سري ثريا أوندر والشيخ غالب.. في روحانية «سلطان الرُسُل» ومراوغات الطبقة الوسطى

حسين جمو 
في بداية تعرفي على اسم سرّي ثريّا أوندر عام 2013، قيّمت مداخلاته المهمة في عملية السلام الكردية التركية معتبراً إياه سياسياً كردياً. تتبعت حياة الرجل، فزادت قيمته المعنوية لدي حين علمت أنه تركماني ويكاد يكون الأناضولي الأكثر نبلاً، حيث أمسك بالتاريخ وجاء ليشارك في تصحيح الانحراف الوحشي في العلاقات الكردية التركية منذ تأسيس الجمهورية.
العلاقات المشتركة بين المؤسستين السياسيتين، الكردية والتركية، لم تكن ذات مسار إيجابي على الدوام. حمل سرّي ثريّا أوندر عبء هذا التاريخ المضطرب والمتداخل ليقدم مساهمته، ولم يجد له مكاناً على منصة الجمهورية فاختار المكان الذي منحه صوتاً للعمل على مشروعه. وبذلك وصل إلى حيث هو: إعادة بناء الجمهورية.
لقد قضى الرجل الجزء الأخير من حياته في قلب القضية الكردية وحظي بثقة زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان، وقرأ رسائله في نوروز 2013 و2015 على مسرح الاحتفال في آمد حيث تجري سنوياً أضخم احتفالية في العالم بالعيد. قرأت خلال الأيام الماضية العديد من القراءات المميزة لسيرته الشخصية. وفي الكتابة، قلّما أستخدم ضمير المتكلم إلا إذا كان سرداً شخصياً، ولا أستطيع فصل تقييمي للراحل أوندر بتجرد عن الشخصي.
ولأني سأتفادى تكرار المراحل المهمة في حياته وتقييم مساهماته، وجدت بعض الجوانب التي يمكن أن تشكل امتداداً لما كتب عن الأناضولي الذي لا نريده أن يكون أخيراً، ولا شك أنه لن يكون الأناضولي الأخير في هذه المرحلة التي انكشفت فيها أزمات الجمهورية بعد أكثر من مئة عام على التأسيس الأحادي وغير العادل.
من المفاتيح المهمة لفهم شخصية سرّي وإرثه السياسي وحضوره الاجتماعي القوي، هو عدم الخطأ في تصنيفه سياسياً بين يمين ويسار. لم يكن سرّي في مراحله الأكثر نضجاً شخصاً يسارياً كما كان في حواري سمسور (أديامان) في شبابه. سرّي ممثل تاريخي لـ«المحلية». إنه أناضولي تشكل عبر قراءته ونقده للتاريخ. لقد ترك نفسه يتشكل وفق هذا النقد دون استسلام للتاريخ المنقول الذي يجعل الكثيرين يعتبرون أنفسهم ورثة الجرائم والإبادات لمجرد أنها على صلة بتاريخهم الاجتماعي. فهو بهذا الاجتهاد في تعريفه أناضولي محلي وليس يسارياً. والأرجح أن أوجلان وجد فيه هذه القيمة الرمزية التاريخية إلى جانب عمله الممتاز في إعادة فتح مسارات الحوار المليئة بالدم بين الجمهورية التركية وكردستان.
لفتني ما كتبه صديقه الكاتب والروائي طارق توفان عنه. فهما صديقان مقربان وظهرا معاً في برامج، وأكثرها شهرة برنامج «حدود المكسيك». ومن هذا البرنامج، عرفه الجمهور كشخص له آراء خاصة في الثقافة والأدب والفنون.
حين كان سرّي راقداً في المشفى منتصف الليل، فتح النافذة وأشعل سيجارة. خاطبه طارق توفان الذي يجالسه: «أنت متعب يا سري آبي، قُم لنصنع فيلماً».
يعلم سرّي أين محطته القادمة. ليس وراء الكاميرا ليصنع فيلماً. فعلق على كلام توفان بالقول: «الحكم لله». ثم لم يعد للصديقين ما يقولانه في تلك الليلة.
قبل ذلك حين كان بعافيته، ذهب توفان وسرّي إلى جنازة معاً وتأثر سرّي بالأجواء هناك، فخاطب صديقه: «طارق، هذه وصيتي، اقرأ المديح النبوي للشيخ غالب في جنازتي»، والعبارة باللغة التركية: «Şeyh Galip’in Naat’ını oku».
ما الذي يربط سرّي ثريّا أوندر بالشيخ غالب؟ ربما لا نتوصل إلى ارتباط مباشر، لكن كانت فرصة لي للبحث أين هو الشيخ غالب في التاريخ؟ وما الذي بقي منه في زمننا؟
صورة تعبيرية معتمدة للشيخ غالب
ولد الشيخ غالب في إسطنبول سنة 1757. اسمه الحقيقي محمد مصطفى سيد. تلقى دروساً في اللغة والأدب على يد الشيخ حسين دده والشيخ نشأت أفندي في تكية تكية يني قابي المولوية وبدأ في كتابة القصائد في سن مبكرة وأتقن العربية والفارسية إلى جانب التركية. كتب ما يكفي من القصائد لتنظيم ديوان عندما كان عمره 24 عاماً. تم عُيّن شيخاً لتكية غلًطة وبقي فيها حتى وفاته عام 1798 ليدفن هناك.
«نعت» في الأدب التركي العثماني هو إعادة استخدام للكلمة العربية بمعنى جديد هو «المديح النبوي». وتحت هذا العنوان، كتب عدد من الشعراء باللغة التركية مدائح نبوية، أبرزها للشيخ غالب في بداية مثنويه الشهير «حُسْن وعشق» (Hüsn ü Aşk):
أنت سلطان الرسل، الملك المُشرّف، يا سيدي
أنت أحمد، محمود، محمد، يا سيدي،
من عند الحق إلينا سلطان مؤيد.
ذات يوم ذهبت إلى بحر الأحزان 
لقد ضيعت نفسي في المعاصي
وخفتُ من مآلي، فسمعت سيداً ينادي:
أنت أحمد، محمود، محمد، سيدي
من عند الحق إلينا سلطان مؤيد، سيدي.
عمل الشيخ غالب فترةً قصيرة في ديوان السلطنة (قلم ديوان همايون) ثم مال إلى حياة التصوّف. في عام 1784، ترك وظيفته رغم معارضة أسرته وتوجّه إلى قونية للدخول في خلوتهم الصوفية (چله) في حضرة شيخ الطريقة هناك. إلا أن والده توسّط عبر الشيخ إلى إعادته، فعاد إلى إسطنبول وأكمل سلوكه الصوفي في تكية يني قابي المولوية حيث أتمَّ خلوته عام 1787 ونال لقب «الدَّده». خلال تلك الفترة، أخذ عن مشايخ كبار كالشيخ علي نطقي أفندي والشريف أحمد الدده، ونال الإجازة (خلافة) في الطريقة. تزوج الشيخ غالب في هذه الفترة ورُزق بابنة (زُبيدة) وولدين (أحمد ومحمد). بعد تخرّجه في الطريقة، انصرف غالب لبعض التأليف العلمي الصوفي؛ فكتب حاشيةً باللغة العربية بعنوان «الصحبة الصفية» عام 1789 على رسالة في آداب المولوية لسلفه أحمد دده. كما انتقل للسكن قرب مقام الشاعر المولوي يوسف سينيجاك في منطقة سطلوجة وشرع هناك، في عام 1790، بكتابة شرح جزيرة المثنوي وهو شرح نثري باللغة التركية على مختارات من مثنوي جلال الدين الرومي (366 بيتاً انتخبها يوسف سينيجاك) بهدف تيسير فهمها للمبتدئين. أبرز الشيخ غالب بهذا العمل تمكنه العميق من فكر التصوف المولوي وقدرته الأسلوبية في النثر.
ارتقى الشيخ غالب بسرعة في سلك المولوية. فبعد وفاة الشيخ السابق لتكية غلًطة المولوية عام 1791، أصدر شيخ الطريقة (چلبی) في قونيا فرماناً بتعيين غالب شيخاً لتكية غلَطة بإسطنبول. حاز غالب بهذا الدعم تقدير السلطان العثماني سليم الثالث، فنشأت صداقة بينهما. كان السلطان سليم نفسه شاعراً وراعياً للفنون، فاستجاب لطلب غالب في ترميم تكية غلًطة وأمر بصيانتها، وأرَّخ الشيخ غالب لتلك الأعمال بقصائد نُقشت على أبواب التكية. كما عيّنه السلطان مُقرِئاً لمثنوي مولانا جلال الدين الرومي في مجلسه الخاص، وكان يحضر مجالس الذكر التي يقيمها الشيخ غالب في التكية.
في السنوات الأخيرة من حياته، ألمّت بالشيخ غالب أحزانٌ ومحن؛ فقد توفيت والدته أمينة خاتون عام 1794، ثم فقد أحد أبرز مريديه الشاعر أسرار دده عام 1796 فرثاه بقصيدة مؤثرة. أصيب الشاعر بمرض شديد سنة 1798 وتوفي في 4 يناير/كانون الثاني 1799 في ريعان عطائه عن عمر 42 عاماً.
من السمات اللافتة في ديوانه «ديوان غالب» كثرة القصائد التاريخية التي تؤرّخ للأحداث المعاصرة – وخصوصاً إصلاحات النظام الجديد التي قام بها السلطان سليم الثالث في تحديث النظام العسكري، وهو الإصلاح الذي أدى إلى مقتل السلطان لاحقاً.
أما العمل الأشهر لشيخ غالب فهو مثنوي «حُسن وعشق» (Hüsn ü Aşk) ويعد درة الأدب الصوفي العثماني في القرن الثامن عشر. المنظومة عبارة عن قصة رمزية ذات طابع صوفي، تصور رحلة روحية يقوم بها مريد حتى بلوغ الوصال والتنوير. استخدم في هذه القصة شخصيات وأماكن خيالية؛ فالبطل عشق يجتاز العقبات والمحن في سبيل الوصول إلى محبوبته حُسن. وكل محطة في رحلته وإشارة في القصيدة ترمز إلى معانٍ صوفية حول تهذيب النفس ومعرفة الحق. ويعتبر النقاد هذه القصيدة علامة فارقة وواحدة من الروائع في الأدب العثماني لتلك الحقبة. ولا تزال مقروءة حتى اليوم كواحدة من كلاسيكيات الأدب الصوفي.
بحسب ما رواه عن نفسه، وُلد سرّي ثريّا أوندر عام 1962 في مدينة أديامان لواحدة من العائلات اليسارية القليلة في تلك المنطقة ذات الأغلبية الكردية. فقد والده وهو في الثامنة من عمره، وكان الوالد من مؤسسي فرع حزب العمال التركي (TİP) في أديامان، ما شكل خلفية سياسية مبكرة لدى سري.
أما عمه، فكان من تلاميذ المفكر الإسلامي الكردي سعيد النورسي، مؤسس حركة «النورجولوك». يتحدر أوندر من عائلة تركمانية، لكنه نشأ في بيئة اجتماعية لغتها اليومية هي الكردية، ما أكسبه إحساساً مزدوجاً بالهوية الثقافية والسياسية، وهو ما انعكس لاحقاً في مسيرته الفكرية والتقريبية بين القوميات. ولعل أديامان، كمدينة على ضفة الفرات اليمنى، تتميز بكونها مدينة ذات غالبية كردية داخل منطقة الأناضول وليس كردستان.
في حفل الاستقبال في تشانكايا عام 2014، حين سألت أمينة أردوغان، زوجة الرئيس رجب طيب أردوغان، سرّي ثريّا أوندر: «من أين أنت؟»، أجابها مازحاً: «من أديامان، عذراً جداً، أنا تركي وأخضع للعلاج». ونُشرت أخبار مثل هذه — عن نكاته التي أضحكت الزوجين أردوغان — بشكل متكرر في وسائل الإعلام.
وأجد نفسي مؤيداً ما كتبه صديقه الآخر، سليمان سيفي أوغون، من أن عوائق سرّي ثريّا أوندر كانت في الطبقة الوسطى الجديدة التركية. فقد كتب أوغون مقالاً في الراحل سرّي ثريّا ولم يكن جريئاً كفاية ليقول ما يريد. بالنسبة له، يجسد سرّي فكرة «المحلية»، وهو شيء أجاده سرّي بطبيعته دون تكلف. أن يكون الإنسان محلياً يعني أيضاً أن يكون خارج ثقافة الطبقة الوسطى المليئة بالمراوغة والاحتشاد وراء «الوطنية». بهذا المعنى، وهو ما لم يقله أوغون، فإن الوطنية السائدة التي تحملها ثقافة الطبقة الوسطى شيء مناهض للمحلية وروابطها وعواطفها. هذه المحلية هي التي تربط بين كردستان والأناضول. وعلي يقين أن مشروع السلام الحالي بين الكرد و«الجمهورية» سينجح طالما بني على الثقافات المحلية التي تشكل معاً توليفة وطنية مفقودة سياسياً إلى الآن.
شيء من هذا القبيل هو ما يربط بين سرّي ثريّا أوندر والشيخ غالب الأناضولي.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد