واشنطن في شمال شرق سوريا بين «الصوابية السياسية» وضبابية «بناء الأمة» (2)

فرهاد حمي

كان الغرض، في المادة السابقة، من إبراز الأهداف الأميركية في شمال شرق سوريا بشقيها، الصلب والسائل، ترتيب أولويات السياسة الأميركية بشكلٍ سريع في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية، وما تحمل هذه العوامل من التزامات على المدى المنظور، بغية مواصلة العمل في المنطقة. ولأن استمرار العمل لم يعد لوحده كافياً لتخفيف حدّة الاحباط الاجتماعي، قياساً بحجم المخاطر الوجودية التي تجتاح المنطقة (الحرب وأثارها، الأمن الغذائي والبيئي، التدهور الاقتصادي والثقافي والنفسي، ونزيف الهجرة الجماعية)، فإن إعادة قراءة التجربة الغربية، من زاوية نقدية في ضوء السنوات الماضية، أمست ضرورة ملحة بغية فرز المساوئ عن المحاسن.

مُحال من حيث المبدأ، طبقاً لتشابك الواقع وتعقيداته، تقديم إجابات شافية لكل القضايا الساخنة، لأسباب مرتبطة بدنياميات الواقع وانقلاباته اللحظية واستعصائه التاريخي، ناهيك عن غياب مراجع دقيقة وقاعدة بيانات صلبة ودراسات بحثية جادة. ومع ذلك، يبقى الركون إلى الميّزة التفسيرية هدفاً نصبو إليه بغية إنارة التناقضات التي تقف سداً منيعاً حيال التحديات.

سنعالج تباعاً أربعة تناقضات رئيسية هي: نزعة الصوابية السياسية، عقيدة بناء الأمة، المصيدة الكردية، والنهج الأمني. ستتناول هذه المادة نزعة الصوابية السياسية وعقيدة بناء الأمة من خلال سلوك المؤسسات العسكرية والدبلوماسية الأميركية والغربية عموماً، وكذلك المنظمات غير الحكومية والخبراء والتقنيين والمستشارين الرسمين وغير الرسمين، تزامناً مع برامج المساعدات الإنسانية والاستقرار والتعافي المبكر.  في حين، سنفرد لكل من المصيدة الكردية والنهج الأمني، مادة لاحقة.

الصوابية السياسية

تحتل إشكالية النهج أو ما يعرف بـ«الخطاب المعرفي» قولاً وفعلاً، صدارة التناقضات الغربية لمواجهة الأزمات في شمال شرق سوريا. ويعود جذر هذه المعضلة إلى سيادة نزعة «الصوابية السياسية» (Political correctness) التي تحتكر قول الحقيقة. وعلى الرغم أن الصوابية السياسية تبدو نزعة أخلاقية مهمومة بالدفاع عن الأقليات والفئات المضطهدة والهويات المحرومة من الفرص العادلة والتمثيل الثقافي والسياسي، من خلال آليات السلطة الجديدة والمنظمات غير الحكومية وسلطة الخبراء والمستشارين والباحثين النخبويين، إلا أنها تحاول تسكين الصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وضبطها داخل الحيز الحقوقي والأخلاقي الفردي فحسب، دون العمل على خلق حراك سياسي نضالي مُنظم لخلق تغيير مادي وملموس في الظروف التي أدّت إلى بروز تلك الأشكال من الهيمنة والاستغلال والإقصاء التي تدّعي نزعة الصوابية السياسية ويدّعي القائمون عليها أنهم يحاربونها.

ظاهرياً، تتحاشى هذه النزعة، كما يبين الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك، أنماط النظم الشمولية المتعلقة بفرض حضورها وخطابها على الآخر. فهي تروج إلى لغة ما بعد الحداثة على ألسنة الخبراء والمختصين، غالباً من خلال المعادلة التالية: «في حقيقة الأمر، حبذا لو تتصرف هكذا، سيكون جيداً. في نهاية المطاف يعود إليك اتخاذ قرار الاختيار  والتصرف».

مؤكداً، تبدو هذه الصيغة أكثر إغراءً وجاذبيةً من مقولات قسرية مباشرة مثل «شئت أمّ أبيت يجب أن تتصرف هكذا». وبحسب جيجك، يخفي هذا الخطاب المرن في التحليل النهائي، القصد التالي: «بصفتي خبيراً ومختصاً، أعلم أفضل منك حيال ما تريد فعله حقاً، ويجب خضوعك  لرؤيتي  بكامل إرادتك وطوعاً».

عملياً، تحوّل الصوابية السياسية المواطنين إلى أطفال عن طريق «سحب الأهلية منهم، واعتبارهم غير مُؤهلين لمواجهة ظروف الحياة ولا يستطيعون التعبير عن أنفسهم، ولا بد دوماً من حمايتهم وفرض الوصاية عليه» وفق الفيلسوف النمساوي روبرت بافلر. وفي التحليل الأدق، تحتكر الصوابية السياسية مبدأ الحقيقة، وهي غير منفتحة حيال أساليب معرفية أخرى. وبذلك، لا تخلو من تحيزات أيديولوجية، بل وطبقية، تفرضها الثقافة الفردية المهيمنة.

وبحكم نوعية القضايا المتفجرة في سوريا، والتي تحمل أبعاداً سياسية وتاريخية واجتماعية ومناخية، لا يمكن إحالة قضايا المجتمع إلى مسائل علمية ورياضية بسيطة. وما يُطرح بوصفه الحل التكنوقراطي أو العلمي أو حتى الحل الأخلاقي، غالباً ما يكون نتيجة تحيزات أيديولوجية ما تدفعها مصالح اجتماعية وطبقية محددة. كانت هذه المقاربة موضع نقدٍ لاذعٍ لدى يورغان هابرماس، الذي رفض أن يكون المجال العام حكراً على فئة شبه كهنوتية من الخبراء، معتبراً المواطنين ذواتاً حرة وعقلانية، وليسوا مجموعة من القُصّر الذين يجب إعادة تأهيلهم ليرتقوا إلى مستوى الأيديولوجيا السائدة.

سيكون من المفيد تبيان ماهية الصوابية السياسية من خلال أخذ مثال أزمة المياه في شمال شرق سوريا، وتسخيرها  كسلاح للحرب من قبل تركيا. علماً أنّ المنطقة تعد سلة غذاء سوريا، وكان يطلق عليها  يوم ما « كاليفورنيا الشرق».

استناداً إلى العديد من التقارير الدورية التي تصدر من المنظمات الدولية المعنيّة بالمناخ والأمن الغذائي، أضحت المنطقة على حافة أزمة بيئية بكل المقياس، نظراً لأن  60 في المئة من مصادر المياه السطحية تتدفق عبر تركيا، بينما تتوزع النسبة الباقية بين المياه الجوفية وهطول المطار. وبحكم أن ظاهرة الاحتباس الحراري رسخت مستويات الجفاف إلى درجاتٍ خطيرة، فإن الحكومة التركية، بحسب المصادر المحلية، تبني أيضاً السدود الباطنية على الطراف الموازي للحدود لسد الينابيع الجوفية التي تذهب صوب شمال شرق سوريا.

وباعتبار أن مورد المياه يشكل سبب حيوي لإنعاش الزراعة والثروة الحيوانية ومياه الشرب وشبكة توليد الكهرباء بصورة متداخلة، فإن التحذيرات تشير إلى أن المنطقة وصلت إلى نقطة تحولٍ، وبدأ قطاع الزراعة يفقد قدرته على الصمود. وتؤكد التحذيرات أن عواقب هذه الأزمة ستكون مروعة، بحيث تفجّر موجة هجرةٍ جماعية باتجاه المدن الداخلية المكتظة أصلاً، أو لجوءٍ إلى الخارج، علاوةً على إمكانية انتشار الأوبئة المزمنة جراء تفاقم أزمة الصرف الصحي ونقص مياه الشرب. كما أنّ فقدان مصادر رزق المزارعين ورعاة الثروة الحيوانية، سيفسح المجال لدمشق وطهران وأنقرة والجماعات المتطرفة لاستغلال حاجة تلك الفئات ودفعهم صوب عالم الجريمة والعنف والتنظيميات المتطرفة، الأمر الذي يهدد الأمن المحلي والدولي معاً.

يقيناً، ستكون أثار الأزمة واضحة على الأمن الغذائي المحلي لجهة تأمين مادة الخبز توازياً مع الظروف الدولية القاهرة. ولن تتوقف تداعياتها عند هذا الحد، بل مرشحة لزيادة حدة العنف والاستقطاب الاجتماعي وتثوير الحروب الأهلية المحلية، ليصبح التنوع القومي والديني في مهب المجازر والتهجير القسري. ومن ثم، إفراغ المنطقة من المكونات الأصلية. وفي نهاية المطاف، سيكون بلد الثورة الزراعية أرضاً منسية، بحيث تقف الأطلال وحدها لتكون شاهدةً على التاريخ.

ليست هذه التحديات المتداخلة من طينة مؤثرات محتملة، بل وقائع مادية ملموسة، ولا تقبل حلولاً ترقيعية وترحيلاً للمشاكل. كما لا تحتمل خطاب التنصل من لب المشكلة، والتغاضي عن المسببات الرئيسية التي تقف خلف ذلك. هنا على وجه الخاص، تأتي وظيفية إيديولوجية «الصوابية السياسية» لتحيل الأزمة إلى جهل المزارعين وغياب ثقافة التحديث الزراعي وعدم تنويع البذار، وتقترح وجوب توجيه طاقات العمل صوب أعمال هزيلة مثل تحسين شبكات المياه قبل الحرب السورية. وأحياناً تقوم بمهمة توزيع المياه عبر الصهاريج بصورة رمزية، فقط لكي تتمكن بضعة منظمات غير الحكومية من تبرير ميزانيتها. ولدى إصدار بيانات إعلامية مشينة اعتراضاً على أزمة المياه، تتجنب قدر المستطاع الإشارة إلى المسؤولية التركية المباشرة بدافع من النزاهة والحيادية والاستقلالية المزعومة.

يبين تمييع القضايا الوجودية على هذا النحو وتشطيرها إلى جزئيات هامشية وعقبات مألوفة بغية التوهان، مدى فداحة تعاطي «الصوابية السياسية» مع القضايا المحلية المستفحلة. فعوضاً عن البحث عن حلول قادرة على التكيّف مع حدّة الأزمة، تطمر أمراض مزمنة وقاتلة من خلال «المسكنات» أو «التخفيف»، وفق قاموس مصطلحاتها اللغوية. وتالياً، تقدم نفسها بهيئة أبوية هدفها إصلاح المجتمع من خلال العبارات التالية: تطوير المهارات وتقوية القدرات وتمكين الطاقات وحماية النوع الاجتماعي « الجندرة» واحتواء النزاعات وفض عمليات التصعيد.. وهلم جرا.

هلامية بناء الأمة

يتفرّع من هذه الإشكالية المنهجية الأميركية والغربية عموماً تناقض موازٍ يتعلق بالإرادة السياسة الخارجية وعقيدة رفض المساهمة في بناء الأمم، خاصةً عقب فشل تجربتي أفغانستان والعراق. يشدد أنصار هذا الرأي أن الامتناع عن بناء الأمم درس تاريخي للسياسة الخارجية الأميركية. فهم يعتبرون عملية بناء الأمة بمثابة مستنقعٍ سياسي لا يجدر للولايات المتحدة أن تغامر من أجله، ناهيك عن الكلفة الباهظة من الموارد المالية والبشرية لمهمة لا طائلة منها ومن دون نهاية.

ويشير الدبلوماسي الأميركي الشهير ريتشار هاس في كتابه  «A World in Disarray» إلى أن المدارس الفلسفية للسياسة الخارجية الأميركية تنقسم عادةً حيال فكرة بناء الأمة من عدمها. إذ تنظر المدرسة الويلسونية  «المثالية» إلى قضية تشكيل طبيعة المجتمعات الأخرى وأوضاعها الداخلية كهدفٍ أساسيٍ للولايات المتحدة في العالم. وقد يكون الهدف تعزيز احترام حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية أو رفع المعاناة عن البشر. ارتبطت نشاطات رؤساء الولايات المتحدة جيمي كارتر ورونالد ريغان وجورج بوش الابن بهذه الفلسفة. واليوم، ثمة من يلتزم في صفوف الحزبيين بها.

ويستند ثاني التقاليد المهيمنة على السياسة الخارجية الأميركية إلى «المدرسة الواقعية»، التي ارتبطت تاريخياً بسياسة الرئيسين ريتشارد نيكسون وجورج بوش الأب. طبقاً لهذا التقليد، لا يندرج التركيز على طبيعة الدول والمجتمعات في نطاقها الداخلي، بل على ما تمارسه هذه الدول خارج حدودها من خلال سياساتها الخارجية. فعلياً، لا يعد هذا التقسيم قاطعاً، وقد يحمل المزواجة بين المثالية والواقعية معاً تبعاً لأولويات الأهداف الاستراتيجية العامة والظروف المتغيرّة.

بالمقابل، يعتبر مناصرو بناء الأمة أن أطروحة تجنب بناء الأمة ستغرق البلدان الخارجة من الصراع في الفوضى العارمة. ويعتبرون أن بناء الأمة يتضمن جهود الأطراف المتدخلة لوضع أنظمة سياسية وإدارية جديدة وتشكيل مجتمع مدني وتقوية مكانة المرأة في البلدان التي تعاني من الصراعات أو التي خرجت لتوها من الصراعات.

مع ذلك، فقدت السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط حماستها لفكرة بناء الأمة بعد فشل تجربتي العراق وأفغانستان. وأضحت المقاربة الأميركية تشبه تلك البريطانية حيال الشرق الأوسط عقب الحرب العالمية الأولى، حيث تَمثل الهدف الرئيسي لمؤتمر القاهرة عام 1921 تحت قيادة ونستون تشرتشل بـ«البقاء في المنطقة بأقل كلفة ممكنة».

اليوم، تواجه الولايات المتحدة مهمة مماثلة في الشرق الأوسط, إذ تتجنب بذل مجهودات أكبر، مثل خلق كيانات محددة المعالم وقادرة على البقاء، وترفض في الوقت عينه وضعية المتفرج، على غرار ترك المنطقة لتدبر أمورها بنفسها. وغالباً، تنتهج سياسة عدم التفكير فيما يمكن إنجازه، بل فيما ينبغي اجتنابه. أي يتوجب إدارة الأزمة لا معالجة القضايا، خوفاً من التكاليف الباهظة وسقوط هيبة السياسة الخارجية.

لكن ما يتم تجنب الحديث عنه، جراء صدمة أفغانستان وخيبة الأمل حيال فشل بناء الأمة، يعود بالأساس إلى عدم رغبة العديد من المانحين، بما في ذلك الولايات المتحدة، في توجيه المساعدات من خلال الحكومة الأفغانية. إذ فضلوا بدلاً من ذلك المنظمات غير الحكومية الدولية والمتعاقدين من القطاع الخاص، في حين تُرك مصير الثروة المالية واحتكارها بيد أمراء الحرب بمعزل عن الإدارة السياسية العامة. هذا هو الدرس الذي يجدر استنباطه من تجربة أفغانستان والعراق، وينبغي تفادي استنساخه حالياً في شمال شرق سوريا.

إدارة الأزمة وملابساتها

مما لا شك فيه أن وجود القوات الأميركية على الأرض شرطٌ لا غنى عنه لشمال شرق سوريا. لكنّ وجودها على هذا المنوال، لا يشكل ضمانة لبقاء تجربة الإدارة الذاتية على قيد الحياة أو تأمين مصالحها الأمنية والاستراتيجية. بل يتجلى ما يضمن استمرارية وجودها في القيام بالمساهمة الإنمائية الجادة مع السكان المحليين ومؤسسات الإدارة الذاتية.

حملت إدارة الرئيس جو بايدن لدى استلامها دفة الحكم آمال السكان المحليين من أجل مساعدة الإدارة الذاتية ومواجهة الاحتياجات والتحديات القائمة. غير أن إداراته، إلى هذه اللحظة، لم تطمئن السكان المحليين من خلال وجودها بتطوير خطة إنمائية شاملة طويلة الأمد. كما أن التحالف الدولي لم يعلن صراحةً أن قواته لن تغادر المنطقة قبل أن توافق دمشق على اتفاق سياسي بشأن الإدارة الذاتية.

لم يخرج نهج فريق بايدن من نطاق «إدارة الأزمة» واحتواء التناقضات مؤقتاً. فبدلاً من توسيع أهدافها في سوريا تناسباً مع التحديات، ضيّقت الإدارة الأميركية نطاق أهدافها السائلة من خلال إدارة عمليات خفض التصعيد المؤقت بصورة سلبية نتيجة الخروقات التركية اليومية على الجبهات العسكرية مع قوات سوريا الديمقراطية. ناهيك عن فشلها في ترسيخ وقف إطلاق نار دائم، جواً وبراً، ضمن قواعد الاشتباك مع الجانب التركي، مفضلةً اقتصار نطاق عملياتها ضد تنظيمي القاعدة وداعش والميليشيات الإيرانية فحسب. كما لم تف بكامل التزاماتها فيما يخص انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي وحقوق الهويات القومية والثقافية والدينية ومحاسبة مرتكبي جرائم حرب والتطهير العرقي والتغيير الديمغرافي في كل من عفرين وسري كانيه (رأس العين) وتل أبيض.

غرقت استراتيجية إدارة الأزمة، التي تعني الحفاظ على ما هو قائم، في الوحل نتيجة تراكم التحديات المتفاقمة جرّاء الحرب على الإرهاب في ظل تدهور الوضع الإنساني. وعادةً ما تكون الاستجابة المقترحة من قبل إدارة بايدن مغلّفة بأفكار فضفاضة ومشاريع إسعافية خجولة على شاكلة مساعدات إغاثية ودعم الاستقرار والتعافي المبكر والحوكمة.

من المألوف، لدى الحديث عن الوسائل والأدوات لتنفيذ هذه الأهداف، أن تقوم الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي بإتاحة القنوات التمويلية حصراً أمام الوكالات والمنظمات غير الحكومية الدولية وبعض الأطراف المحلية المغتربة عن هواجس الاحتياجات الاجتماعية. وبذلك، يبدأ مسار الفساد وسوء الإدارة والتلاعب بالفواتير وعروض أسعار المزورة ودور الوسطاء والمحسوبيات، وسط تعزيزٍ واضحٍ لعقلية السمسرة. وعلاوةً على ذلك، تتابع هذه المنظمات تطورات الأوضاع المحلية من مكاتبها البعيدة خلف الحدود والمنتشرة في أربيل وتركيا والدول الغربية، الأمر الذي بدأ يثير السخط المحلي من النهج الغربي، بحسب ما يقول الباحث فابرش بالونش. وفرز هذا النهج شريحةً مخملية صغيرة لا تشعر على الأغلب بهول القضايا الاجتماعية المريّعة، بل تكمن مصلحتها في إدامة الواقع على ما هو عليه، لتقوية أوضاعها المادية من خلال استمرار الحصول على الأموال، مستغلةً ترويجها أوجاع السكان المحليين.

وعلى الرغم من القصور الذاتي وتداعيات الحرب، قدمت روج آفا – شمال شرق سوريا، منجزاً حقيقياً، إذ رفعت من شأن القيّمة الكونية للعمل السياسي وساهمت سياسياً ودفاعياً في الوقوف في وجه استبداد النظام السوري والتنظيمات المتطرفة في آن. وبذلك، أسست إرثاً عملياً من ناحية إدارة البلديات المحلية ومجالس المواطنين وجمعيات المجتمع المدني. كما تسعى على الدوام إلى ترسيخ سيادة القانون داخل مؤسساتها (التشريعية والقضائية والتنفيذية).

في المحصلة، باتت تلك المؤسسات تشكل الهياكل الإدارية العامة في المنطقة، فيما تأخذ على عاتقها مسؤولية حماية المجتمع. لكن وتيرة التوترات اليومية المتراكمة، خاصةً تدهور الأمن الغذائي والتضخم الاقتصادي وأثار عرقلة تدفق المياه والجفاف ومواصلة الحملات العسكرية التركية، أضعفت من فعاليتها وقدرتها على التكيف، من دون نسيان التحديات الداخلية ومثالبها وعثراتها، وهو ما سنسلط عليه الضوء  في قادم الأيام.

مقصد القول، تحمّل مقاربتي واشنطن وبروكسل حصة كبيرة في كل ذلك. بادىء ذي بدء، ولأسبابٍ منهجية وسياسية وتقنية، رفضت مؤسسات الخارجية الأميركية ووكالات التنمية الدولية والمنظمات غير الحكومية التعامل مع الإدارة الذاتية بصورةٍ مباشرة، بحيث بقي نطاق التعاون مع التحالف الدولي داخل الإطار الأمني فقط. ومن ثم، بدأت تدعم هياكل مصطنعة ومضادة لبنية الإدارة الذاتية، وهو ما ينذر بتلغيم الشأن العام ومستقبل المجتمع. ثانياً، سرعان ما سيطرت عقلية الصوابية السياسية والمواقف المترددة لبناء الأمة حينما ظهرت في الآونة الأخيرة إشاراتٍ خجولة إلى التعاونٍ والحوار بشأن القضايا الحيوية. وبحسب التجارب السياسة الأميركية السابقة في كل من العراق وأفغانستان وبقية البلدان التي شهدت وتشهد نزاعات، فإن طبيعة هذه الأنماط من التفكير والعمل تنتج انسداداً ودوراناً في حلقة مفرغة غالباً، وتعزز بالتالي الإحباط السياسي والجمود العملي.

للخروج من هذا النفق المظلم، يستوجب الاستلهام من ميراث الإدارة الذاتية ومؤسساتها وعدم قبول فكرة «الأطفال القصّر» والوصاية الأبوية. كما ينبغي الإصرار على القيمة الكونية المتمثلة في المساواة والحريات العامة والخاصة والعدالة الاجتماعية والندية في التعامل، واعتبارها معايير لا غنى عنها في أي توافقٍ مشترك مع الغرب، ومشروطةً بتبني خطة استراتيجية إنمائية شاملة بمنوالٍ تشاركي وتفاعلي، تتخذ من سياسة إعادة إعمار فعلية هدفاً لها، بحيث تشمل مشاريع بنية تحتية مهمة تحت مظلة «الاستجابة الاستراتيجية الطارئة من أجل مواجهة المخاطر الوجودية».

هل هذا كل ما في الأمر؟ بالتأكيد ليس كذلك. فالرؤية الغربية حيال القضية الكردية وسياسة الحكومة التركية القمعية والاستعمارية تجاه شمال شرق سوريا تحمل تحدياتٍ وتناقضات هائلة، وهي مسائل ستعالج في المادة المقبلة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد