“خبز تركيا للأتراك”.. كيف انقلب التشاؤم الوطني إلى كراهية سياسية؟

حسين جمو

قدمت الرواية الوطنية السائدة لحرب الاستقلال صورة مخلصة للمقاومة الشعبية ضد الاحتلال الأوروبي وذلك قبل تشكل الجيش الوطني بقيادة مصطفى كمال. لكن رضا نور، وزير الصحة والتربية والتعليم في أولى حكومات أنقرة عام 1921 ثم الجمهورية، وعلى الرغم من إشادته بـ “المبادرة الذاتية للشعب” في المقاومة، وذلك قبل أن يركب مصطفى كمال موجة المقاومة، فإنه في الصفحات التالية يكشف عن الجانب المظلم للمقاومة، وهو تعرض السكان إلى نهب عام على أيدي الميليشيات المسلحة، مع العلم أن رضا نور لم يتقصد تجريم هذه المقاومة، فهو كان من مؤيديها، وبقي كذلك يدافع عنها، لكنه كشف بعض الأشياء السلبية من باب النقد الذاتي بعد أن بات لا يضر، فاليونانيون كانوا قد هزموا منذ وقت طويل حين بدأ رضا نور كتابة مذكراته عام 1927، لذلك فإن بعض النقذ الذاتي والمراجعات لا تضر في شيء النتائج المتحققة على الإجرام أو الانتهاكات، لأنه لن يؤدي إلى تصحيح أي خطأ تم سابقاً. كتب رضا نور:
كانت هذه العصابات تتكون من تلقاء نفسها، وما زالت تتكون. إن قواتنا الوطنية كانت عبارة عن هؤلاء مع قليل من العسكر. وكما كانت هذه العصابات تقوم بالقتل وارتكاب الجنايات، فإنها كانت أيضاً تقوم بعمليات نهب وسرقة يندى لها الجبين. كانت هذه العصابات تقول للمدن والبلدات: عليكم بدفع 50 ألفاً أو مقداراً آخر خلال يومين، وتستولي على كميات ضخمة من النقود. وفرضوا الإتاوات. والواقع أنه كان لا بد لهذه العصابات المسلحة من الأكل والشرب والملابس، وليس لدى الحكومة نقود. لكن أكثر هذه النقود التي تفرضها العصابات على الشعب نقود يتم اختلاسها، وتدخل في جيوب كبار رجال العصابات. مثال على هذا، جمع إبراهيم جولاق ثروة ضخمة من السلب والنهب، وأقام مصنعاً للأخشاب بمليون ليرة، وكل هذا من السرقة(ص 211).
يضاف إلى ما سبق أن عدداً كبيراً من القادة الميدانيين جمعوا ثروات طائلة وظهر عليهم الثراء بعد إعلان الجمهورية في 1923، كانوا قد استولوا على أملاك الروم (اليونانيين) الذين هاجر قسم كبير منهم حتى قبل عملية التبادل السكاني وفق ما أقرته معاهدة لوزان في تموز/ يوليو 1923.
في كل الأحوال، يعود الفضل في قبول الشعب التركي كل تحديثات مصطفى كمال الجمهورية، بإذعان وبلا مقاومة، إلى المظالم التي لا يستوعبها عقل والتي شهدها الشعب التركي خلال 3 سنوات من حرب الاستقلال، سواء من القوات اليونانية ضد المدنيين الأتراك خلال تقدمها باتجاه عمق الأناضول، أو تجاوزات تشكيلات المقاومة في مصادرة كل شيء في أيدي المدنيين الأتراك لصالح المجهود العسكري وما رافق ذلك من عمليات نهب. إن هذا الرعب أسس “البنية السياسية للتشاؤم” في تاريخ تركيا الحديث، وبدون فهم مرحلة التشاؤم العظمى الفعلية في تاريخ تركيا ( من حرب البلقان 1911 إلى نهاية حرب الاستقلال عام 1922)، لا يمكن إيجاد إطار قابل للتفسير للنزعة العدوانية للمجتمع السياسي القومي في البلاد؛ فبالنسبة للمواطن التركي لا ذاكرة تتحكم في وجدانه أكثر من الروايات التي ورثها عن أجداده القريبين، أيام الغزو اليوناني للأناضول والإيطالي لمناطق في ساحل إيجة الجنوبي. في تلك الحرب، كان الفلاح التركي، في لحظة من لحظات التشاؤم القاتم، أمام خيارين: إما الهروب من الأناضول أو الموت؛ ذلك أن الاحتلال اليوناني وحده من بين مجموع الاحتلالات الأوروبية للأراضي الغربية للدولة العثمانية، بما في ذلك القسطنطينية، كان ذو خطة للهندسة السكانية الكلية وإعادة الأناضول إلى “الحضارة الأم” الهيلينية.
في تلك الحرب الطويلة، حرب الاستقلال، لا يوجد تركي لا يحفظ بصورة درامية مؤلمة كيف أطلق الجيش، المكوّن أساساً من بقايا الفيلق الخامس عشر المتمركز في أرضروم، والفيلق الثالث في سيواس، نداء التبرع قبل معركة إينونو الثانية، وكان التبرع كلياً بالمعنى الحرفي، والقلة التي لم تتبرع بشيء أخذ الجيش منهم كل شيء. في هذا “الأبوكاليبس” تم خوض حرب الاستقلال التي خاضها الكرد والترك، باعتراف مصطفى كمال نفسه في خطبه الطويلة العديدة عقب إعلان الجمهورية عام 1923.
صدر قرار احتلال إزمير بقرار من مؤتمر السلام الدولي المنعقد في باريس بعد الحرب العالمية الأولى، وبدأت القوات اليونانية باحتلال المدينة في 15 مارس/آذار 1919 وتم إنهاء الاحتلال مع دخول قوات الحركة الوطنية إلى المدينة في 9 سبتمبر 1922.
وكان من المستبعد تجرؤ مصطفى كمال على قيادة حملة باتجاه إزمير لو أن اليونان التزمت بقواعد اللعبة التي رسمتها بريطانيا. يقول رضا نور:
يقوم الجنرال ميلن قائد الجيش الإنجليزي بتخطيط حدود للأراضي التي احتلها اليونانيون في إزمير، وبذلك يكون قد حاول منع اعتداء قواتنا الوطنية على هذه الحدود، وقد عرفت الحدود باسم خط ميلن. وبينما الأمر على ذلك، إذا باليونانيين بالرغم من وجود هذا الخط يقومون بهجوم ضد الأتراك أصحاب البلاد. ص 194
أفرد رضا نور صفحات كثيرة عن وقائع حرب الاستقلال، وإخفاقات مصطفى كمال وعصمت إينونو. سرد تفاصيل زعم فيها أن انتصار عصمت إينونو في معركة “إينونو” كان صدفة، فقد تبين أن اليونانيين ينسحبون بعد أن قرر عصمت الانسحاب وكان على وشك الاستسلام، فأدرك أحد جنوده هذا “الفتح العسكري”، فألغى أمر الانسحاب وسجل نصراً بالصدفة. وانتقد رضا نور بشدة أداء إينونو في معركة أسكيشهير والهزيمة المذلة أمام اليونانيين، حيث تفكك جيش الحركة الوطنية، فمن أصل 120 ألف جندي عاد ما لا يزيد عن 25 ألفاً، وهرب الباقون. ولولا خطاب رضا نور في مجلس الأمة عن منح مصطفى كمال وإينونو وفوزي جقمق فرصة أخيرة لإعادة تنظيم المقاومة، لتمت محاكمة إينونو وفوزي معاً.
في صقاريا، المعركة التي يتباهى مصطفى كمال بها، واستمرت عشرين يوماً حتى 13 سبتمبر/ أيلول 1921، تلقى الجيش التركي الهزيمة. وأمر مصطفى كمال بالانسحاب وقرر الهرب من أنقرة مع القيادات والنواب، إلا أن الفوضى على الجانب اليوناني خدمته للمرة الثانية، حيث انقطعت الإمدادات عن القوات اليونانية، وعانى الجنود من إسهال شديد بسبب أكلهم المتكرر لحم الماعز فضلاً عن اشتداد الملاريا. فقرر اليونانيون التراجع عن مشارف أنقرة وبالتالي نجاة أنقرة من احتلال كان محققاً. وترددت أقاويل شعبية في ذلك الحين عن هزيمة الماعز التركي لليونانيين!
ولأن موقف رضا نور في الجمعية الوطنية قد أنقذ مصطفى كمال ورفاقه من التحقيق والمساءلة جراء انتكاسة معركة صقاريا، كافأ مصطفى كمال النائب رضاء نور بتعيينه وزيراً للصحة، وأول عمل قام به نور كما يصرح بنفسه “تطهير الوزارة من غير الأتراك”، وأصدر أمراً بعزل كل الأطباء من الألبان والعرب واليهود، كما فعل حين كان وزيراً للمعارف. وهو يصرح بنزعة عنصرية ويفتخر بها، فقد طرد معلماً من أصل ألباني تشاجر مع آخر تركي فقط لمجرد أنه ألباني، بدون السؤال عن سبب الشجار (ص 240).
كما تفاخر بطرده طبيباً زميلاً له أتى من سوريا، وهو عربي من جنوب تركيا في الأصل، لأنه لم يستبعد أن هذا الطبيب كان مؤيداً في حياته يوماً ما لحركة استقلال العرب! ويعلق بالقول مستهجناً: “يخدم في سوريا ثم يأتينا يريد وظيفة!”.
وطرد نور طبيباً آخر جاء من الشام ليعمل في أضنة، فأصدر أمره إلى والي أضنة: إن خبز تركيا للأتراك، وعلى العرب أن يأكلوا خبز بلادهم في بلادهم، وليس في بلادنا لقمة لمن هم على شاكلة الطبيب حلمي الدمشقي، فألقِ به خارج الحدود (ص 341).
إن هذه العنصرية القومية باتت جزءاً من الحياة السياسية التركية وواحدة من دعامات الفكر القومي الحديث، وأصبحت اليوم جزءاً من خطاب عام يتردد صداه في الإعلام والجامعات وحديث الشارع، وينعكس بحدّة على اللاجئين السوريين في تركيا بعد أن كان الكرد مادة العنصرية لمدة مئة عام لوحدهم وجهاً لوجه أمام الجمهورية برمّتها. على أن معرفة جذور هذه النزعة المتمثلة في شعار “خبز تركيا للأتراك” قبل مئة عام، و “تركيا للأتراك” اليوم، تفيد في تحديد ديناميات السياسات التركية والانطلاق من أرضية معرفية تفسر لماذا بعض الشعوب أكثر كراهية للأجانب من شعوب أخرى. وفي الحالة التركية، ما زال يؤمن كل كاره للأجانب اللاجئين أن الأتراك دفعوا أثماناً باهظة لا يتخيلها عقل قبل مئة عام حتى أنقذوا ما باتت تعرف بـ “تركيا” من الاختفاء التام ولن يسمحوا – حسب اعتقادهم- بأن يأتي من يزاحمهم على معيشتهم في بلادهم.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد