محمد سيد رصاص
عندما خسر دونالد ترامب الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2020 أمام جو بايدن، أجمع العديد من كُتًاب الأعمدة في صحيفة «واشنطن بوست» على مقولة أن «الديمقراطية تصحح أخطاء اتجاهات الرأي العام»، في إشارة لفوز ترامب بالانتخابات عام 2016. وعلى الأرجح أن هؤلاء أصيبوا بخيبة أمل كبرى عندما عاد ترامب وفاز بانتخابات 2024. وعلى الأغلب لم يراجعوا أنفسهم، وهم من الليبراليين الذين لديهم رؤية أيديولوجية للداخل الأميركي وللعولمة وأيضاً للعلاقات الدولية تختلف عما يحمله ترامب وأنصاره، في صورة يمكن القول من خلالها إن هناك انقسام جبهي في المجتمع الأميركي.
ولكن من خلال أربعة أشهر قضاها ترامب من جديد في البيت الأبيض يمكن القول إن هناك ترامب ثان يتمايز إلى حد ما عن فترته الرئاسية الأولى. فهو الآن، بعد فوزه الكبير بانتخابات الرئاسة ومعه فوز الجمهوريين بأغلبية مجلسي الكونغرس، أكثر أيديولوجية في مجابهة الحزب الديمقراطي الذي يضع ترامب ليبرالييه ويسارييه في سلة واحدة. وهو أكثر جذرية في رفض العولمة الاقتصادية وأكثر تمسكاً بالقومية الاقتصادية التي تنتج عنها إجراءات التعرفة الجمركية وتقييد الهجرة للداخل الأميركي ورفض الاتفاقيات التجارية الدولية والإقليمية التي اندفع نحوها الديمقراطيان باراك أوباما وبايدن. كما أنه أكثر إصراراً على «اللاتدخلية» العسكرية الأميركية في الخارج. وأظهر في الأربعة أشهر الماضية الكثير من عدائية قديمة سواء من خلال التعرفات الجمركية التي فرضها تجاه سلع الاتحاد الأوروبي أو من خلال إصراره على رفع مساهمات الأوروبيين في ميزانية حلف الناتو العسكرية، عدا عما أبداه من تمايز عن الأوروبيين في الموضوع الأوكراني. وفي هذا الملف الأخير، كان هناك وحدة صلبة بعهد بايدن بين واشنطن والشركاء الأوروبيين ضد الروس. ومن يدرس التاريخ الأميركي، يرى الترامبية بمثابة عودة ما إلى مبدأ مونرو عام 1823 الذي أبرز موقفاً انعزالياً عن مشاكل العالم القديم (القارة الأوروبية) وبقية العالم. وانخرطت الولايات المتحدة في الحربين العالميتين وسط مقاومة شديدة من تيار انعزالي داخلي قوي ورغماً عنه. وحتى عندما اتجه البيت الأبيض برؤسائه المتعاقبين إلى تدخل عسكري وسياسي واقتصادي في العالم بعد الانتصار في الحرب الباردة، لم يكن هناك تلك المقاومة الداخلية الشديدة لحروب بوش الأب والابن وبيل كلينتون. وإذا كان فوز أوباما بالرئاسة عام 2008 عبّر عن خيبات حربي العراق وأفغانستان وعن الأزمة المالية- الاقتصادية، فإن ترامب، بفوزه عام 2016، عبّر عن بناء أيديولوجي جديد يميني انعزالي يذكّر بمبدأ مونرو وبمعارضي اشتراك واشنطن في الحربين العالميتين، مثل السيناتور الجمهوري روبرت تافت الذي عارض الانخراط في الحرب العالمية الثانية وعارض الانضمام إلى الأمم المتحدة وحلف الناتو والحرب الكورية. وكانت خسارته للترشح الرئاسي عن الحزب الجمهوري لانتخابات 1952 أمام دوايت أيزنهاور تعبيراً عن انهزام النزعة اللاتدخلية لدى معسكر اليمين الأميركي. ويبدو أن فوز ترامب مؤشر على عودتها.
هنا، نجد أن لاتدخلية ترامب العسكرية تتجسد كثيراً في الموضوع الأوكراني عبر إيحاءات كثيرة أعطاها مؤخراً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، منها الضغط على الرئيس فولوديمير زيلنسكي لتنازلات عن أراض أوكرانية، وهو ما أفزع الأوروبيين وأغبط الروس الذين أبدوا تصلباً في مفاوضات إسطنبول الأخيرة. كما تجسدت هذه اللاتدخلية في نزعة ترامب اللاحربية عبر الضغط على الهند وباكستان في المجابهة العسكرية الأخيرة من أجل تفادي توسعها نحو حرب بين الجارتين النوويتين. ولكن تترافق مع هذه النزعة اللاحربية نزعة لشن حرب تجارية ضد الصين. وكان اجتماع الحزبين الديمقراطي والجمهوري على مجابهة الصعود الصيني ناتجاً عن سبب اقتصادي. ويبدو هنا أن وصول الصين للمرتبة الاقتصادية العالمية الثانية عام 2010، متخطية اليابان، هو الذي دفع أوباما لوضع استراتيجية الانزياح للتركيز على الشرق الأقصى والانسحاب من الشرق الأوسط التي أعلن عنها أمام البرلمان الأسترالي في نوفمبر/تشرين الثاني 2011. ولكن ترامب يختلف عن أوباما وبايدن بأنه يرى أن الجنرال الأميركي الوحيد لمجابهة الصين هو الدولار. الأرجح أن النزعة الاستيعابية الإرضائية الترامبية تجاه بوتين هدفها إبعاد الروس عن الصينيين. ويبدو أن سبب عودة واشنطن للتركيز من جديد على الشرق الأوسط هو الصين أيضاً. ففي مداخلة أمام الكونغرس في مارس/آذار 2023، قال الجنرال ميكل كوريلا قائد القيادة المركزية الأميركية، وميدانها المنطقة الممتدة من كازاخستان للصومال ومن باكستان إلى مصر، إن «72% من نفط الصين مستورد، وهذا يجعلهم غير محصنين، و98% منه عبر سفن ونصفه يأتي من الشرق الأوسط». وأضاف حينها: «منطقة القيادة المركزية- سينتكوم ذات أهمية مركزية للتنافس مع الصين وروسيا. كنا هنا في الماضي، ونحن هناك اليوم، وسنبقى هناك في المستقبل». ولكن مع ترامب، يبدو أن هناك تراجع عن سياسة بايدن بوضع الصين وروسيا في سلة واحدة، من خلال سياسة التفريق بينهما وإرضاء موسكو، كما أرضى هنري كيسنجر الصين في السبعينيات في تسعير للخلاف الصيني– السوفياتي، الأمر الذي اعتبر أساسياً في نصر واشنطن في الحرب الباردة.
يمكن تلمس أن هناك، مع ترامب الثاني، اتجاهاً نحو بناء شرق أوسط جديد هدفه إنشاء جدار غربي- شرق أوسطي أمام التمدد الصيني باتجاه افريقيا وأوروبا، كما الجدار الروسي الذي يمكن أن يشيده ترامب بوجه الصين في طريقها الأوراسي، إن أرضى بوتين. كما سيكون هذا الشرق الأوسط خزاناً للطاقة للقارة الأوروبية من نفط وغاز وطاقة خضراء (الشمس والرياح) ضمن سياسة عدم الاقتصار على الطاقة الروسية، التي هي أحد الدروس الغربية المستخلصة من الحرب الروسية على أوكرانيا. ومن المهم التذكير أن وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس تحدث في الخمسينات عن إنشاء «الجدار الشمالي»، وأحياناً يطلق عليه «الجدار الجنوبي»، ضد الاتحاد السوفياتي، بحيث ترافق مع بدء الاتصال الأميركي منذ عام 1953 بإسلاميي جماعة الإخوان المسلمون والتفكير باستخدام الإسلام ضد الشيوعية. وشمل هذا الجدار تركيا وإيران وباكستان مع الوضع الحيادي القائم لأفغانستان، وهو ما تزامن مع التفكير بإطلاق حلف بغداد. وكان التخطيط أن يضم الحلف الدول العربية وعلى أن تكون تركيا الجسر بين حلف بغداد وحلف الناتو. ومع بدء الحديث عن «صفقة القرن» في عهد ترامب الأول، تداولت أوساط خليجية حديثاً عن تحالف سني- يهودي ضد إيران التي بدأ ترامب آنذاك يتجه نحو سياسة المجابهة معها وصولاً إلى انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني عام 2018 واتجاهه لفرض الضغط الاقتصادي الأقصى عليها، فيما كانت «الاتفاقيات الابراهيمية» ضمن مسار «صفقة القرن».
ومع اتجاه الدولة العميقة في الولايات المتحدة، كما يفهم من حديث الجنرال كوريلا، لاستخدام الشرق الأوسط ميداناً للضغط على الصين (وأيضاً روسيا)، باستطاعة المرء تفسير سياسة ترامب الراهنة في إرضاء السعودية، من مفاعل نووي سعودي تبنيه واشنطن من دون ربطه بالتطبيع مع إسرائيل، إلى رفع العقوبات الأميركية عن سوريا بناء على طلب الأمير محمد بن سلمان كما أشار ترامب عند إعلان قراره، ومروراً برعاية أميركية للسلطة السورية الجديدة، وصولاً إلى علاقة أميركية منفتحة على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تختلف عن عهد بايدن. يغضب هذا الاتجاه الترامبي الجديد نحو السعوديين إسرائيل التي لم يزرها حينما توجه إلى الرياض، على خلاف ما حصل في 2017. كما أن توجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو للضغط على السلطة السورية الجديدة يخالف توجهات واشنطن والرياض وأنقرة. وفي الصحف الإسرائيلية، يتم الحديث عن أن «الشرق الأوسط الجديد يبنى بمعزل عن إسرائيل»، مع إلقاء اللوم بذلك على نتانياهو واليمين المتطرف المتحالف معه. وفعلاً، فإن ترامب أزعج وصدم نتانياهو ليس فقط بما هو مذكور أعلاه، بل بقراره التفاوض مع إيران واتفاقه المنفرد مع الحوثيين وفتح قناة أميركية مباشرة مع حركة حماس.
ولكن، يجب ملاحظة أن سياسة ترامب التفاوضية مع المرشد الإيراني علي خامنئي ليست كما مفاوضات أوباما معه قبيل عقد اتفاق 2015 النووي عندما غضت واشنطن البصر عن تمدد طهران في المنطقة مقابل التوافق على سقف البرنامج النووي الإيراني. والأرجح، أن ترامب يستغل ضعف إيران في الإقليم بعد هزيمة ذراعيها في لبنان وغزة وسقوط حليفها في دمشق من أجل التفاوض معها نووياً. وهو يراهن على أن برنامجاً نووياً إيرانياً منزوع الاسنان سيقود، بعد رفع العقوبات الاقتصادية عنها وزيادة قوة الإصلاحيين والليبراليين، لاستيعاب إيران من قبل الغرب مجدداً كما كان الأمر زمن الشاه، خاصة إن توفي خامنئي المسن الذي يمكن أن تقود وفاته لأن يحدث في إيران ما حصل في الاتحاد السوفياتي عام 1982 حينما توفى ليونيد بريجنيف فتغير ميزان القوى في السلطة السوفياتية بالضد من المحافظين المتشددين، ما سمح بظهور ميخائيل غورباتشوف ثم بوريس يلتسين في ظل أزمة اقتصادية- اجتماعية وتوازن دولي لم يعد لصالح موسكو.
والأرجح أن مشهد الشرق الأوسط الجديد سيكون مع إيران ضعيفة وعلى حسابها، ومع مجيء دور السنة لأداء الرقصة الأميركية بعد أن انتهى دور الشيعة في الرقصة الأميركية الذي بدأ في بغداد 2003 ثم بيروت 2008 وصنعاء 2014 قبل أن يوافق أوباما في 2015 على بقاء بشار الأسد. وجزء رئيسي من هذا المشهد أن تكون دمشق في الفلك الأميركي، وأيضاً أن تكون تركيا متوائمة مع واشنطن، ولكن بعد المصالحة بين أردوغان وعبدالله أوجلان. ويجب أن لا ينسى أن مشروع الشرق الأوسط الجديد أطلقه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شيمون بيريز في التسعينات ويتضمن حل الدولتين، وهذا لا يمكن أن يتم مع وجود نتانياهو في السلطة تماماً مثلما يتطلب اختفاء حسن نصر الله ويحيى السنوار وضعف خامنئي.
ويبقى السؤال الآن: هل يمكن التفكير بأن الرضا الأميركي عن وصول إسلاميين للسلطة في دمشق عام 2024، مثلما جرى في كابول 2021، وانفتاح واشنطن المتجدد على الرياض وإسطنبول، هو استمرار لتوجه واشنطن في الخمسينات إنشاء تحالف بين الغرب والعالم الإسلامي ضد الشيوعية برأسيها آنذاك في موسكو وبكين، بما فيه الآن من عالم تركي من الجمهوريات الإسلامية السوفياتية السابقة يضاف إليها إيغور الصين، بحيث ستحاول واشنطن استخدامه ضد الصين وأحياناً ضد الروس؟