كان القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، خطاً من الأحداث الكبرى المترابطة. حيث بات أمن الوجود البريطاني في الهند، خلال تلك الحقبة، مصنعاً لمعظم الحروب الكبرى. وخلال دراسة لي عن الطرق الصوفية الكردية، عثرت على معطيات هامة، بخصوص انهيار الإمارات شبه المستقلة داخل الدولة العثمانية، من بينها الإمارات الكردية، وحكم المماليك في العراق، وآل الجليلي في الموصل. فقد كان تأمين طرق التجارة بين الهند وأوروبا، عبر الدولة العثمانية، يقف خلف تحولات كبيرة داخل هذه المنطقة. من ثنايا الصراع على طريق الهند، براً وبحراً، ظهرت ما سمي في التاريخ بـ”المسألة الشرقية” حين شعرت بريطانيا بإمكانية توغل روسيا القيصرية جنوباً، ومخاطر قطع الممر التجاري الهندي البريطاني، سواء عبر احتلال روسيا أجزاء من الدولة العثمانية، أو شمال الهند نفسها.لقد كان قرن طريق الهند.في العقد الثاني من القرن الـ21، بدأت ترتسم معالم قرن آخر، متمحوراً حول أرضية مشابهة لطريق الهند في القرن التاسع عشر: قرن طريق الحرير الصيني.ما زال مبكراً التكهن بدرجة تأثير الصراع حول هذا المشروع الصيني (الحزام والطريق)، على جملة من الأحداث والحروب في العالم، ضمن مسارات هذا المشروع العملاق. وقد قادتني الصدفة إلى العثور على رابط ما ، كان مشوشاً في بداية الأمر، بين أحداث العنف في سوريا والعراق، وبين مشروع طريق الحرير. كنت حينها قد أنجزت معظم فصول هذا الكتاب. وأزعم هنا أنني وصلت إلى جانب من “الشيفرة السرية” لأسباب تحطيم هذه المنطقة، بدولها وشعوبها، لكن لن أسوق هذه الفرضية وأنهمك في إثباتها، فحرصت على إتمام مخطط الكتاب كما هو، وهو التكوين التاريخي المعاصر للأنبار، ووضع الأحداث اللاحقة، منذ الاحتلال البريطاني، في سياقها المحلي أولاً. وفي الفصل الأخير، ناقشت موقع بادية العراق والشام في مشروع طريق الحرير. وقد اختبرت هذه الفرضية حين أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في تغريدة على تويتر، نهاية العام 2018، قراره بسحب قواته من سوريا. كان رهاني أنه يستحيل أن تنسحب الولايات المتحدة من قاعدة التنف العسكرية، الواقعة في البادية السورية، على الحدود مع العراق طالما أنها لم تعلن الاستسلام للصين. وبعد مضي شهور، تراجعت واشنطن عن قرارها، وأكد مسؤولون عسكريون أنه حتى لو جرى الانسحاب من شرق الفرات فإن القوات المرابطة في قاعدة التنف، ستبقى إلى أمد غير محدود. كان الانسحاب بهذه الصيغة، والظروف الدولية في مطلع العام 2019، يعني إخلاء السبيل أمام مشروع الهيمنة الصينية على العالم.
قد يبدو للوهلة الأولى، أن هذا الكتاب، بعناوينه التعريفية، وفصوله، مخصص لرصد وتحليل تحولات البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في إحدى المحافظات العراقية. وأود أن أستثمر السطور الأولى من هذه التوطئة، في محاولة لتوسيع قاعدة القراء المحتملين. فالكتاب، في نهايته، يقدم الأنبار كعيّنة لصراع دولي أوسع بكثير، ليست الأنبار سوى ساحة من ساحاتها الكثيرة، لكنها، بالاتصال مع سوريا، الساحة الأكثر دموية، ليس فقط بسبب طبيعة مخزون العنف في هذه المنطقة، اجتماعياً ودينياً، بل لأنها أنسب ساحة لإخفاء الأسباب الحقيقية للصراعات الإقليمية والدولية. فلدى الأنبار مَظْلمة عراقية واضحة، وخسائر كبيرة نجمت عن انهيار النظام العراقي السابق بقيادة صدام حسين.
إنّ فتح باب الجحيم على المنطقة، من بوابة غضب الأنبار، توحي وكأن الصراع ينفجر من الداخل، لا شأن لأية قوى دولية في إشعال شرارته الأولى. وقد توخّيتُ الحذر كي لا أقع في أفخاخ نظريات المؤامرة، الرائجة بشدّة، في سرد سيرة الأنبار. فبَعد السرد التاريخي وقراءة التحولات الاجتماعية، رأيت من المناسب إكمال القصة، في الفصول الأخيرة، عبر ترجمتها إلى “لغة المصالح” في الصراع الدولي، وعدم الاقتصار فقط على الدائرة المحلية من التناقضات الاجتماعية والسياسية واتجاهاتها، لأن الاكتفاء بالعوامل المحلية للصراع يزيد من التضليل، قصداً أو بدون قصد.
الأنبار منطقة ذات إنتاجية ذاتية عالية في العنف، وفي الوقت ذاته، ضحية عنف مبرمج خارجياً. من الصعب على أية منطقة، تنطبق عليها هذه المعادلة، أن تنجو قبل أن تُدمِّر نفسها تماماً. في هذا الكتاب، سيرة ذاتية متصلة لهذه المنطقة، التي تعد الأنبار مركزها السياسي، فيما الامتداد الاجتماعي والأحداث التاريخية تمتد إلى بادية الشام وأجزاء من شمال شرق المملكة العربية السعودية.
كانت الموصل، لحظة استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عليها، في العام 2014، مصب نهر من العنف التاريخي الذي يصعب تحديده وتشريحه بكلمات قليلة. أما النهر فيتكون من روافد عديدة، أكبرها محافظة الأنبار.
حين تبلورت لدي فكرة الكتاب عن الأنبار، أوقفت مشروعي الأساسي في مجال التأليف حول التحولات الاجتماعية الكردية. هذا الانتقال، الحاد، من كردستان إلى الأنبار، لم يشكل بالنسبة لي استدارة بحثية. فكلا الموضوعين مجال واحد طالما أن المرتكز هو التحولات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة التي تتشابك بقوة في بناها التاريخية، وأيضاً بسبب قناعتي ارتباط مصير منطقة شرق الفرات، التي يديرها الكرد بالتشارك مع مكونات المنطقة في تجربة فريدة من نوعها، بمصير الصراع الدولي على العراق، وبشكل خاص الأنبار.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014 نشرتُ مقالة في صحيفة “البيان” الإماراتية بعنوان “الأنبار .. تناقضات اجتماعية وانقسام سياسي”. هذه المادة القصيرة هي البذرة التي انطلقت منها لاحقاً لكتابة بحث لا يتجاوز خمسة آلاف كلمة. خلال عملية جمع المواد، تفاجأت أنه لا توجد مراجع أستند إليها. فالأنبار ما تزال منطقة خام تحليلياً، وكل المتوفر عنها يأتي في سياق التطرق للتاريخ العراقي العام. وبدأت أجمع السطور المتناثرة الخاصة بهذه المنطقة، منذ فترة مطلع القرن الثامن عشر، من بطون الكتب، فتحولت فكرة البحث القصير إلى هذا الكتاب.
في المقالة “البذرة” تلك، وجدتُ أن تنظيم داعش في الأنبار ليس مجرد “تنظيم عنفي ديني” يستقطب أصحاب فكرة الخلافة وتطبيق الحدود الشرعية. قد يكون الأمر كذلك في جزء كبير منه، وتحققتُ من مسألة كيفية مبايعة غالبية أفراد عشيرة أنبارية معينة لزعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، ولماذا امتنعت غالبية أبناء عشيرة أخرى، مثل البونمر، مبايعة التنظيم. الواقع أن البحث عن الإجابة أوصلني إلى إحدى شيفرات العنف في هذه المنطقة، والتي لا علاقة لها بأي تصور ديني غيبي للحياة، فالبنى الاجتماعية الفوقية (زعماء العشائر ورجال الأعمال والقادة السياسيون) يتقاطعون، تكتيكياً، مع طروحات عدمية، في سبيل غايات ضيّقة الأفق ومؤذية في مسار بناء واستقرار الدول. كانت هذه اللعبة الخطيرة، وغير المسؤولة، من جانب هذه الطبقة الأنبارية، وشركائها في المحافظات الأخرى، مدخلاً لفكرة هذا الكتاب، لرصد الجذور الاجتماعية والاقتصادية للعنف.
واجهت بعض الحيرة وأنا أنبش في مئات المراجع، ما بين كتب وأبحاث، في الاعتماد على منهج بحثي محدد لتفكيك وتحليل وتفسير البنى الاجتماعية والسياسية في الأنبار. الواقع أن واحدة من مشكلات الدراسات الاجتماعية والسياسية، انطلاقها من مدارس لا تصلح لدراسة حالة مجتمعات كالتي في العراق أو سوريا. ففرضية الصراع الطبقي، المستندة إلى المادية التاريخية، لا تعدو كونها نكتة تحليلية إذا تم الاعتماد عليها كأساس في تفسير الظواهر الاجتماعية، وهو ما ينطبق على العراق بجميع مكوناته الحالية. ففرضية الصراع الطبقي تؤدي إلى تحريف عميق للواقع، لأن الصراعات الأشد في هذه المنطقة تكمن داخل الطبقة الواحدة. كذلك الأمر بالنسبة لاستخدام المنهج الخلدوني، المرتكز إلى صراع البداوة والحضارة . فجميع حروب البدو كانت مع بدو آخرين، ونادراً ما كانت تتعرض المدن لهجمات القبائل.
مؤخراً بات هناك منهج جديد، معتمد بشدة في تفسير الأحداث، وهو الأخطر، والأكثر تأثيراً في إخفاء المسارات التاريخية للمجتمعات، وهو المنهج الطائفي، المستند إلى الصراع السني الشيعي. في هذا الكتاب هناك جزء من كل هذه الاتجاهات الثلاثة في التفسير، كلُ حسب طغيانه، لكن أيا منها لا يشكل امتداداً كلياً للآخر. وسنتناول في الكتاب، بالتتابع، مرحلة الصراع داخل البداوة (رعاة الإبل ورعاة الغنم) والبداوة والحضر – وليس الحضارة – وتالياً بدء تفكك الأنماط السابقة تبعاً لتحول أنماط الانتاج، وبقاء البنى الاجتماعية التقليدية مترنّحة، دون أن تتعرض لهزيمة مدنية ساحقة. وقد نال الجانب التاريخي، جزءاً كبيراً من الدراسة، حيث تتبعتُ تسلسلاً تاريخياً للأحداث، وقسمتها حسب كل حقبة سياسية، فهناك المرحلة العثمانية، ثم البريطانية، فالملكية، والبعثية، وأخيراً ما بعد سقوط نظام حزب البعث.
وقبل الانتقال إلى متن الكتاب، أود التطرق إلى نقطة تماس بين العام والشخصي. فقد عملت جاهداً في هذا الكتاب عدم الانتصار لفرضية مسبقة. فالميدان البحثي غني بالاستنتاجات الموضوعية، لكنه بات من الهشاشة أيضاً بحيث يمكن سوق الأدلة المنتقاة بعناية لإثبات فرضيات رغبوية بكم هائل من المراجع. وحين بدأت العمل على الكتاب، لم تكن محاورها واضحة بالنسبة لي. بعد كتابتي عدداً كبيراً من المقالات التي تتناول الوضع في العراق في منابر إعلامية عديدة، بقي لدي فضول معرفي لم تشبعه القراءات القصيرة عن العراق. معظم هذه المراجع كان يغيب عنها الجزء الأكثر حضوراً من الناحية الأمنية منذ عام 2003: الأنبار! وهذه معضلة بحثية لم أجد لها تفسيراً معقولاً سوى أن الركون إلى التاريخ القريب جداً، والذي لا يتجاوز بضع سنوات، بات في الصف الأمامي لتأسيس مقاربات آنية، غير دقيقة، لا تعطي بالاً لدور التراكم التاريخي في تكوين هوية المجتمعات المحلية، واتجاهات العنف فيها.
واجهت تحدياً خلال مراحل إنجازي لهذا الكتاب، تمثل في ندرة “المصادر المركّزة” حول موضوع البحث، وندرة المقابلات الشخصية المباشرة، وأمكن تجاوز مشكلة المقابلات كون الكتاب ليس بحثاً في امتدادات العشائر وفروعها بقدر ما يتناول التاريخ والحاضر السياسي لقياداتها وأرومتها، والأهم من ذلك أنماط الانتاج التي لعبت دوراً في تحولات بنيوية عميقة في الحياة شبه المدنية في هذه المنطقة.
قد يخيل للوهلة الأولى حين يقرأ القارئ اسم “الأنبار” على غلاف الكتاب، أن الأمر يتعلق بالحركات الجهادية وعلاقتها بهذه المنطقة الواسعة. والواقع هذا سيكون أحد فروع هذه الدراسة، بل على هامش كل ما سيأتي.أخيراً، فإن الكتاب يفتقد إلى عنصر ترويجي، بات من العادات في مجال الانتاج المعرفي في المنطقة. فلستُ عراقياً، بل أنحدر من محافظة حلب السورية من بلدة كردية. كما أني لست من الكتّاب الغربيين الذين لا يتعرضون للمساءلة المتجسدة في: “وما أخذك للكتابة عن العراق؟” وإجابتي مستمدة مما كونته من انطباع عن سير الكفاح من أجل البقاء، وجذور العنف في كردستان وبلاد ما بين النهرين والجزيرة العربية: إن الأنبار، من حيث الامتداد الاجتماعي والسياسي، تقع على حدود البلدة الكردية التي أنحدر منها شمالي حلب.