التقاعد المنتظر لـ «تركيا القديمة»
د. طارق حمو
في مؤتمره الثاني عشر، والذي عٌقد في الفترة ما بين 5 إلى 7 مايو/أيار 2025، شرح حزب العمال الكردستاني الأسباب التي دعته إلى حل نفسه وإنهاء مرحلة الكفاح المسلح. تحدث الحزب في البيان الختامي للمؤتمر عن المرحلة السابقة التي دفعت الكرد في تركيا إلى تبني خيار حمل السلاح ومواجهة سياسة إنكار الدولة التركية لهوية الكرد ورهانها المستمر على القمع والتعامل الأمني العسكري. كذلك، شرح البيان الظرف الدولي آنذاك، وحكى عن الاشتراكية وحركات التحرر الوطني التي حملت السلاح رداً على طغيان وبطش الأنظمة العسكرية الشمولية. ولأن تلك المرحلة انتهت، وها هي تركيا تدعو الكرد وقائدهم عبد الله أوجلان إلى الحوار والتفاوض، وتتحدث عن «مرحلة جديدة» ستوطد إخوة الألف عام (تعبير استعاره دولت بهجلي من أوجلان، أثناء حديثه تحت قبة البرلمان نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2024)، فإن الحزب، بما عرف عنه من مرونة سياسية وتناغم مستمر مع ظروف المكان والزمان، أعلن عن قراره التاريخي بحل نفسه والتخلي عن الكفاح المسلح، ووضع ثقله وتجربته الكبيرة إلى جانب السلام وتعزيز الديمقراطية في «تركيا الجديدة».
رسم القائد الكردي عبد الله أوجلان في المبادرة التي طرحها في 27 فبراير/شباط 2025، والتي حملت عنوان «السلام والمجتمع الديمقراطي»، معالم «تركيا الجديدة» التي يجب أن تتموضع فعلاً على حقيقة التاريخ القديم المشترك وتستمد روح جغرافية الأناضول وميزوبوتاميا فتؤسس لعقد اجتماعي جديد وتصبح إطاراً سياسياً قادراً على جمع الهويات المتنوعة ومنحها الحق في التعبير عن نفسها. وكبداية للمرحلة الجديدة وكتابة هذا العقد الاجتماعي المؤسس، دعا أوجلان حزب العمال الكردستاني إلى حل نفسه والتخلي عن الكفاح المسلح، فكانت بداية المرحلة كردية خالصة، حيث وضع أوجلان معالمها وهندسّ لها خارطة طريق بنقاطها المستمدة من أفكاره ورؤاه السابقة.
الكفاح المسلح الذي انطلق في 1984 كان للدفاع عن وجود وهوية شعب في وجه أنظمة قومية متطرفة وطغم جاءت بالانقلابات العسكرية الدموية. كان كذلك لشد العصب الكردي وتثوير الروح القومية، إزاء استراتيجية دولة ظنت إنها «دفنت القومية الكردية» للأبد، عبر توسيع وتجذير سياسات التصفية الجسدية والثقافية وتحويلها إلى مشاريع وسياسات عليا. آنذاك، لم يكن لدى الدولة أي أفق للحوار والحل، ولم يكن هناك حديث عن وجود شعب كردي لديه تاريخ وحيز جغرافي. كان الرهان هو قمع كل تمظهرات هوية «أكراد الجبال» وسحق الدعوات النخبوية التي تظهر بينهم للمطالبة بحقوق هذا الشعب وبحقيقة وجود جغرافيا تسمى كردستان. جاء حزب العمال الكردستاني بالكفاح المسلح ليُفشل ويكسر تلك السياسة، ولكي يثبت لتركيا والعالم بأن هناك شعب كردي وهناك جغرافيا اسمها كردستان، وأن ثمة مقاومة عمادها شابات وشباب هذا الشعب تنهض في وجه سياسات الإنكار والتتريك الرسمية. تحقق ذلك، والتفتت تركيا وانشغلت بهذه «الحرب الداخلية»، فتأجلت مشاريع الإنماء والتطوير وتأخر الازدهار الاقتصادي وزاد وتضاعف الإنفاق العسكري وتنازلت الدولة عن ملفات كثيرة للخارج في سبيل القضاء على «العصيان المسلح». وباعتراف نعمان كورتولموش، رئيس البرلمان التركي والخبير الاقتصادي، أنفقت تركيا في حربها ضد العمال الكردستاني مبلغاً يصل إلى 2 ترليون دولار.
كان حزب العمال الكردستاني يعي بأن الكفاح المسلح يهدف، بالإضافة إلى كونه أسلوباً للدفاع المشروع عن النفس وإفشال استراتيجية الصهر القومي، إلى جر الدولة لطاولة المفاوضات، وبالتالي البحث عن حل سياسي للقضية الكردية. وظل الحزب يكرر دائماً ومنذ أول إعلان له عن وقف أحادي لإطلاق النار في 1993 دعواته للدولة التركية للحوار وإنهاء المواجهات المسلحة، في ظل اتضاح حقيقة أن الدولة لن تنجح في القضاء على «حرب العصابات الثورية» التي ينتهجها الحزب كأسلوب ووسيلة قتال. لكن رهان الحكومات التركية المتعاقبة على الحسم العسكري وعلى المزيد من استحصال الدعم الخارجي ورفضها الاعتراف بهوية ووجود الشعب الكردي، والإصرار على الدولة القومية الأحادية وثالوث «شعب واحد ولغة واحدة وعلم واحد»، أفشل مبادرات ودعوات الحزب وقائده أوجلان الرامية إلى فتح قناة السياسة والحل الديمقراطي وإسكات صوت السلاح.
تواصل النزيف الكردي والتركي لسنوات إضافية طويلة. وتعاقبت الحكومات في أنقرة، من تلك التي كانت تتعهد باستنباط طرق وآليات وتحالفات جديدة للنيل من الكفاح المسلح الكردي وفرض الاستسلام الأبدي على الكرد في تركيا وتوطيد السردية الرسمية «تركيا للأتراك فقط». أصرت تركيا على أسلوب الحرب، وأضاعت فرصاً كثيرة للسلام والتسوية، حتى جاءت التطورات الأخيرة بعد هجوم حركة حماس الفلسطينية على إسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول 2023 واندلاع مواجهات شاملة في كل المنطقة، مع التلويح المستمر بتغيير الخرائط الحالية. رأت تركيا بطش واقتدار الدولة العبرية التي تقاتل على سبع جبهات، فظهر عجزها واتضحت الحقيقة في كونها ليست هي القوة الإقليمية الأكبر وليست هي القادرة على تغيير الأنظمة ولا إخراج منظمات إقليمية مسلحة من المعادلة وإضعاف دول والتهديد بإسقاط أنظمتها وتقسيمها. وهنا ذهبت «السَكرة» التي دامت أعواماً طويلة دعمها إعلام رسمي موجه وتلقين عنصري مرّكز، وجاءت «الفكرة»، فتحرك «العقل السليم» وجاءت الدعوة لأوجلان وحزب العمال الكردستاني بوضع السلاح جانباً والمجيء إلى البرلمان لممارسة السياسة. هنا، التقطت أنقرة طرف خيط سردية «إخوة الترك والكرد التي تمتد لألف عام»، وهي سردية استنبطها أوجلان وقدمها من خلال قراءاته المعمقة الباحثة في تاريخ المنطقة والمستشرفة لمستقبل شعوبها ومكوناتها.
المصالحة التركية الكردية، أو «السلام والمجتمع الديمقراطي»، ينبغي أن ينهض على تغييرات جذرية في طبيعة وشكل وعقلية الدولة التركية. لحل قضية كبرى ومهمة مثل القضية الكردية في تركيا، من المهم إحداث إصلاحات دستورية بنيوية وتغيير جذري يشمل المواد الست الأولى من الدستور التركي لنزع صفة العرق الأحادي عن الجمهورية الجديدة والتعبير عن التعددية الإثنية التي تتميز بها هذه الجغرافيا. التأسيس الجديد يجب أن يذكر الترك والكرد والعرب وبقية الموزاييك القومي في الأناضول وميزوبوتاميا وتركيا الجديدة، كما ذهب الصحافي الكردي حسن حسين دنيز في مقال نشرته صحيفة «Xwebûn» الصادرة باللغة الكردية في آمد/ديار بكر في 28 مايو/أيار الماضي، والذي قال بأن على تركيا أن تحل نفسها، وأن تتخلى عن تركتها القديمة وتاريخها السابق لمرحلة السلام الحالية، فتؤسس لدولة وجمهورية جديدة تضمن هوية وحقوق كل المكونات وتوطد حقاً وحقيقة « إخوة الألف عام بين الترك والكرد». ووفق دنيز، لا تكتمل المعادلة بجزئية حل العمال الكردستاني نفسه وإعلانه التخلي عن الكفاح المسلح وإطلاق مرحلة الكفاح السياسي السلمي، بل ثمة حاجة إلى أن تعمد تركيا القديمة إلى حل نفسها والدخول في طور التحول إلى دولة ديمقراطية تعددية تعترف بكل الهويات والخصوصيات ضمن عقد اجتماعي جديد.
يرى أوجلان وحزب العمال الكردستاني في السلام خياراً استراتيجياً. وهم يهدفون لبناء المجتمع الديمقراطي الحقيقي والصحيح على أساس هذا السلام وما يليه من هدوء وتفاهم واستقرار. وثمة دعوات مستمرة لإشراك كل الفعاليات المدنية وكل النقابات والأحزاب وشرائح المجتمع في ورشات عمل ونقاش للحديث حول كل شيء يتعلق بتركة وآثار المواجهات المسلحة التي استمرت 41 عاماً، وأيضاً تحديد معالم المرحلة الجديدة والجمهورية المبتغاة التي ستكون إطاراً للحالة المشتركة من التعايش والقبول والاعتراف بالهويات والحقوق. ولعل اختيار لجنة من 100 شخص من داخل البرلمان للوقوف على كنه التغييرات القانونية والإصلاحات الدستورية، في إطار عملية السلام والمصالحة، وقبل ذلك تعيين سكرتارية تساعد أوجلان على متابعة سير هذه العملية، تعتبر بداية مشجعة لعملية طويلة وصعبة بدأت بمبادرة «السلام والمجتمع الديمقراطي» والقرار التاريخي لحزب العمال الكردستاني بالتخلي عن الكفاح المسلح، وعليها أن تنتهي بالاعتراف الذي تأخر مائة عام بالكرد كمكون مؤسس، وبولادة الجمهورية الجديدة، بعد أن تحل الجمهورية القديمة الأحادية الإنكارية نفسها.