حسين جمو
بعد إعدام قائد الثورة الكردية الشيخ سعيد بيران عام 1925، وقبل ذلك هروب المرجع النقشبندي الأكبر طه النهري، من جولمرك (هكاري) إلى راوندوز التي كانت تحت الحكم البريطاني، بات الشيخ عبدالحكيم الأرواسي، أكبر مرجع نقشبندي في شمال كردستان – تركيا. ساهم “الأرواسي” في دعم ثورة “بدليس” عام 1914، التي فشلت ثم تم إعدام قائدها الملا سليم في القنصلية الروسية، لكن سيرة العائلة الأرواسية تروي القصة الثانية لسياسة التتريك المعتمدة على “النفس الطويل”.
مع نهاية الحرب العالمية الأولى، توجه “الأرواسي” إلى إسطنبول واختارها مكاناً للإقامة حتى وفاته في 1943، فمنحته الدولة حق الإمامة في جامع السلطان أحمد، وأدار تكية نقشبندية في حي “أيوب باشا”. وهناك تعرف على شخصيتين، هما حسين حلمي إيشيك ونجيب فاضل، وكلاهما من الأسماء البارزة في مجال الشعر والكتابة الوجدانية في تركيا، ويحمل “فاضل” لقب “سلطان الشعراء”. هذان الشخصان احتكرا كتابة سيرة “الأرواسي” في إسطنبول، مثلما احتكر طلاب أتراك، سيرة سعيد النورسي.
إن العديد من دوائر الشك تدور حول هاتين الشخصيتين، حسين حلمي ونجيب فاضل، فكل منهما كان له دور وتأثير على الشيخ “الأرواسي”، ومن المشكوك فيه أن يكون الأمر مصادفة ظاهرة احتكار شخصيات تركية سرد تفاصيل سيرة كبار الشيوخ الكرد بعد تأسيس الجمهورية، خصوصاً أن تحول هؤلاء الشيوخ من “عثمانيين كُرد” إلى “مسلمين أتراك” فيه الكثير من التدخل الأمني، ليس فقط التحكم بسيرة الشيوخ بعد وفاتهم، بل حتى في تعديل وتحريف تراثهم الكتابي. المضايقات التي واجهها نجيب فاضل من قبل أجهزة الدولة على مدار سنوات حياته، لا ترجح ارتباطه الأمني على كل حال، إنما لوحظ وجود توافق بين التوجهات الفردية لكثير من الكتّاب الأتراك وبين أجهزة الدولة، في مسألة وضع حجاب على الوجود الكردي في تركيا. وينطبق هذا الأمر حتى على الكاتب التركي البارز شريف ماردين، الذي رغم معارضته للنظام السائد، فإنه تفادى في كتابه عن الشخصية الكردية عبدالله جودت، كل ما يدل على الوجه الكردي لهذه الشخصية البارزة وأحد مؤسسي جمعية الاتحاد والترقي.
تولى كل من “فاضل” و”إيشيك”، مهمة تتريك تراث “الأرواسي”، وتعريبه حين يتعلق الأمر بالأصل والنسب، ذلك أن عائلة “الأرواسي” تزعم أنها هاشمية، وهكذا باتت الصحف والإصدارات التركية تقوم بتذكير القارئ في كل مرة، أن “الأرواسي” من أقرباء الملك فيصل في العراق!على كل، مسألة الأصل لم تعنِ مطلقاً، في التاريخ الكردي، التبرؤ من الهوية الكردية، بل كان تشريفاً إضافياً لتعزيز موقع الشخص المعني، فمعظم قادة الثورات الكردية هم من الذين ينسبون أنفسهم للسلالة الهاشمية.بعد تتريك تراث “الأرواسي”، وتعريب هويته الفردية، جاء الدور على الشخص الثاني من حيث الأهمية: المثقف والمتدين النقشبندي وعميد حركة النشر باللغة الكردية محمد شفيق الأرواسي.
انتقل “محمد” إلى “إسطنبول” في عام 1912، وعمل في نشر الكتب الكردية، من بينها أول طبعة لديوان المتصوف الكردي الكبير ملا جزيري، حيث إن النسخ السابقة كانت بخط اليد. شارك في تأسيس جمعية “هيفي” التي كانت تضم عدداً من القوميين النقشبنديين، وبات عضواً في جمعية الاتحاد والترقي الكردية. وترأس تحرير مجلة كردستان، سنة 1919، التي أصدرها صديقه محمد محري في إسطنبول.
كانت بداية مسيرة التحول التي طرأت على العائلة الأرواسية، في الإعدامات التي طالت القادة الكرد في عام 1925، فقد نجا محمد شفيق وعمه عبدالحكيم، إلا أن محاكم الاستقلال كانت لديها صلاحية لفتح الملفات القديمة، فتمت محاكمة “شفيق” عشر سنوات بتهمة طبع ونشر ديوان ملا جزيري، إلا أنه خرج من السجن في عام 1928 بموجب عفو عام.
بعد خروجه من السجن، التزم محمد شفيق، وهو ابن أخ الشيخ عبدالحكيم، الجانب الديني، ونأى بنفسه عن أي نشاط ثقافي، معتكفاً في تكيته النقشبندية بإسطنبول، ما عدا إعادة طبع ديوان ملا جزيري مرة أخرى في عام 1934، رغم الحظر على النشر باللغة الكردية. وتوفي عام 1970 ودفن إلى جانب رفيق دربه عبدالرحمن رحمي، حيث كان كلاهما من تلامذة سعيد النورسي.
في المرحلة التي سبقت الطغيان التركي، كانت حركة النشر الكردية الأكثر نشاطاً، هي تلك التي رعاها وشجعها سعيد النورسي، وكان إلى جانب محمد شفيق، كلا من محمد محري وكامل رامز كورديزاده وحمزة موكسي وخليل خيالي. أما العضو الآخر في العائلة، أحمد الأرواسي، فقد اندمج فوراً في الطورانية، وعلى نحو مدهش، أصدر مقالات عديدة ضد الكرد، وبات قيادياً في حزب الحركة القومية، ومقرباً من ألب أصلان توركيش. حين كان الحزب يتعرض لانتقادات بسبب التوجهات الفاشية في برنامجه، كان “توركيش” ورفاقه يقدمون “أحمد الأرواسي”، باعتباره ليس تركياً، وإنما كانوا يقدمونه على أنه عربي، وهو كذلك تبنى هذا النسب. وقد ابتكر أحمد الأرواسي النزعة الإسلامية الغريبة داخل حزب الحركة القومية.
أما الجيل الثالث من الأرواسيين، فيظهر براعة العمل التركي في سياسة “التتريك الناعم” التي مارستها أجهزة المخابرات (مكتب الثقافة) على عدد كبير من العائلات الكردية البارزة. حالياً، هناك عبدالأحد أرواس، وهو نائب برلماني في حزب العدالة والتنمية عن منطقة “وان”، وهناك ابن عمه عبدالسلام أرواس الذي رشح نفسه للانتخابات البرلمانية على قائمة حزب الحركة القومية في “وان”، وحفيدة عبدالحكيم الأرواسي، خندان، تزوجت من شقيق الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال، حيث ظهر أن شبكة الزواج النقشبندية متشعبة ومعقدة للغاية.
آخر تصريح لابن السلالة الهاشمية “عبدالأحد أرواس”، كان في 20 كانون الثاني/يناير 2019، حذّر فيها سكان ولاية “وان” الكردستانية، من أنه إذا لم يربح حزب العدالة في الانتخابات البلدية في آذار/مارس القادم، فإن “العصابات المسلحة (يقصد القوميين الكرد) سيسيطرون على الشارع ولن يكون أحد في أمان”. فاز حزب الشعوب ببلدية وان، بنسبة 53% من الأصوات.
لكن عائلة الأرواسي لم تغب عن الانتخابات، فقد ترشح أحد أفرادها، ويدعى مكي أرواس، على قائمة حزب العدالة والتنمية لبلدية “باهجه سراي”، وفاز فيها بنسبة 65%.التتريك عبر “النسب الهاشمي” لم يقتصر فقط على العائلات التي صرحت بذلك، فالعائلة الأرواسية تدعي هذا النسب حتى قبل التتريك، حين كانوا قادة في الحركة المطلبية الكردية مطلع القرن الماضي، بل تعدى ذلك إلى محاولة اختلاق هذا النسب لبعض الشخصيات، مثل سعيد النورسي، المعروف عنه أنه لم يسبق وادعى أنه من السلالة الهاشمية أو الحسينية، وقال بنفسه إنه من أسرة بسيطة ليس لها من الأنساب ما تفخر به. رغم ذلك، فإن اثنين من معارف النورسي، وهما صالح أوزجان ومحي الدين يوروتن، أدليا بشهادتهما للمؤلف نجم الدين شاهينر، وقالا إن النورسي قال لهما في حديث خاص إنه كان “شريفاً”، أي ينحدر من سلالة النبي محمد. قطع صالح أوزجان، صلة “النورسي٠ بالكرد من طرفي الأب والأم، فزعم أن الشيخ بديع الزمان قال له إن والدته يرجع نسبها إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، ووالده يرجع نسبه إلى الحسن بن علي.
من الصعب أن يكون النبش في اختلاق الأنساب، في حالة “النورسي”، أو توظيفه في التتريك، في حالة “الأرواسي”، له دوافع ثقافية –بحثية، وسط إغفال التدخل الأمني في تفاصيل كتابة السير الذاتية، فالدولة التركية، على خلاف أنظمة كالتي حكمت وتحكم سوريا والعراق قائمة على مؤسسات ثقافية أمنية، وليس فقط أمنية، أي أنها دولة لها فلسفة للتجانس الاجتماعي، ورؤية لتطبيقها على أرض الواقع بتوجيهات علماء في الاجتماع والسياسة، ومن البديهي أن يتم تكليف كتاب ومعاصرين للشخصيات الكردية المستهدفة، باختلاق أنساب ومقولات بهدف تسهيل دمج الأبناء في الهوية التركية، وقطع الطريق على أي محاولة “صحوة” محتملة من قبل الأجيال اللاحقة في هذه العائلات، وفق التصور الأمني.
على سبيل المثال، نشر الموقع الإلكتروني لصحيفة “ديلي صباح” التركية، القسم العربي، مقالاً للكاتب “أكرم أكينجي” في حزيران/ يونيو 2017 تحت عنوان “ذكريات رمضانية من التكية الكاشغرية في إسطنبول”، وجاء فيها ما يلي:(بالطبع لم تكن هذه هي الذكرى الرمضانية الوحيدة للتكية الكاشغرية.
في مكان بعيد كان الشيخ عبدالحكيم الأرواسي المنحدر من عائلة تنتمي إلى آل البيت وهبت نفسها منذ قرون للعلم، منشغلاً في العلم والوعظ بمدرسة وتكية باش قلعة. وبسبب الاحتلال الروسي اضطر إلى هجر موطنه. وفي 1919 أتى إلى إسطنبول فعينه السلطان شيخاً للتكية الكاشغرية واستقر بها). في هذه المقالة، حرص الكاتب التركي على إلحاق صفة “آل البيت” بعد اسم الأرواسي، لتذكير كل قارئ أن الشيخ “عربي”.
إن الوعي بعقلية الدولة التركية، وكيفية توظيفها كافة الموارد، في سبيل “انسجام الأمة”، يجعل أول سؤال يتبادر إلى الذهن لدى قراءة سيرة حسين حلمي إيشيك، الذي لازم الشيخ عبدالحكيم أرواسي، طيلة سنوات، هو: هل كان ذهابه في تلك الليلة إلى جامع بايزيد لأداء الصلاة، وهو لم يصلِ قبل ذلك، صدفة؟
هل لقاء “نجيب فاضل” الشيخ الأرواسي، على البوسفور، في تلك الليلة، صدفة؟ قد يكون كذلك، لكن الدولة التركية بأجهزتها وتغلغلها في الحياة الثقافية، لا تترك مثل هذه الأمور للصدفة دائماً.
يبقى سؤال على الهامش: إذا كان “النسب الشريف” وسيلة للتريك، لماذا لا تخشى الدولة التركية من تحول هؤلاء إلى الفكر القومي العربي؟ الإجابة ليست غامضة. القومية العربية لا جغرافية لها داخل تركيا مقارنة بكردستان، ولا تاريخ ثوري لها داخل تركيا، وفوق كل ذلك هي مطيعة لأيديولوجية الدولة، خصوصاً مع بوجود نفحة إسلامية.