«فوبيا التركية» من الكرد.. يجني ثمارها بوتين وتفاقم التوتر مع أمريكا

عمر تاسبينار

يسفر التصرف الخاطئ لبعض البلدان في التعامل مع قضية داخلية عن عدم سوية في سياستها على الصعيدين الداخلي والخارجي. و”القضية الكردية” في تركيا خير مثال على ذلك. لقد أدى فشل أنقرة التاريخي في إيجاد حلول ديمقراطية لمطالب الأمة الكردية إلى خلق ثقافة سياسية تركية غير آمنة وغير عقلانية بشكل مزمن.

بعد ما يقارب من مائة عام على تأسيسها، لا تزال “الجمهورية التركية” مهووسة بالخوف والصدمة التي خلّفتها عقود تأسيسها. ففي الوقت الذي يرى البعض مطالب الكرد محقة فيما يتعلق بـِ : اللامركزية والفيدراليّة وحقوق الأقليّات، تعتبر أنقرة هذه المطالب بأنها “إرهابيّة وتمهيدا لانفصال دموي مستعصي على الحل” .

إن الذهنيّة التركية الدوغمائية، تراقب بحذر مشاكل البلد سواء في الداخل أو الخارج وخاصة عندما يتعلق الأمر بـِ “الكرد”، ويتضح ذلك من خلال توغلاتها العسكرية في شمال سوريا وكذلك إلى تحول الرئيس “رجب طيب أردوغان” من إصلاحي إلى مستبد إضافة لـِ شراء تركيا صواريخ “إس -400” الروسية، ناهيك عن فرص أردوغان في الظفر بانتخابات رئاسية أخرى عن طريق تفرقة خصومه، و يتم إستغلال هذه المشاكل وغيرها من منطلق الصراع بين “الكرد والأتراك” .

بالنسبة لأيّ مراقب للوضع، فإن نهاية الشراكة الإستراتيجية “التركية-الأمريكية” جاءت أيضا بسبب “الكرد”. فبعد تفكك “الدولة العثمانية، لطالما كانت لدى  “القومية التركية” شكوكاً عميقة في النوايا الغربية. فلقد أدت الحروب الأمريكية في العراق بإعطاء الكرد مزيداً من “الحكم الذاتي”، إلى تصاعد حالة إنعدام الأمن التركي المبني على “نظريات المؤامرة” : فقد كانت كُردستان الكبرى في طور التكوين تحت الحماية الأمريكية “.

وفي هذا السياق، فبالنسبة لمعظم الأتراك، فإن المؤامرة الكردية الأمريكية تحولت في سوريا إلى “نبوءة”. وقد أثبت التعاون العسكري الأمريكي مع قوات سوريا الديمقراطية وضعية تغتاظ منه “أنقرة” بشدة. ومما زاد الطين بلة هو الهوية المحددة للمجموعة الكردية السورية التي قررت واشنطن تسليحها، فقد قرر البنتاغون أنه ليس لديه خيار أفضل من التعاون مع قوات سوريا الديمقراطية.

أخبرت الولايات المتحدة أنقرة، إن تعاونها مع الكرد هو بمثابة شراكة مؤقتة وتكتيكية ، وخالية من أي بُعد إستراتيجي طويل الأمد، بيد أن هذا الأمر أثار إستياء أنقرة. لازال الدعم الأمريكي مستمرا للكرد السوريين حتى يومنا هذا، على الرغم من الإضطرابات الشديدة في ظل إدارة ترامب. وفي الآونة الأخيرة وتحديدا في 15 سبتمبر / أيلول، بعد أيام فقط من الإجلاء المحموم للقوات الأمريكية من “كابول” ، زار قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال “فرانك ماكنزي” شمال شرق سوريا لطمأنة حلفائهم الكرد والتأكيد على مصداقية الولايات المتحدة تجاههم.

و تثار أسئلة حول ماهية مثل هذه الشراكة الأمريكية مع الكرد السوريين. ألا تُعتبر تركيا، ثاني أكبر جيش في حلف الناتو، خيارا أفضل لواشنطن في محاربة تنظيم داعش؟ الإجابة المختصرة هي “لا” : فتنظيم الدولة الإسلامية لا يمثّل تهديدا وجوديا لتركيا كما هو الحال بالنسبة للكرد. على أيّة حال، لم يتحلى قادة القيادة المركزية الأمريكية بالصبر على أي رسائل تذكير تمدح أوراق إعتماد تركيا في الناتو، بما في ذلك مساهمتها الثابتة في حرب واشنطن التي تم التخلي عنها مؤخراً في أفغانستان. لقد كانوا على دراية بأن أنقرة ترحب بتسلل الجهاديين إلى سوريا وذلك بفتح حدودها أمامهم. كانت هذه خطوة “إنتهازيّة” من جانب أردوغان، أكثر من كونها عرضا للصداقة الأيديولوجية. ورغم كل ذلك، يعتبر هؤلاء الجهاديون أكثر فاعلية ضد أعداء تركيا الرئيسيين في سوريا : نظام الأسد والكرد العلمانيين.

شراء تركيا لـِ منظومة “إس 400” الروسية

لقد تدهورت العلاقات الإستراتيجية بين الولايات المتحدة وتركيا على إثر سعي الأخيرة لحيازة منظومة الدفاع الصاروخية “إس 400 ” روسية الصنع . وفي ترسيخ حجم الإشكاليّة هذه، سوف نجد أن قرار “أردوغان” بشراء صواريخ “إس 400” كان أيضا نتيجة مباشرة للضرورات الإستراتيجية المتعلقة بالقتال ضد الكرد السوريين. لقد أبدت أنقرة مخاوفها بشأن الحكم الذاتي الكردي والمكاسب الإقليمية التي حققوها في شمال سوريا، وأي توغل عسكري تركي عبر الحدود لوقف المد الكردي يتطلب موافقة “موسكو”.

وفي ضوء كل ذلك، كان لروسيا اليد الطُولى متمثلا بوجودها العسكري على الأرض ناهيك عن سيطرتها على المجال الجوي في تلك المناطق . لقد كان حصول أردوغان على الضوء الأخضر من قبل “بوتين” لشن أي عملية عسكرية في سوريا يدفع ثمنها باهظا، خاصة بعد أن أسقطت تركيا طائرة روسية في نوفمبر / تشرين الثاني 2015. و بعد خيبة أمله بـِ “حلف الناتو” بعدم تقديمه الدعم الملموس لتركيا، لم يعتذر أردوغان لبوتين فحسب، بل كان من المتوقع أيضا أن يقبّل خاتم “القيصر”.

بدأت العملية التي ستنتهي بشراء تركيا للصواريخ الروسية في عام 2016 في وقت ظهر فيه أردوغان ضعيفاً. فلقد  قد نجا لتوه من محاولة إنقلاب غريبة في ذلك الصيف، حيث قصفت طائرات “إف 16” الجدران الخارجية للبرلمان التركي وقصره الرئاسي. وفي الوقت الذي أستغرق الأمر أياما حتى يعبر البيت الأبيض في عهد “أوباما” عن دعمه لأردوغان، بادر “بوتين” بالإتصال به ليلة الإنقلاب الفاشل لتقديم دعمه له. وفي محاولة يائسة لاستعادة سلطته المُنهارة وإظهار بعض الشعور المتجدد بالقوة، أمر “أردوغان” بشن هجوم عسكري على شمال سوريا في الشهر التالي.

لقد أضحت عملية “درع الفرات” هي الأولى ضمن سلسلة من ثلاث عمليات توغل عسكرية تركية كبرى في شمال سوريا بين عامي 2016 و 2019 . وجميع هذه العمليات البرية الكبرى كانت بحاجة إلى التنسيق مع موسكو. وأيضا تطلبت آخر هذه العمليات في عام 2019  التنسيق مع “ترامب الفوضوي “. بشكل متناقض، فبينما أعطى “ترامب” الضوء الأخضر لأول مره لأردوغان لشن عملية عسكرية، تراجع عن قراره فيما بعد وهدد تركيا بفرض عقوبات صارمة مما أدى هذا الخلاف مع أمريكا إلى جعل التنسيق التركي الروسي أكثر أهمية لأنقرة. ولكن في هذه الشراكة “المتناقضة” حيث دعمت أنقرة وموسكو طرفي النزاع في الصراع السوري، كان لبوتين دائما اليد الطُولى ولم يتردد أبدا في إظهار ذلك بقوة.

في فبراير / شباط 2020 ، عندما قُتل 33 جنديا تركيا في غارات جوية في محافظة إدلب – آخر جيب للمناهضة النظام السوري – كان على أردوغان التظاهر بأن روسيا غير متورطة. ببساطة لم يكن لديه مصلحة في تصعيد التوترات العسكرية مع موسكو. وتستمر نفس “الآلية” حتى يومنا هذا. وفي هذا الصدد بحوزة بوتين العديد من “أوراق الضغط” في القضايا التي تشمل الإعتماد التركي على الغاز الطبيعي الروسي والصادرات الزراعية التركية، إضافة لعائدات السياحة. بيد إن موقف “أردوغان” في سوريا هو الأكثر ضعفاً، وفي حال أقدمت روسيا على قصف محافظة “إدلب” ، والتي يقطنها ثلاثة ملايين شخص، فستواجه تركيا ما لا يقل عن مليون لاجئ سوري على حدودها. في الوقت الذي تستضيف فيه تركيا بالفعل أربعة ملايين لاجئ سوري ويلقي الرأي العام باللوم على الحكومة في هذا العبء، فإن أردوغان ليس في موقف قوي لتعريض العلاقات الجيدة مع بوتين للخطر.

 في الآونة الأخيرة، كان أردوغان في نيويورك وكان يأمل أن يحظى بمقابلة الرئيس الأمريكي، وفي مقابلة له أجرته قناة سي بي إس عبر برنامج ” على المكشوف” دافع أردوغان، الذي رفضه بايدن، عن قراره بشراء منظومة ” إس – 400″. مبرراً ذلك بأن تركيا دولة ذات سيادة ولا تحتاج إلى إذن من واشنطن لمتابعة مصالحها الأمنية الوطنية. وما فشل بطبيعة الحال في ذكره هو أنه مدين بالفضل لموسكو.

بعد أيام قليلة، عقب إجتماع مغلق مع الزعيم الروسي في سوتشي، أشاد أردوغان بروسيا وشكر بوتين شخصيا على أجندته الإيجابية حول القضايا المتعلقة بالطاقة النووية إضافة إلى التعاون العسكري الصناعي. وأمام كل ذلك لا عجب في أن بوتين بدا مطمئنا في اجتماعه مع أردوغان.

قصارى القول، فإن بيع منظومة ” إس  400″ لدولة في حلف “الناتو” والتي تم طردها الآن من برنامج الطائرات المقاتلة المتقدمة “إف  35” وخضعت للعقوبات العسكرية الأمريكية ليس بالأمر الهين بالنسبة لموسكو. ولو كنت مكان بوتين، لكنت قد عبرت عن إمتناني لوجود قضية كردية شائكة في تركيا والتي أدت لقلب الموازين لصالح روسيا.

المصدر: ريسبونسبال ستيتكرافت

ترجمة: المركز الكردي للدراسات

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد