الحدود السورية التركية الملتبسة في «الجزيرة العليا» (1920-1929)

شورش درويش
خضعت خرائط سايكس – بيكو (1915-1916) المؤسسة لمشروع تقاسم الدولة العثمانية لسيرورة طويلة، فأدخلت عليها تعديلات حتى لم تعد بالشكل الذي رسمت عليه مطلع عهدها. ومن ضمن ذلك، شكلت منطقة «الجزيرة العليا» نطاقاً لعمليات تعيين وترسيم حدود لم تهدأ لقرابة عقدٍ على دخول القوات الفرنسية إلى سوريا؛ ذلك أن هذه المنطقة لم تخضع لمعيار ثابت فيما خص المشاريع الفرنسية التي سعت مطلع رسم خرائط سايكس بيكو لأن تكون مستقلّة عن بقية سوريا لجهة امتدادها الديمغرافي الكردي.
أطلق الفرنسيون اسم «الجزيرة العليا» أو بالإشارة إليها في مكاتبات جهاز المخابرات (SR) بـ«منقار البطة» مطلع عهدهم الانتدابي لتمييزها عن بقيّة مناطق الجزيرة الفراتية. وفي عام 1926، أصدر المندوب الفرنسي فوق العادة بيير أليب القانون الإداري للجزيرة العليا (مجموعة 304)، وحدد أراضي هذه المنطقة بالحسكة وقضاء خيرو (القامشلي).
ومع تعطيل مفاعيل معاهدة سيفر 1920 كنتيجة للتبدّلات على الساحة العسكرية في الأناضول، تمت الإطاحة بأحلام القوميين الكرد والأرمن على السواء. فقد أفضى مؤتمر لندن في 8 مارس/آذار 1921 إلى تجاهل المطالب الكردية والأرمنية. ودفعت الانتصارات العسكرية التي حققها مصطفى كمال على الفرنسيين في كيليكا لتبنّي فرنسا نهجاً أقل حدّة تجاه الأتراك الجدد، فبدأت سلسلة الاتفاقيات الحدودية ابتداءً باتفاقية أنقرة 1921 المعروفة باتفاقية «فرانكلين بويون»، وما تبعها من اتفاقيات أفضت إلى رسم ملامح الكيان السوري الذي وُضع الأكراد فيه دون خيارهم.
تحاول هذه الورقة تقديم إحاطة حول قضية تشكّل الحدود السورية التركية خلال العقد الثالث من القرن الماضي في منطقة «الجزيرة العليا» والمرحلة القصيرة التي سبقت الترسيم، وكيف خلّف إدخال المناطق الكردية المتصلة بكردستان الشمالية والجنوبية في الكيان السوري الوليد حدوداً ملتبسة، والمشكلات التي اعترضت عمليات تعيين الحدود والزمن الذي استغرقته، وكذلك  النتائج المباشرة الناجمة عن ذلك من قبيل تأسيس المدن الجديدة تعويضاً للمدن/الأسواق التي خسرها سكان «الجزيرة العليا» عقب عملية الترسيم.
لدى تفسير الأطماع التركية داخل ما استقر على تسميته الكيان السوري، من المفيد إعادة تفسير التسويات الحدودية في «الجزيرة العليا» وخضوعها على الدوام لعملية تعديل مستمر ولجوهر المصالح الفرنسية التركية المباشرة بعيداً عن خيارات السكّان المحليين. إن سعي الورقة الرئيس لا ينصبّ على الكتابة التاريخية بقدر ما يحاول تسليط الضوء على تشكّل جزءٍ غدا شطراً من سوريا وما زال يخضع لدورة الأطماع التركية التي تجدّدت منذ عام 2012 لإعادة السيطرة على المنطقة الحدودية في الجزيرة، وكيف يمكن للتاريخ أن يكون «تكرارياً» وفق نظرة ابن خلدون  للتاريخ، حيث يكرّر التاريخ أحداثه دون أن تتطابق نتائجه بالضرورة. وقد يصادف القارئ مقداراً من التماثل بين طبيعة المطالبات التركية في سوريا ورغبتها في تعديل الحدود وإعادة الهندسة الديمغرافية للسكان قبل قرن من الآن، وبين ما جرى وبدأ قبل أكثر من عقد على وقتنا هذا. ويمكن إلى ذلك استبدال فرنسا سابقاً بالولايات المتحدة أو روسيا في بعض الأحيان لفهم مغزى الاتفاقات التي تحصل رغماً عن السكان المحليين، كالاتفاق بين واشنطن وأنقرة والأخيرة وموسكو خريف عام 2019 وما نجم عنه من احتلال لرأس العين/سرى كانيه. ولعل هذا التكرار في الأحداث المتباعدة زمنياً يدلّل على أن المسألة تتعدى ذريعة «الأمن القومي» إلى حيث وجود رغبة تركية عارمة في تعديل الحدود وكسب المزيد من الأراضي تحت أي غطاء.

قبل ترسيم الحدود بقليل

مبكّراً، سعت فرنسا إلى تقديم تصوّراتها فيما خصّ المناطق الكردية في الجزيرة العليا. ففي 6 أغسطس/آب 1920، كانت باريس تخطّط لإبقاء كردستان ضمن مشروع خاص، وفق ما جاء في برقية سرية أرسلها الرئيس الفرنسي ألكسندر ميلّران (1920-1924) حملت عنوان «مخطط لتنظيم الانتداب الفرنسي في سوريا»، يستعرض فيها أشكالاً من الاستقلالات التي يمكن أن تشكّل «الفدرالية السورية». فاستبعد ميلّران «البلاد التركية والكردية» من عملية تصنيع الدويلات السورية، حيث يقول إن الأراضي الكردية «شرق الفرات مع أورفة وماردين.. تفتقد أي رابطة قومية مع سوريا.. ولكي نتجنّب إقامة إدارة عسكرية مباشرة، ينبغي تسليم الحكم لمدة من الزمن لباشا تركي (في البلاد التركية) تجري مراقبته بصورة دقيقة. والشيء نفسه يمكن أن يحصل بالنسبة إلى البلاد الكردية». ويقدم ميلران مقترحه حول الشخص الذي يمكن أن يدير البلاد الكردية ويسميه بالاسم: «محمد بك»، زعيم قبيلة الملّي (الأصح محمود بك ابن ابراهيم باشا الملي) في ويران شهر. ثم يسهب في شرح منظوره المستقبلي هذا بالقول: «يجب تعديل رسم الحدود كي لا تقسم قبيلة الملّي إلى قسمين.. إن مثل هذا الوفاق مع الأكراد وتوطين عناصر كلدانية وآشورية على طول سكة الحديد في شرق الفرات، يضعانا في وضع سياسي مثالي حيال الكردستان». لذلك، فهو يدعو إلى «التغلغل الحذر في منطقة شرق الفرات» بالشكل الذي يسمح لفرنسا توجيه هذه المنطقة، إضافة لعنتاب «إلى نظام مستقل أو دمجها مع الاتحاد السوري». لكنه يشير إلى أنه «يجب في الوقت الحاضر إقامة تمييز واضح بين هذه المناطق والبلاد السورية» (كوثراني، 231-232). ومن المتوقّع أن فرنسا تتبّعت الخريطة الفيصيلة لحكم سوريا التي كانت مناطق شمال سوريا برمّتها غير واضحة فيها بالنسبة لحكومة دمشق، بعد أن فشل الشريف حسين في وقت سابق بإقناع مكماهون في المراسلات المعروفة باسم «حسين – مكماهون» بجدوى مدّ الحكم العربي إلى مناطق كيليكا.
إن منطقة الجزيرة، إذا استثنينا منها دير الزور، لم تكن ضمن خرائط القوميين العرب الأولى، فضلاً عن أن المؤتمر السوري العام المنعقد في السابع من يونيو/حزيران 1919 رسم خريطته التي توقّفت عند سرير الفرات الغربي، مستنداً في ذلك على خرائط سوريا القديمة للمطالبة باستقلالها على هذا النحو. ولم يوجه المؤتمر الدعوة إلى أية شخصية كردية من مناطق الجزيرة وكوباني وكورداغ، و«اقتصر الحضور على شخصيات كردية من خارج جغرافية كردستان سوريا» (ميراني 24). إن إلقاء الضوء على مراحل تشكّل سوريا الأولى يشرح جزءاً من عملية تأخر إدماج الكرد وجغرافيتهم في الكيان السوري.
المشاركون في المؤتمر السوري العام عام 1919
بطبيعة الحال، كانت ديناميات الصراع مغايرة لرغبة ميلران الذي لم يكن واقعياً مثل سلفه كليمنصو. فالرئيس الجديد الذي أذن لجنراله غورو باتخاذ «أي إجراءات ضرورية للمحافظة على الأمن والدفاع عن الشعب وتأمين حماية الجيوش»، كان يخال أنه يمتلك «الوسائل اللازمة لفرض احترام حقوقنا» (بار، 117). غير أن غورو لم يكن يمتلك ما يكفي من القوات لفرض النظام، ومن بين ذلك وضع حد لتطلّعات تركيا. كما أن وضع الحد للمعارضة العربية كان يوجب التوصل لاتفاق مع مصطفى كمال، كما أنه كان بحاجة إلى دعم بريطانيا.
من المفيد الإشارة إلى أن المشكلة الكردية- التركية لم تكن انفجرت بعد في غضون حرب الاستقلال التي اضطلع بقيادتها مصطفى كمال، رغم فشل تطبيق الخطوط العامة لاتفاقية سيفر. بل إن كمال نفسه كان يطالب بمراعاة الأوضاع في المناطق الكردية، إذ كان يعمل وقتها للظهور «بمظهر حامي الخلافة، فالكرد كانوا مرتبطين بالدولة العثمانية بخيط الخلافة، عدا عن أن فئات كردية واسعة كانت متوجّسة من الطموحات الأرمنية». وداخل هذه الأجواء العصيبة، أصدر مصطفى كمال أوامره في يونيو/حزيران 1920 إلى نهاد باشا أنيلمش، قائد جبهة الجزيرة على الحدود السورية الخاضعة للحماية الفرنسية، طالباً إليه «تسليم المناطق التي يسكنها الأكراد إلى حكومة محلّية تدريجياً، لأن في ذلك مصلحة لسياساتنا الداخلية والخارجية» (أتاتورك 220). وعملياً، لم تكن سياسة مصطفى كمال بين عامي 1919 و1923 معادية للكرد بصورة حاسمة، إذ ترك «بروتوكول أماسيا» ورسائله إلى الأغوات والشيوخ الكرد، وأيضاً خطب رئيس الجمهورية، الباب مفتوحاً لإقامة حكم ذاتي محلي في مختلف الأقاليم الكردية (غورغاس 25). إلا أن صراع الحدود بالنسبة للكماليين كان يتبع لديناميات مختلفة عن وجود صراع كردي تركي أم عدم وجوده، فقد كانت رغبات تركيا في ضبط الطريق الواصلة إلى الموصل عبر «الجزيرة العليا» هي غاية الأمر. لذا، سيلعب الضابط التركي اسماعيل حقي غوندز دوراً هاماً طوال سنوات في إعاقة احتلال فرنسا لكامل «الجزيرة العليا»، مستخدماً في ذلك القبائل الكردية والتركية، الأمر الذي أخّر سيطرة الفرنسيين على الحسكة حتى مايو/أيار 1922، أي بعد عام على ترسيم الحدود السورية التركية (اتفاقية أنقرة). بل إن عملية تثبيت الحدود لم تمنع غوندز من فرض الضرائب على بعض القرى في الجزيرة العليا. وأبعد من ذلك، اتهمت فرنسا اسماعيل حقي بأنه تسبب في أحداث بياندور عام 1923 حين نشبت معارك بين السكان المحليين الكرد والسلطات العسكرية الفرنسية، وهو ما دفع الجنرال بيغو إلى اقتحام قاعدة بياندور «ملجأ إسماعيل حقي الذي سبق أن بادر إلى البحث عن دعم بين القبائل الكردية في محيط الجزيرة العليا.. وكان حاجو آغا يمثّل الصورة المثلى، بين المرشحين للحصول على دعم القائد التركي، للقائد الطموح المستعد مجدداً للقيام بمغامرات حربية» (غورغاس 57). بطبيعة الحال، شهدت الأعوام بين 1922-1924 تعرض القوات الفرنسية إلى 381 عملية عسكرية، في حين حاول قائد الجيش الفرنسي في سوريا الشمالية الجنرال بيوت تفادي الصدام مع العشائر الكردية في الجزيرة (باروت 157). ومن جملة إجراءات بيوت، إرضاء زعماء العشائر عبر تعينهم مدراء للنواحي والمطالبة بحقوقهم في أراضيهم الزراعية داخل تركيا والعناية الطبية في المنطقة، وسواها من قضايا تنموية.
والحال، كانت الموصل بيت القصيد في تحركات تركيا الحدودية الأولى في منطقة «منقار البطّة»، ذلك أن نجاح لويد جورج، رئيس الوزراء البريطاني الذي كان يحلم بالقضاء على الإمبراطورية العثمانية، بانتزاع الموصل من يد الرئيس الفرنسي كليمنصو بعد اكتشاف النفط في الولاية (بار 77)، عزّز مخاوف الأتراك حول مصيرها. ولأجل ذلك، كثّف الأتراك مساعيهم في المنطقة الحدودية سواء عبر سياسة الاتفاقيات الحدودية مع فرنسا أو من خلال التلاعب بالبنية القبليّة وتأليب القبائل العربية والكردية بالضد من الفرنسيين أنفسهم. فكانت اتفاقية أنقرة درّة الاتفاقات التي وجدتها فرنسا مفيدة لوقف احتمالات شنّ الأتراك جبهة ثانية عبر شرق الفرات.

الحدود الملتبسة

لطالما كانت الحدود الشمالية لسوريا ملتبسة وموضع جدل سياسي؛ فخلال  مراسلات حسين – مكماهون، أشار الشريف حسين إلى أن حدود الدولة العربية يجب أن تمتد إلى مرسين وأضنة، أي إلى خط عرض 37 شمالاً «فتغدو منطقة الإسكندرونة وأنطاكيا جزءاً من الدولة العربية المنشودة». أما هنري مكماهون، فأصرّ في كتاب خاص على أن «سكان هذه المناطق ليسوا عرباً خلصاً»، فأصر الشريف على أنها عربية. لكن الأخير رضي في نهاية المطاف بالتنازل عن مرسين وأضنة فقط (خدوري 5). وعلى هذا النحو السائل، لم تحدّد ملامح الحدود السورية التركية على رغم صيغة الإصرار أو التساهل في تلك المراسلات. وجدير بالبيان أن اقتطاع الإسكندرونة وأنطاكيا بعد أكثر من عقدين على تلك المراسلات أثبت قدرة الأتراك على تعديل خرائطهم الجنوبية مراراً.
 إلى جانب الأطماع التركية، ثمة أسباب إضافية ناجمة عن هشاشة وضعف مدارك الجغرافيا الدولتية. لذا، فإن الحدود لم تكن مهمة، ذلك أن المهم كان هو الحكم والسلطة وليس الجغرافيا. ومن الضروري الإشارة إلى أن الولايات الشمالية من سوريا لم تكن تحت سلطة معينة مستقرة. فبعض السوريين قاتل لاحقاً ضد فرنسا تحت قيادة سورية وعلم عثماني/تركي، كما هو حال إبراهيم هنانو وآخرين، ومنهم من قاتل مع مصطفى كمال في «حرب الاستقلال» 1919- 1923 (عقيل 24). إلى ذلك، كان هنانو عقد اتفاقاً مع صلاح الدين عادل قائد الجيش التركي في مرعش بتاريخ 6 سبتمبر/أيلول 1920 بأن «لا تحدّد حدود بين سوريا وتركيا إلا بعد جلاء العدو عن أراضيهما وحصولهما على الاستقلال التام» (عقيل 34). وحصل هذا الاتفاق قبل حوالي سنة على تحديد الأتراك للحدود مع الفرنسيين في أنقرة، والذي لم يلتزم فيه الأتراك باتفاقهم مع هنانو. فهل يمكن الحديث عن خديعة تركية لهنانو وبقية السوريين الذين قاتلوا مع الأتراك؟ أم أن حلم استعادة الخلافة كان المادّة اللاصقة بين السوريين والأتراك قبل إعلان الجمهورية التركية؟ قد تبدو هذه الحجة ضعيفة بعض الشيء، ذلك أن العلاقة تواصلت خلال فترة الثورة السورية الكبرى (1925-1927). ولكن، يمكن أن يفسّر استمرار العلاقة لجهة المصلحة المشتركة بطرد الفرنسيين، حتى بعد تعيين الحدود الشمالية لصالح تركيا ودون عودتها إلى «حلفائها» السوريين.
وأما بالنسبة للعقبات التي واجهت أعمال ترسيم الحدود، بحسب كريستيان فيلود، فإنها كانت مرتبطة بمطامع تركيا والعراق بمزيد من الأراضي بصورة دائمة. إن الوضع الملتبس لمنطقة «منقار البطّ»، لم يكن جزءاً من سوريا، وهو بعيد من الناحية الجغرافية، والاقتصادية بصورة خاصة، عن المراكز المدينية الكبرى في سوريا (غورغاس 67)، وهو ما يتطابق عملياً مع رؤية ميلران المشار إليها آنفاً حول طبيعة مناطق شرقي الفرات والجزيرة، والتي صعّبت على الأتراك والفرنسيين فيما بعد التوصّل لاتفاق مرضٍ ونهائي للحدود الفاصلة في «الجزيرة العليا» كما سنلاحظ، أو بمعنى آخر لم تكن فكرة فرنسا عن إدماج الجغرافية الكردية في سوريا الانتدابية تبلورت بالشكل الكافي.

اتفاقيتا أنقرة وتأخّر تثبيت الحدود

نصّت المادة الأولى من اتفاقية أنقرة على إنهاء الحرب بين فرنسا والكماليين في 20 أكتوبر/تشرين الأول 1921 بعد مفاوضات بدأت في مارس/آذار من نفس العام. وأجبرت فرنسا عن التنازل عن نحو نصف غنائمها في كردستان لصالح تركيا الجديدة، إذ إن اتفاقية أنقرة (اتفاقية فرانكلين بويون) هي التي طوت فعلياً ورقة سيفر وغيّرت مجرى اتفاقية سايكس بيكو، فألحقت أجزاء من المناطق الكردية بالكيان السوري الجديد. وفي هذه الاتفاقية، تنازلت فرنسا عن ما مجموعه 18000 كيلومتراً مربّعاً من الأراضي التي كانت مخصصة لسوريا بموجب معاهدة سيفر: كيليكا والمنطقة الشرقية التي ضمّت عنتاب، مرعش، أورفا، كلّس، ديار بكر، ماردين، والمناطق العليا من جزيرة بوتان، فيما أُبقيت الجزيرة وجرابلس وكوباني وعفرين في عهدة فرنسا.
نسخة من اتفاقية أنقرة 1921.. وتظهر فيها الصفحة الأولى
عدّت الاتفاقية انتصاراً للكماليين ومثّلت ضربة قاسية لبريطانيا التي كانت تتوخّى إضعاف الكماليين، فقد اعترضت بريطانيا على اتفاقية أنقرة من منظور استراتيجي، لأن إعطاء نصيبين وجزيرة بوتان لتركيا يمنح الكماليين منطقة مثالية للهجوم على العراق (باروت 175)، هذا عدا أن الاتفاقية أضعفت هيبة فرنسا في سوريا (خدوري9). لكن لم تساهم الاتفاقية في وضع حد نهائي لمشكلة الحدود الدولية بقدر ما كانت أقرب إلى هدنة قابلة للاختراق والتلاعب. كما كانت العصابات التركية «جتا» تُغير على الحدود السورية، رغم إبرام اتفاق أنقرة وكذلك هدنة مودانيا بعدها في 11 أكتوبر/تشرين أول 1922 وتوقيع عقد الصلح نهائياً مع الحلفاء بموجب معاهدة لوزان في 24 يوليو/تموز 1923. وازدادت هذه الحركات وغارات العصابات على الأخص في أوائل عام 1924. ولأجل وضع حد لهذا الفلتان الأمني، تشكلت لجان تعيين الحدود بموجب المادة 8 من اتفاقية أنقرة الأولى.
عملياً، تجدّدت عملية وضع الحدود بناءً على الخروقات وعدم قدرة الطرفين على ضبطها. ففي 30 مايو/أيار 1926، جرى التوقيع على اتفاقية جديدة عرفت باتفاقية «دي جوفنيل»، وهو المندوب السامي الفرنسي في سوريا. وكانت فرنسا نفّذت تعهداتها، فيما لم ينفذ الجانب التركي التعهدات المبنية على اتفاقية أنقرة الأولى. ثم بدأ النزاع مرة أخرى حول الجزيرة من خلال تحليل مضمون المادة 8، حيث جرى الترسيم على الشكل التالي: تبدأ الحدود من المدينة الساحلية باياس، ثم تمتد شرقاً وتمرّ بكلّس لتصل إلى محطة جوبان بك، ثم تستمر لتعبر نصيبين وتتبع من هناك «الطريق الرومانية القديمة» حتى جزيرة بوتان حيث تلتقي بدجلة. وبقيت نصيبين وبوتان في تركيا، لكن يحق للبلدين استخدام هذه الطريق. غير أن الخلاف بدأ حول الطريق القديم. ولأجل ذلك، تأخر ترسيم الحدود نتيجة المشكلات داخل اللجنة التركية- الفرنسية.
انصبّت مطالب الأتراك على المطالبة ببضعة مراكز جنوب خط فرانكلين بويون، كسكّة حديد باياس وبعض القرى العربية التابعة لمدينة كلّس التركية وبعض الأجزاء على الحدود الشرقية. وهنا، بدأت عرقلة أعمال اللجنة. ولئن كانت أوضاع فرنسا صعبة، حيث تشتعل ثورة سوريّة بين عامي 1925 -1927، فإن دي جوفنيل رأى أن حسم القضية دبلوماسياً هو الطريق الأمثل، فعقد مع وزير الخارجية التركي توفيق رشدي آراس في 18 فبراير/شباط اتفاقية عرفت باسمه إضافة لتوقيع خمسة بروتوكولات. ومن بين ما جرى الاتفاق عليه: مكافحة العصابات في منطقة الحدود تقع على مسافة 50 كيلو متراً من كل جانب من الحدود السورية التركية، وتبادل المجرمين بحسب البرتوكول الإضافي. ولأجل التخلّص من عبء المادة 8، أُلّفت بموجب المادة 2 في المعاهدة الجديدة لجنة جديدة باشرت أعمالها عام 1926 فأتمت تعيين الحدود عدا نصيبين وجزيرة بوتان. فكان على اللجنة إيجاد آثار الطريق الرومانية القديمة التي بقيت مهملة منذ سقوط الدولة العباسيّة، فمال رئيس اللجنة المحايد، الجنرال الدنماركي إرنست، لرأي الفرنسيين. واستمر الخلاف حتى عام 1928 نتيجة تعنّت الأتراك، وحصلت في تلك الأثناء بعض غارات العصابات الكردية على الحدود التركية (خدوري 18). لكن في عام 1929، سويّت قضية الحدود فيما خص منطقة «الجزيرة العليا» بحصول الأتراك على الخُمس في مقابل أربعة أخماس لصالح سوريا. وفي عام 1930، استعادت سوريا البقعة التي احتلها جنود تركيا جرّاء الادعاء بعائديتها لها.
شهد عام 1929 تحوّلاً آخر مع عودة المفاوضات بعد المحاولات المتكررة التي أبداها السفير التركي في باريس لدفع وزير الخارجية الفرنسية نحو خط حدودي جديد أبعد جنوباً «من أجل ضم حوالي 80 قرية تعتبرها أنقرة ملجأ للعصابات العاملة في تركيا» (غورغاس 71). وعاودت المفاوضات على أساس المقترحات التركية، وتم التوصل إلى ميثاق جديد في يونيو/حزيران 1929 يحدد بالتفصيل خط الحدود بين نصيبين وجزيرة بوتان. وعليه، جرى دفع الحدود جنوباً بين 5 كيلومترات عند تل حسن في منطقة عشيرة هفيركان و500 متر في منطقة جزيرة بوتان.
واقعياً، حصلت فرنسا على 85 قرية تتيح لها الوصول إلى دجلة، مقابل التخلي عن 80 قرية كردية لتركيا. لكن كان خلف الأكمة منافع بحثت عنها تركيا مثل المكاسب المهمة التي تحقّقها شركة سكة حديد بوزنتي، حلب – نصيبين (غورغاس 72)
والحال أن تأخر تعيين الحدود في «الجزيرة العليا» بشكل نهائي استغرق قرابة ستة سنوات، إضافة إلى فترة لاحقة، أي ما مجموعه عشر سنوات من الاتفاقات والخلافات والتجاوزات. وخلال تلك الفترة، استفاد الأتراك بخبرتهم المتقدمة على الأرض. فتنازُل فرنسا عن نصيبين مثلاً جاء نتيجة علمها المتأخر بأنها تقع على بُعد كيلومترين جنوب سكة الحديد، وينبغي بالتالي أن تكون في سوريا، لكن نص اتفاق أنقرة على التنازل عنها لتركيا.
لم تقف المسألة عند نصيبين. فبعد خسارة الموصل وثورة الشيخ سعيد بيران 1925، أصبحت رغبة الأتراك في السيطرة على «الجزيرة العليا» أكثر وضوحاً، إذ حرّكت خسارة ولاية الموصل ذي الأغلبية الكردية مشاعر القلق في تركيا حول إمكانية خسارة أراضٍ كردية أخرى، فيما «زادت انتفاضة الشيخ سعيد من مخاوف الحكومة التركية التي كانت تظنّ أن بريطانيا قدمت بعض الدعم للمنتفضين الكرد» (غورغاس 70). وإزاء ذلك، رأت المفوضية العليا الفرنسية أن الأوضاع باتت في مصلحتها، رغم تعرّضها لما يشبه الغش فيما خص نصيبين. وعليه، دعت إلى عدم الرد على الاستفزازات «رغم أن الحدود لم تكن دقيقة كثيراً من ناحية نصيبين، فإنها أتاحت للمعارضين الكرد الإفادة من هذه الحدود ليحتموا من الملاحقة والإعداد لاقتحامهم الأراضي التركية». وبناء على ذلك، قدّمت فرنسا للأتراك ما يشبه «المنطقة الآمنة» داخل الأراضي السورية: «طالبنا من جيراننا (الأتراك) احتلال المنطقة التي تعود لنا لكي نؤمن لهم الأمن والحماية من عواقب عداء الكرد لهم في هذه المنطقة» (غورغاس 71). ولعل شكل الاتفاقات والتفاهمات ذات السمة الأمنية كانت علامة إضافيّة على تراخي فرنسا في الكثير من الأوقات أمام الخروقات التركية بما في ذلك احتلال أراضٍ كردية أصبحت جزءاً من سوريا.
من الملاحظ أن سنوات اضطراب الحدود شهدت أطماعاً تركية وتجاوزاً على الحدود بذرائع شتّة، سواء بتأليب القبائل العربية والكردية على الفرنسيين لدفعهم على التراجع مطلع احتلالهم لـ«الجزيرة العليا»، أو من خلال الادعاء بالتحرّك لملاحقة «العصابات الكردية»، أو إقامة «مناطق آمنة» داخل الأراضي السورية خاصة بعد ثورة الشيخ سعيد 1925 والاتفاق مع فرنسا بحق كل جهة التحرك مسافة 50 كيلومتراً في أراضي الطرف الآخر. ويبقى أن الملاحظة الأهم هو العناد الذي أبدته تركيا لأجل تعديل الحدود وانتزاع كيلومترات، وأحياناً بضع مئات من الأمتار، داخل ما بات يعرف بالدولة السورية. ولا يغفل في سياق عملية تعيين الحدود إجادة الطرفين التركي والفرنسي اللعب بالورقة الكردية.

إنشاء المدن: انتقام فرنسا

مع خسارة المدن بوصفها المراكز التجارية للسكان لا سيما نصيبين وماردين، وسواها من مدن غدت خلف الحدود التركية، كان على فرنسا تمدين الجزيرة من خلال إنشاء مدن جديدة. فوقع مثلاً الاختيار على القامشلي لأن تكون مركزاً تجارياً وإدارياً مكافئاً لشقيقتها نصيبين. فكرّس الفرنسيون جهودهم من أجل تحويل المدينة التي يعود تاريخ إنشائها إلى عام 1923 إلى مدينة فعلية من خلال بناء الثكنات العسكرية والمكاتب الإدارية لهم في 20 أغسطس/آب 1926 (شرفاني 40). وبالمثل، كان بناء الحسكة في مكان ثكنة عثمانية عسكرية، حين بنيت المدينة عام 1900 مع تعيين الحكومة العثمانية فوزي بك قائداً لقوات البادية، فبنى أول مخفر لقواته على الخابور، فبدأ الناس بالتوافد إليها سنة 1912 (شرفاني (40). غير أن الحسكة ما كان لها أن تكون مدينة فعلياً إلّا في عام 1922 حين بدأ العسكريون بتنظيم المدن. فالمراكز المدينية في الجزيرة نمت في الأصل حول الثكنات. ويظهر النمط العسكري في هندستها، ذلك أن ضباطاً في جهاز المخابرات كانوا هم من رسموا ونفّذوا الخطوط الأساسية لمدن مثل الحسكة والقامشلي. وبطبيعة الحال، لم يكن التأسيس للمدن اعتباطياً، إذ جاء ليلبي غايات محدّدة، كالمدن التي أقيمت أو أدرجت بوصفها مراكزاً للنواحي بجانب سكة الحديد مثل الدرباسية وعامودا ورأس العين/سري كانيه، أو تلك التي كانت الغاية منها تخريب المدن التي سيطرت عليها تركيا كالقامشلي وعين ديوار، أو المدن التي أقيمت لأجل «الابتعاد الاستراتيجي» كالحسكة وديريك. وهي مدن يمكن التراجع إليها لأسباب أمنيّة (غورغاس 92-93). ومن واقع عملي، بنيت عملية التمدين بدرجة كبيرة على فكرة إيجاد سوق يلبي حاجات الريفيين والإعمار وفرض الأمن وتعويض ما قامت تركيا بانتزاعه من مدن موضوعة على الخرائط الملتبسة. ولعل طبيعة الدور الذي اضطلع به مهندسو المدن من ضبّاط فرنسيين، يعكس الأهمية العسكرية لوجود المدن بدل القرى المتناثرة التي تفتقر للمراكز الإدارية والتجارية. وبنظرة مقرّبة، يمكن اكتشاف تأثير تأسيس المدن في تخريب الأوضاع الاقتصادية للمدن التي أصبحت في الجانب التركي كنصيبين وجزيرة بوتان وتراجع أهميتها كمدن تقوم على تخديم العشرات من القرى التي غدت جنوب خط سكّة الحديد. كما ساهم بناء المدن في بروز ظاهرة «الوجهاء» عبر تجميع زعماء القبائل والمتعلّمين في حيّز مديني، وبالتالي إعادة تشكيل مراكز للعمل السياسي المناوئ لتركيا، ممن ستبرز أدوارهم السياسية بقوّة أواسط الثلاثينيات من خلال حركة الحكم الذاتي للجزيرة التي قادها وجهاء ومثقفون كرد ومتعلّمون وأساقفة مسيحيون وبعض شيوخ القبائل العربية.
وفي وقت لاحق، نجح عسكريو الانتداب في إبقاء المدن على قيد الحياة وتعويض السكان من تأثيرات رسم الحدود. ورغم حالات الفقر وتردي الأوضاع المعيشية لفترات متقطّعة، خاصة بين 1930-1933، نجحت سياسات التوطين الفرنسية في إعادة إحياء «الجزيرة العليا» التي أخفقت فيها الدولة العثمانية ومشاريع إحياء الجزيرة. سبق أن لفت الكرد عناية الدولة العثمانية لأهمية هذه المنطقة الاقتصادية حين اسمتها صحيفة «كرد» العثمانية عام 1908 بـ«أميركا العثمانية»، ثم أطلقت عليها صحف غربية لقب «كاليفورنيا الشرق». وأيّاً تكن التسميات المرتبطة بأهمية هذه المنطقة الاقتصادية، فإن مسار رسم الحدود المتعرّج والشاق ساهم بعد استقرار المدن والحدود في زيادة التطلّعات القومية السورية والتركية في تجاوز حالة الاستقرار واتخاذ الطابع الكردي لمناطق التماس الحدودية ذريعة لكلا الجانبين في اتخاذ سياسات مؤذية للسكان المحليين وخياراتهم السياسية والثقافية.

 

قائمة المراجع

  • مجموعة مقررات حكومة سوريا، مطبعة صادر، بيروت 1933
  • وجيه كوثراني، بلاد الشام في مطلع القرن العشرين ، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات- ط3 – بيروت 2013
  • علي صالح ميراني، الحركة القومية الكوردية في كوردستان-سوريا، دهوك 2004
  • جيمس بار، خطّ في الرمال، دار الساقي، بيروت 2018
  • كلاوس كرايزر، أتاتورك (سيرة حياته)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2023
  • جوردي غورغاس، الحركة الكردية التركية في المنفى، دار الفارابي- آراس، بيروت 2013
  • مجيد خدوري، قضية الإسكندرون، المكتبة الكبرى للتأليف والنشر، دمشق 1953
  • عقيل سعيد محفوض، الخرائط المتوازية- دراسة، مركز دمشق للأبحاث والدراسات 2016
  • محمد جمال باروت، التكون التاريخي الحديث للجزيرة السورية، بيروت 2013
  • برهان نجم الدين شرفاني، كوردستان سوريا خلال الانتداب الفرنسي، دار الزمان 2018

 

 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد