الفاشية التركية في طورها الجديد
"الذئاب الرمادية" في قلب أوروبا
شورش درويش
لم تكن مجرّد شارة تلك التي رفعها لاعب المنتخب التركي مريح ديميرال احتفالاً بتسجيله هدفاً في مرمى منتخب النمسا، إنها “لحظة” تستحضر تاريخاً دامياً من القسوة والمذابح والاغتيالات.
السير سريعاً نحو الفاشيّة
في نهاية القرن التاسع عشر، استخدمت الثورات الإيطالية مصطلح “فاشيو” والتي تعني هنا “الحُزمة أو الرُّزمة”؛ فقبل قرابة أربعة عقود من إعلان بينيتو موسوليني حركته الفاشيّة رسمياً في 23 آذار/مارس 1919 كان فلاحو صقيليا قد اتخذوا لنفسهم اسم “فاشيو صقيليا” كناية عن الترابط والتعاضد في ما بينهم، غير أن موسوليني جعل حركته أكثر انتظاماً وحوّلها إلى مذهب سياسيّ مبتدع وقابل لأن ينتقل من بلدٍ لآخر، على أن تحافظ كلّ فاشيّة ناشئة منها على “وصفتها الخاصّة”. بذلك سيكون للفاشية التركية وصفتها الخاصة والمقدرة الكافية للحفاظ على نفسها في مواجهة التقدّم والديمقراطية.
مطلع عهد تركيا الكمالية، وبعد إخفاق تجربتها في إشادة نظام التعددية الحزبيّة، جاءت محاولة استلهام التجربة الفاشية بعد أن تجادل الأتراك حول أيّ النموذجين هو الأمثل لـتركيا، فأوفد الأتراك فالح رفقي (أتاي) إلى موسكو وروما للاطلاع على التجربتين: الشمولية للحزب الشيوعي وتجربة الفاشية الإيطالية، ولأجل ذلك صدرت مجلة كادرو (الكادر) عام 1932 وكانت مهمتها الأساسية مخصصة لهذا “المشروع العقائديّ” وفق ما أشار إليه حميد بوز أرسلان في كتابه تاريخ تركيا المعاصر، أي مشروع “تأسيس الحزب الثوري باستلهام الحزبين الشيوعي والفاشي” …وإعداد “المناهج الثورية، والانتقال مباشرةً إلى تربية الجمهور الكبير”. على أي حال لم تعترف الكمالية لاحقاً بأنها استلهمت الكثير من هذه العدّة الفاشية أثناء صناعة نظامها الخاص، بقدر ما طفت على السطح سيرة كراهية أتاتورك الشخصية لموسوليني وافتتان الأخير بأتاتورك مطلع حياته السياسية.
عرّفت تركيا الكمالية نفسها كنظامٍ ثوريّ بأنها “طريق ثالث” يتميّز عن الشيوعية والفاشيّة، وأنّ لها نموذجها الخاص، دون أن تقرّ بما استلهمته من جوهر عمل هذين النظامين الجديدين خاصة سبل التعبئة الجماهيرية وصناعة الرواية الرسمية والتاريخية، ولعلّ سقوط الفاشيّة المدوّي وهزيمتها في الحرب العالمية الثانية أفضى إلى ابتعاد الأتراك عن القول بالتأثر بالنظام الفاشيّ، غير أن ظهور حزب الحركة القومية في سبعينيات القرن الماضي سيدلّل على تلك الروح والنظرة لطبيعة وجوهر الدولة التركية.
السبعينيات فصاعداً: العصر الذهبي للجريمة
في السبعينيات تمظهرت الفاشية التركية في إهاب تنظيمي جديد بعد أن كانت نبضاً عاماً يتحكّم بمنطق وخيال القوميين الأتراك ومؤسسات العنف الرسمية (الجيش والشرطة والمخابرات)، لذا سيصبح حزب الحركة القومية الذي أسسه ألب أرسلان توركيش الشكل المثالي لحركة فاشية ناهضة تمزج بين العنصرية العرقية والإسلاموية وكراهية الغرب في بلد مسكون بالمخاوف من الشيوعيين واليساريين، ومن النشطاء القوميّين الكرد فيما بعد. عاد توركيش للمسرح السياسي عام 1987 ثم أوكلت مهمّته الرسولية في الحفاظ على الأمّة والدولة من “الانحلال” لخلفه الأستاذ الجامعيّ دولت باهجلي، الرجل الذي أعلت مكانته التنظيمية محاولة اغتياله في السبعينيات، بالضبط كما في حالة تباهي موسوليني بـ”جراحه الأربعين” وما خلّفته الشظايا في جسده، إذ تدفع مثل هذه الحوادث الدامية القيادات الفاشيّة إلى المطابقة بين تضحيتها وآلامها وآلام أمّتها.
في أواخر السبعينيات وحتى وقتنا الراهن شنّ تنظيم “الذئاب الرمادية” (أولكو أوجاكلاري) الذراع المسلّح للحركة، هجمات متفرقة باستخدام القنابل والرصاص استهدفت من خلالها طائفة متنوعة من ذوي الآراء المخالفة للدولة: صحافيين، وطلّاب جامعيين، ومحامين، ونشطاء يساريين وكرد وأرمن. أفضت تلك العمليات الإجرامية إلى مقتل المئات على يد التنظيم، وقد جرى كل ذلك بدعم من جهاز “الحرب الخاصة” في الجيش التركي. وبطبيعة الحال، نجح هذا التنظيم في جمعه إلى جانب المتعصّبين القوميين زعماءَ الجريمة المنظّمة (المافيا) ورجال المخابرات.
لطالما غلّف الكتمان عمل وتمويلات المنظمة المشبوهة وصلاتها بعصابات الجريمة المنظّمة، إذ إن غاية المنظّمة المثالية مهما ارتكبت من جرائم يبررها منطقها الخاص الداعي لـ”تطهير” الدولة من مظاهر الانحلال الأخلاقي والتخلّص من متسببي قلق “الانفصال”، وإسكات الأصوات الداعية للاعتراف بإبادات الدولة التركية التاريخية (إبادة الأرمن وعلويي ديرسم).
في ديسمبر/كانون الأوّل 1978، وعلى مدار أسبوع، نفّذت الذئاب الرمادية مذبحة بحق مجموعة من علويي مرعش راح ضحيتها أكثر من مئة شخص وإصابة ما لا يقل عن ألف آخرين، فيما طاول “بوغروم” الذئاب ممتلكات العلويين فدُمّرت مئات المنازل والممتلكات، وفي العام ذاته قام التنظيم بقيادة أبرز متزعميه، عبدالله جاتلي، بقتل سبعة طلاب جامعيين يساريين. لم يتوقف تاريخ الإرهاب عند هذا الحد من القسوة، إذ إن الصحفيين سيكونون الهدف المثالي للذئاب، لتشهد تركيا موجة اغتيالات طاولت عشرات الصحفيين، كما في عملية اغتيال الصحفي الشهير عبدي إيبكجي عام 1979 الذي عمل في صحيفة ميليّت، وتعقّب الصحفيين الذين كتبوا أو ينوون الكتابة عن فظائع المنظمة وفضائحها.
وكأي تنظيم فاشيّ يبحث عن ضحايا مثاليين، أي عن عناصر يراها “مشاغبة” يتوجب تأديبها ويعدّها أجنبية أو تتبع للأجنبيّ الذي يتربّص بالوطن ووحدته الترابية، فإن التنظيم وجد ضالته في تعقّب النشطاء الأرمن والكرد، واضطلع بمهمة محاولة إسكاتهم مرة وإلى الأبد، فتعدّدت محاولات الاغتيال وملاحقة النشطاء الأرمن والكرد، حتى وإن كانوا خارج تركيا كما في إقدامهم على قتل مواطنين أرمن في إقليم قره باخ إبان الحرب بين أرمينيا وأذربيجان مطلع التسعينيات، ودعوتهم لقتل الأرمن في فرنسا ودعوات البحث عنهم في الشوارع لقتلهم، وهو ذات الأمر الذي تكرر مع الكرد في فرنسا والنمسا، وقبل أشهر قليلة من الآن في بلجيكا، هذا فضلاً عن جرائم قتل عائلات كردية بأسرها في تركيا، وقتل طلبة جامعيين كرد وسياسيين تابعين لحزب الشعوب الديمقراطي، ومهاجمة مراكز التجمّعات الكردية.
الواضح في كل جرائم التنظيم الفاشي أنها حدثت تحت أنظار الدولة التركية، أو أنها قامت بحماية وتأمين سلامة مطلوبي التنظيم للعدالة داخل وخارج تركيا، فحادثة سوسورلك في نوفمبر/تشرين الثاني 1996 كشفت حجم تواطؤ الدولة مع التنظيم حيث قُتل في الحادثة عبدالله جاتلي آنف الذكر، والذي كان أحد الضالعين في محاولة اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني عام 1982. كان جاتلي المطلوب أمنياً والفار مرتين من العدالة الأوروبية يستقل السيارة رفقة الضابط في شرطة اسطنبول حسين كوجاداغ، فيما نجا في الحادث سادات بوجاغ زعيم عشيرة بوجاغ الكردية وأحد المتعاونين مع الدولة التركية عبر ما يسمّى تنظيم “حراس القرى” والنائب عن حزب “الطريق القويم” بزعامة تانسو تشيلر.
أصابع وشوارب وأساطير
تحيلنا تجربة الذراع العسكرية المنظّمة للحركة القومية إلى تجارب فاشية مبكّرة كتجربة القمصان السوداء الفاشية الإيطالية، والقمصان البنية النازيّة، وحركة “القمصان السوداء” لأوزوالد موزلي في بريطانيا، وسواها من حركات نازية وفاشية كان لكلّ منها أزياءه المبتكرة وتحيّته الخاصة. وعلى عكس الحركات اليساريّة، قامت الفاشية الإيطالية بالتركيز على عالم الأساطير إذ حضرت حزمة الأسهم والفأس والنسور الرومانية بكثافة في النياشين والنوط العسكرية وإيماءات رجال القمصان السود،إضافةً إلى مسرحَة المشهد التنظيمي للفاشيين واستحضار أساطير الأسلاف، في المقابل استحضرت النازية قصص جنّيات الغابة الجرمانية “فالكيري” والرموز الجرمانية القديمة التي تم إقحامها في الياقات العريضة للبزة العسكرية الألمانية الأنيقة من تصميم هوغو بوس، وبالمثل استلهمت الحركة القومية التركية أسطورة “أرغينكون” وأعلت من شأن رأس الذئب الأغبر وجعلته رمزاً للجماعة. هذا المزج بين الأسطوري والراهن يجسّد أحد أدوات الفاشيّة على الدوام، لذا سيصبح رسم علامة الذئب بحركة الأصابع أحد الماركات المسجّلة للفاشية التركية.
وإلى جوار حركات الأصابع يمكن للشوارب أن تكون تعبيراً أكثر وضوحاً للشخصية التي قد تصادفها في شوارع تركيا أو في تلفزتها أو حتى في برلمانها، فالشوارب الكثّة كانت علامة تميّز الكرد واليساريين، أما الشارب المشذّب فغدا سمة الأردوغانيين، وبدورها كانت الشوارب المتهدّلة على شكل هلال رمزاً لعصابات اليمين المتطرّف لاسيما حزب الحركة القومية. ورغم تبدّل صورة اليمين التركي ومحاولة “عصرنة الحركة” عبر الاهتمام بموسيقى الروك وارتداء الثياب ذات الطراز الغربيّ لمسح الصورة النمطية للقتلة ذوي الشوارب المتهدّلة والستر الجلديّة، إلّا أن جوهر التنظيم لم يتبدّل بقدر ما حاول أن يبدّل من جلده.
تتعدد في تركيا دلالات حركات الأصابع ولها سيرة مكثّفة تُختزل في أشكال مختلفة للتعبير عن الذات عند كل جماعة سياسية، فالكرد واليساريون يرسمون بأصابعهم علامة النصر “ظفر”، أما حزب العدالة والتنمية فقد تبنّى منذ عام 2013 فصاعداً إعلاء شارة “رابعة” ببسط الأصابع وفردها بعد طي الإبهام في تبنٍ رمزيّ للحركة التي أفشتها جماعة الإخوان المسلمين المصريّة. فيما يرسم أعضاء اليمين القومي المتطرّف بأصابعهم علامة “الذئب”، وهي تلك العلامة التي رسمها لاعب المنتخب التركي مريح ديميرال، إبان احتفاله بأحد هدفيه في مرمى المنتخب النمساويّ، حيث استرعى سلوك اللاعب التركي فرض عقوبة عليه بإبعاده بقرار من الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (يويفا) عن الملاعب لمباراتين، ما قاد تركيا – السعيدة بالمشاكل الدبلوماسية من هذه القماشة- إلى اختلاق أزمة دبلوماسية مع ألمانيا واليويفا، ذلك أن المنظّمة المحظورة في فرنسا منذ عام 2020، والإشارة المحظورة في النمسا منذ عام 2019، هي موضع جدل داخل السياسة الألمانية منذ عام 2018. وأيّاً يكن من أمر فإن تحوّط الأوروبيين لحضور الفاشيّة في ملاعبهم يعني أن التساهل في تمرير مثل هذه الرسائل السياسية أمام عشرات الآلاف من المتفرّجين في قد يُخرج رموزاً فاشيّة لدول أوروبية أخرى إلى العلن. إلّا أن الجماهير التركية بدل أن تتفهّم معاني الحظر القانوني لأي دعاية لتنظيم الذئاب الرمادية بادرت في لقائها التالي مع منتخب هولندا إلى رسم شارة الذئب في تحدٍ آخر لفكرة حظر هذا التنظيم أو تعطيل دعايته وأشكال التعبير عنها.
الطور الجديد للدولة
في مؤلّفه “تشريح الفاشيّة” يجادل روبرت أُوِن باكستون حول طبيعة الحركات الفاشيّة التي لا يمكن لها أن تنمو “دون مساعدة الناس العاديين” وأنها لم تكتسب السلطة والقوة دون “إذعان وموافقة النخبة التقليدية وموافقتهم – رؤساء الدولة وقادة الحزب ومسؤولي الحكومات العليا”. بهذا المعنى يمكن فهم جزء يسير من احتفاظ تركيا بتيارها الفاشيّ المدلل مدعوماً من الدولة وأجهزتها الأمنية والتنفيذية والقضائية الراغبة في كبح تقدّم التيارات النضالية: أبناء الهويات الثقافية والجماعات القومية غير التركية، وحركات السلام، والحركات النسائية، ومناضلي حقوق الإنسان، والصحفيين والأكاديميين ذوي الآراء المختلفة.
يبقى أنه قبل إلقاء اللوم على اللاعب التركي فحسب، وهو هنا أحد العاديين الأتراك، أو على الجمهور التركيّ، ينبغي النظر إلى طبيعة التحالف الحكومي التركي حيث حزب الحركة القومية بتنظيمها العسكري (الذئاب الرمادية) جزء رئيس في الحكومة التركية والحزب الحليف الأوحد للعدالة والتنمية، أو الحليف الوحيد لأردوغان الذي سبق له ولأعضاء في حكومته، كما في حالة مولود جاويش أوغلو، أن رسموا بأصابعهم حركة الذئب على الملأ، إما تغزّلاً بالتنظيم الحليف أو إمعاناً في إذلال ضحاياه على كثرتهم وتنوع منابتهم، وفي كلتا الحالتين لم تعد الفاشيّة مجرّد لون سياسيّ تركيّ بل هي في هذه الأثناء بعد أن دخلت طورها الجديد: الدولة برمّتها.