ويشير البديل إلى الاتحاد المسيحي الديمقراطي الذي يقول إنه لم يعد حزباً محافظاً، بل يساري التوجه، وهو الآن يفضل التحالف مع الخضر واليسار وتحالف سارا فاغنكنيشت، على التحالف مع البديل المحافظ، الذي يجب أن يكون له الأولوية بسبب تقارب رؤى القاعدتين الجماهيريتين للحزبين، وكذلك احتلالهما الموقعين الأول والثاني في الانتخابات المحلية، وحيازتهما معاً على نسبة تفوق 51%، المطلوبة لتشكيل الحكومة المحلية. فيما تتمسك الأحزاب التقليدية بقرارها عزل البديل واستبعاده، بسبب ميوله اليمينية، وصدور تصريحات عديدة من مسؤوليه تبرأ ساحة النظام النازي السابق، وتهون من الجرائم التي ارتكبها، وكذلك إعلان دائرة حماية الدستور(المخابرات الداخلية) بشكل رسمي مراقبة البديل بوصفه “محل شبهة”.
الإتحاد المسيحي الديمقراطي
يمثل تصدر حزب البديل اليميني تحولاً في المشهد السياسي الألماني بشكل عام، وشرق ألمانيا بشكل خاص، يعتبر الأول من نوعه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سيما وإن المتعارف عليه عن ناخب الشرق الألماني، بأنه كان يساري التوجه وغير متحمس للفكر القومي. لكن التحول الحاصل في مزاج هذا الناخب يوضح حجم التغيرات التي حصلت في ألمانيا منذ إعادة توحيد شطري البلاد بداية التسعينيات، والتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي حدثت بعد ذلك، وأهمها فرض نوع من “الهيمنة” والرؤية الألمانية الغربية على الشطر الشرقي. ويكفي إن نعلم بأن ما يقارب من 1,5 مليون من سكان الولايات الشرقية قد هاجروا خارجها منذ الوحدة. فيما لم تنفع مئات مليارات اليوروهات من تثبيت البنى الاقتصادية والسكنية والمشاريع التنموية والاجتماعية، وإيجاد فرص العمل، من خلق حالة من الرضا لدى الألمان الشرقيين، ودفعهم للبقاء واظهار نوع من الوسطية في اتخاذ القرار السياسي.
ورغم حالة التذمر المعروفة منذ الوحدة إلى مطلع الألفية الجديدة، إلا أن حالة التصلب السياسي ورفض “هيمنة الغرب” قد تفاقمت بشكل كبير منذ عام 2015، وهو العام الذي قررت فيه المستشارة السابقة أنجيلا ميركل السماح لما يقارب من مليون مهاجر بدخول ألمانيا، بدون قرار من البرلمان، وفي انتهاك واضح لمعاهدتني شنغن ودبلن، واللتان تلزمان اللاجئ بتقديم طلب اللجوء في أول بلد أوروبي يدخله، والبقاء فيه لحين البت في طلب اللجوء.
نجح البديل في قضم الأصوات التقليدية التي كانت تذهب للاتحاد المسيحي الديمقراطي، من خلال التركيز على مسؤولية هذا الحزب في فترة حكم ميركل عن حجم المشاكل الحالية، ومن أهمها تزايد أعداد المهاجرين، ولعبه على أخبار وإحصاءات عن تضاعف الجرائم وحالات الاعتداء على المواطنين الألمان، وتفشي الأصولية الإسلامية وارتفاع أعداد المتطرفين الإسلاميين. كذلك عمدت الآلة الإعلامية لحزب البديل إلى الإشارة إلى التراجع الاقتصادي الكبير وتدني مستوى معيشة المواطنين، وأزمة السكن الخانقة، وما يعانيه المتقاعدين جراء راتب التقاعد المتواضع، فيما يقول بأن الحكومة تستمر في إيواء المهاجرين في الفنادق والبنايات الحديثة، بل وتذهب في بناء شقق حديثة لهم بشكل سري بعيداً عن أعين الإعلام (الذي يقول البديل إنه حكومي موجه) ويحرم المواطنين الألمان من استئجارها أو شرائها.
يستند البديل إلى حالة الحنق والتذمر وسط المواطنين من سياسة الحكومة الإئتلافية (شعبية أحزابها الثلاث مجتمعة الآن 27%) جراء المهاجرين وطالبي اللجوء، ويركز على الأعداد الكبيرة من هؤلاء التي تصل ألمانيا كل سنة، ويقول بأن الحكومة ما تزال عاجزة، بل وليس لديها الرغبة أصلاً، في إعادة حوالي 300 ألف طالب لجوء رفضت الدوائر المختصة طلبات لجوئهم، وهم الآن موضوعون على لوائح التسفير. واستطاع البديل ترسيخ صورة من “المظلومية” في أذهان ناخبيه، وصوّر تحالف الأحزاب التقليدية ضده بأنه “ترسيخ للديكتاتورية”، وإنه “ضحية مؤامرة” تقودها هذه الأحزاب، لتنفيذ خططها في “أسلمة ألمانيا” و”تبديل سكانها بسكان آخرين”. والملاحظ بأن هذا الخطاب وجد بيئة مقبولة في ولايات ألمانيا الشرقية، من خلال استقطابه الفئة العمرية الشابة (ما بين 19 و29)، والتي يصوت 35% منها لحزب البديل. وبالإضافة إلى ملفات الهجرة والتطرف الإسلامي، ومظاهرات السلفيين المطالبة بتطبيق الشريعة، والهجمات التي حدثت مؤخراً في مانهايم وزولينغن ونفذها متطرفون إسلاميون، وجرائم الاغتصاب والطعن الشبه يومية، فإن تمسك الأحزاب التقليدية بدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، هو أحد الأسباب في زيادة شعبية البديل، الذي يصف نفسه بـ “حزب السلام” الرافض للرهان على ارسال المزيد من الأسلحة، تنفيذاً لأوامر من دول (حلف الناتو)، كما يقول.
الواضح بأن تحالف الأحزاب التقليدية ضد البديل لن يساهم في إضعافه، بل على العكس، فهو يواصل تقمص دور “الضحية”. كما أن إجراءات الائتلاف الحكومي في إبعاد اللاجئين الذين رفضت طلبات لجوءهم (ترحيل 28 أفغاني مؤخراً)، واستخدام المساعدات العينية بدل النقدية، في محاولة لخلق مناخ طارد للجوء، لم ينفع في استعادة ثقة الناخبين، وثنيهم عن التصويت لحزب البديل. بقي الآن منع البديل قانونياً عن التصدر، عبر التضييق عليه إعلامياً وملاحقته بالدعاوي القضائية، ورفض التحالف معه لتشكيل الحكومات المحلية، وهي محاولة أخيرة لخلق حالة من اللامبالاة لدى ناخب هذا الحزب، وإفهامه بأن الحزب الذي يصوت له انتقاماً من سياسة الأحزاب التقليدية، لن يتمكن أبداً من المشاركة في الحكومة لتطبيق برنامجه.