الشرق الأوسط في عهد الوساطات.. سعي تركي لصفقة كبرى مع الجميع

سركيس قصارجيان
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، سعت تركيا إلى تثبيت نفسها كوسيط دبلوماسي رئيسي في واحدة من أعقد أزمات هذا القرن. لم تكن هذه الوساطة وليدة اللحظة، بل جاءت نتيجة تموضع طويل الأمد لتركيا بين روسيا من جهة وحلف الناتو والغرب من جهة أخرى، ما منح أردوغان أدوات تفاوض توظَّف لخدمة أهدافه الدولية.

الرقص على الحبل المشدود

شهدت الساحة الدولية تحركات عديدة من جانب تركيا، مثل استضافة اجتماعين متزامنين في مدينتين مختلفتين: أحدهما لوزراء خارجية حلف الناتو في أنطاليا، والآخر لمفاوضات بين الوفدين الروسي والأوكراني في إسطنبول، ما عكس رغبة أردوغان في تقديم تركيا كمنصة للحوار رغم الاستقطاب الحاد.
منح التوازن الاستراتيجي بين عضوية حلف الناتو والشراكة مع موسكو أردوغان ورقة دبلوماسية لتعزيز شرعيته الدولية وتحقيق مكاسب تفاوضية مع كلا الطرفين.
تعكس رغبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باختيار إسطنبول كموقع للمفاوضات وامتناع تركيا عن الانضمام للعقوبات الغربية على موسكو، الثقة الروسية بأنقرة. في المقابل، تُحافظ تركيا على تعاونها الأمني والعسكري العميق مع أوكرانيا، بما يشمل بيع طائرات «بيرقدار» المسيّرة واستقبال مسؤولين أوكرانيين رفيعي المستوى واستضافة لقاءات بين أجهزة المخابرات الغربية والروسية على أراضيها.
وساطة أنقرة في ملف الحبوب – عبر «ممر البحر الأسود» – كانت لحظة فارقة عززت من صورة أردوغان كمنقذ لاقتصادات الدول الفقيرة التي تعتمد على الصادرات الأوكرانية. كما أن استضافة لقاءات تبادل الأسرى ومفاوضات نووية بين إيران والدول الأوروبية، تعكس الدور الذي تسعى له تركيا كـ«مركز دبلوماسي إقليمي».
من جهة أخرى، كان لتقاطع مصالح أردوغان مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب أثر إضافي. كلا الزعيمين يشتركان في رؤية براغماتية وشعبوية للسياسة تقوم على خلق صفقات كبيرة ومفاجئة تُحدث اختراقات إعلامية، ولو على حساب الأعراف الدستورية أو المؤسسات.
ترامب نفسه – الذي تعهد بإنهاء حرب أوكرانيا خلال 24 ساعة في حال فاز بالانتخابات – بارك ضمنياً التحركات التركية، ما أعطى أردوغان دفعة سياسية أمام جمهوره المحلي بأنه لاعب يحظى بثقة الكبار، بمن فيهم صناع القرار في واشنطن.

فيدان يُصعّد الخطاب: عضوية تركيا ضحية للهوية الدينية؟

في السياق ذاته، يدرك أردوغان أن الاستقطاب الحاد بين الغرب وروسيا والخوف الأوروبي من مزيد من التوتر، يضع تركيا في موقع «الوسيط الذي لا يمكن تجاوزه». يمنحه هذا الموقع أوراق قوة ليس فقط في الملف الأوكراني، بل في ملفات أخرى: مثل الابتزاز السياسي في ملف انضمام دول الشمال الأوروبي إلى حلف الناتو، أو تحصيل مكاسب اقتصادية من روسيا وقطر وحتى الصين.
تشرح البيانات التركية الرسمية بشأن الاتحاد الأوروبي استراتيجية أنقرة وما تأمله من دور الوساطة في الحرب الأوكرانية. في المؤتمر الصحافي المشترك مع لافروف، ألقى فيدان باللوم في تعثر مفاوضات عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي على سياسات الهوية الأوروبية، مدعياً أن الاتحاد متردد في قبول دولة ذات أغلبية مسلمة.
تعثرت مساعي تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، التي بدأت عام 1999 وشهدت بدء المفاوضات عام 2005، منذ عام 2016 بسبب المخاوف من التراجع الديمقراطي والنزاعات مع اليونان وقبرص.
اليوم من خلال تعزيز دورها في محادثات السلام الروسية الأوكرانية، تسعى تركيا للضغط على الاتحاد الأوروبي لتقديم تنازلات، مثل تحرير التأشيرات وتوسيع نطاق الاتفاقيات الجمركية، مستغلة المخاوف الأوروبية المتزايدة من تراجع الوجود الأمني الأميركي، على أمل ترسيخ مكانتها كلاعب رئيسي.
وتجلى ذلك في تأكيد فيدان الأخير أن تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة سيجعل الاتحاد الأوروبي «أكثر مرونة في مواجهة الأزمات الاقتصادية والجيوسياسية».

سوريا في المعادلة التركية الجديدة

إلى جانب كونها جزءاً من منظومة أمن البحر الأسود والبوابة الرئيسية التي تسيطر على المضائق، تعمل تركيا أيضاً على موازنة روسيا في مناطق جغرافية رئيسية أخرى، بما في ذلك القوقاز وليبيا والشرق الأوسط. كما أنّها لا تزال تعتبر شبه جزيرة القرم ولوغانسك ودونيتسك أراضٍ أوكرانية.
سيطرة هيئة تحرير الشام المدعومة من أنقرة على السلطة في سوريا أجبرت موسكو على إعادة حسابات تموضعها في المنطقة، خصوصاً في ظل تنامي التعاون الإقليمي بين أنقرة والولايات المتحدة، سواء لناحية مستقبل الحكومة السورية أو مصير شمال شرق البلاد والقوات الأميركية المتواجدة في المنطقة.
يظل منع الهيمنة الروسية في البحر الأسود أولويةً قصوى بالنسبة لأنقرة التي ترى في أوكرانيا قويّة ثقلاً موازناً للتوسع الروسي، في رؤية مطابقة لحلف الناتو والدول الأوربية – خصوصاً الشرقية منها – والتي بدورها ترى في كل من أوكرانيا وتركيا عنصرين أساسيين في مواجهة الأطماع الروسية. فبولندا مثلاً، دعمت بقوة جهود التكامل التركي في الهياكل الأمنية الأوروبية لتعزيز جناح حلف الناتو الجنوبي الشرقي.
تتحكّم تركيا بمستقبل روسيا العسكري في سوريا إلى حد كبير، حيث يعتمد بقاء القواعد العسكرية الروسية في طرطوس وحميميم بعد سقوط الأسد على تقدير تركيا إلى حد كبير. أي قرار تركي لممارسة الضغط على الحكومة السورية الحالية للحد من أنشطة روسيا يعرّض قدرة موسكو على الحفاظ على هذه القواعد للخطر.

تحولات أردوغان الكردية

بعد هزيمة تنظيم داعش بالشراكة مع التحالف الدولي، نجحت «قسد» في تأمين حقوق وحريات واسعة للكرد وكافة المكونات القاطنة في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية. وحرّض سقوط بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي ووصول هيئة تحرير الشام ذات الخلفية الجهادية إلى السلطة المجتمعات المحلية الأخرى في البلاد للمطالبة بالحكم الذاتي، وسط الخوف من فوضى تفلّت الفصائل الراديكالية.
ردّت تركيا بداية بعنف على مكاسب الحركة الكردية المحلية والعابرة للحدود والدولية. لكنها سرعان ما أيقنت أن تعثّر محادثات السلام والمكاسب الجغرافية للعمليات العسكرية العابرة للحدود ضد مناطق الإدارة الذاتية في سوريا والتي تسببت بمقتل الآلاف ونزوح مئات الآلاف لم تساهم في حل المعضلة الأساسية للدولة التركية ولم تمنح الثقة للفاعلين الإقليميين والدوليين بقدرة أنقرة على ملئ الفراغ وترسيخ الاستقرار في المنطقة.
تقف هذه التحوّلات وراء دعوة زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان إلى إطلاق مبادرته الجديدة للسلام بالاعتماد على مرونة حزبه التنظيمية وقدرته على تكييف تكتيكاته، وحتى أيديولوجيته، للرد على التحدّيات المستجدة ضمن تطوّر مستمر للاستراتيجيات.
استغلّ أوجلان تحدّيات أردوغان المتمثّلة بإسرائيل وإيران، ما وضع أنقرة تحت تهديد الصدام مع كتلتي النفوذ في الشرق الأوسط. إيران هي الخاسر الأكبر مع توسع نفوذ تركيا في سوريا، فيما لن تتسامح إسرائيل مع وجود قواعد عسكرية تركية وجماعات تابعة لتنظيم القاعدة سابقاً بالقرب من منطقة احتلالها المتنامية في جنوب سوريا.
يسهم هذا التحدّي إلى حدّ كبير في إبعاد شبح إقدام أنقرة على تصعيد جديد ضد الكرد في سوريا، دافعاً إيّاهم ليكونوا طرفاً ضدها بدلاً من ضمان حيادهم في أسوء الحسابات التركية.
في سوريا، تسيطر «قسد» على ثلث مساحة البلاد، وهي أكبر قوة مسلّحة منضبطة حائزة على شرعية دولية وتدير سجوناً ومخيمات تضم عشرات الآلاف من العناصر التابعين لتنظيم داعش.
تم توقيع اتّفاق مبدئي بين «قسد» ودمشق بالتزامن مع اتفاق حزب العمال الكردستاني وأنقرة، فيما باتت «قسد» قادرة على المحافظة على قدر من الحكم الذاتي في مناطقها.
يسعى أردوغان أيضاً إلى الحصول على دعم الكرد لترشحه عام 2028. كما أن إعلان حزب العمال الكردستاني حل نفسه يسهم في تخفيف حدّة التوتر التركي-الأميركي ويساعد دمشق على إنهاء الصفقة مع «قسد» بنجاح.
تراهن أنقرة على أن حفاظ الحكومة السورية الجديدة على الاستقرار وتنفيذ اتفاقية دمج «قسد» في الجيش الجديد، سيشجع ترامب على إطلاق يدها في سوريا ولتحقيق أهدافه في السياسة الداخلية والخارجية، يحتاج أردوغان إلى سوريا مستقرة تحكمها إدارة معتدلة وشاملة قادرة على جذب التمويل الدولي.

الشرع يناور في حقل ألغام إقليمي

أعلنت الولايات المتحدة أنها خفّضت وجودها في سوريا من 2000 إلى 900 جندي، لكنها احتفظت بقواعد رئيسية لمواجهة تنظيم داعش. أعطى ترامب الأولوية للعلاقات التجارية الخليجية على التحالفات التقليدية، مُتجاهلاً مخاوف إسرائيل. ويعكس إشادته بالشرع ووصفه إياه بـ«القائد الحقيقي ذي الماضي القوي» نهجاً قائماً على الصفقات.
وكما في خطوة رفع العقوبات، لم يستشر ترامب حلفاءه في تل أبيب بشأن الانضمام المحتمل لسوريا في اتفاقيات إبراهيم.
لا تزال إسرائيل جدّية في التعبير عن مخاوفها من عودة ماضي الشرع الجهادي إلى الواجهة رغم تصريحاته المعتدلة. وتحاول بشتى الوسائل الأمنية والعسكرية والدبلوماسية منع تواجد جيش سوري جديد من الإسلاميين المدعومين من تركيا قرب حدودها.
يُصوّر المسؤولون الإسرائيليون الوجود التركي في سوريا كتهديد عسكري وأيديولوجي. ويدرك الشرع أن التدخل العسكري التركي المكثف قد يُعيق جهوده لبناء علاقات إقليمية. أبدت دمشق اهتماماً بتجنب المواجهة مع إسرائيل، فيما بذل الشرع قصارى جهده لتهدئة المخاوف الإسرائيلية، مقترحاً التطبيع وإقامة منطقة منزوعة السلاح، بل والسماح لإسرائيل بالحفاظ على وجود أمني بالقرب من مرتفعات الجولان.
وبالمثل، أوضح المسؤولون الأتراك أنهم لا يسعون إلى مواجهة مع إسرائيل في سوريا. وبينما تهدف تركيا إلى ترسيخ نفوذها في الجوار، فإنها تعلم أنها لم تعد قادرة على تحمل المغامرة الأيديولوجية التي سادت في الماضي ولا المخاطرة بصدام عسكري مع إسرائيل قد يُنفّر القوى الخليجية والغربية التي تعتمد عليها لإعادة بناء سوريا وتحقيق الاستقرار في اقتصادها المتعثر.
في ظل تحولات عميقة تشهدها خارطة القوى الإقليمية والدولية، تبدو تركيا تسعى لتحسين موقعها السياسي في الأزمات والحلول الإقليمية، مستفيدة من موقعها الجغرافي وقدرتها على اللعب على التناقضات بين موسكو وواشنطن، وبين الداخل الكردي والمشهد السوري.
لكن هذا الطموح التركي يصطدم بحقول ألغام معقّدة تتطلب توازناً دائماً بين الأهداف الأمنية والاقتصادية وبين الأدوار الإقليمية والعلاقات الدولية.
وفي هذه اللحظة الدقيقة، يتقاطع مصير أردوغان السياسي مع مصير الشرق الأوسط وحدود ما يمكن للدبلوماسية أن تنجزه قبل أن تُطلّ المغامرة العسكرية برأسها من جديد.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد