هنري كيسنجر: لا سياسة خارج «ويستفاليا» (2-3)  

حسين جمو  
المادة متوفرة باللغة الكردية
خلال مسيرته الطويلة في الدبلوماسية، ساهم وزير الخارجية الأميركي الأسبق والراحل هنري كيسنجر في «ردة سياسية» للنظام العالمي إلى مرحلة استقرار ويستفاليا عام 1646 بعد أن أدى اضطراب هذا النظام ذاته إلى اندلاع حربين عالميتين.
تاريخياً، تم تدشين نظام ويستفاليا عقب حرب الثلاثين عاماً المدمرة، فكان ارتقاءً تاريخياً في النظام السياسي العالمي في تلك اللحظة الفاصلة بين الحق الامبراطوري الأبدي في التوسع، وبين رسم حدود ثابتة للنفوذ والدولة. وعلى حد تعبير كيسنجر، فإن «مبادئ ويستفاليا هي الأساس الوحيد المعترف به عموماً لما يوجد في النظام العالمي».
على امتداد 300 عام، استنفذ هذا النظام حداثته وبات جزءاً من العالم القديم الدموي، فجاء تأسيس الأمم المتحدة ثم تدشين مرحلة – محاولة – «العولمة الحقوقية» مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. من هنا، ظهرت فلول نظام ويستفاليا في «الدولة القومية» و«السيادة»، وهي مفاهيم تضمنها أيضاً إعلان الأمم المتحدة، رغم أنها غالباً ما باتت في خندق مضاد للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. هكذا، أسفر النظام العالمي الجديد عن الاتكاء على مذهبين متناقضين ظهرت تأثيراتهما المدمرة في الدول التسلطية في العالم الثالث بشكل خاص حيث تم إنكار التعددية الاجتماعية والقومية لصالح الدولة ذات القومية الواحدة. لقد كان كيسنجر طيلة فترة حياته النشطة في السياسة من أنصار النظام القديم، ويكن الاحترام للفئة المتغلبة – المتسلطة في دولها. لم يكن للجماهير وجموع الشعوب أي اعتبار في طروحاته، في التقاء غير ضميري مع الأنظمة الإقطاعية الأوروبية القديمة حين لم تكن قد ظهرت بعد مفهوم الشعب. وبما أن هذه السطور مقدمة لتشريح موقف كيسنجر من الكرد في مسيرته، خاصة دوره في قتل عشرات الآلاف من سكان جنوب كردستان عبر دعمه ورعايته اتفاق الجزائر بين النظامين العراقي والإيراني عام 1975، فإنه بالإمكان تبسيط فكرة الحياة من دون إعطاء أي اعتبار لـ«الشعب» من التراث السياسي الكردي ذاته. فعلى امتداد مئات السنين، لم يصبح الفلاحون جزءاً من المجتمع الكردي الشرعي سوى قبل أقل من قرن. إذ هيمن زعماء القبائل والوجهاء والسلالات الأرستقراطية على «الكردايتي» ليس من حيث النفوذ، بل بشكل كلي بحيث لم يكن العوام (الكرمانج) جزءاً من الكرد. كان كيسنجر ينتمي إلى هذه الحاشية في ممارساته السياسية حيث الشعب ليس مهماً في أي معادلة سياسية. وكان ذلك جوهر «الواقعية السياسية» التي حمل لواءها وفق نتائج ما فعله ودعمه من بنغلادش إلى تشيلي مروراً بكردستان.
قدّم الأكاديمي فولفغانغ إيشينجر، في مجلة «فورين أفيرز» عدد مارس/آذار- أبريل/نيسان 2015، قراءة في كتاب كيسنجر «النظام العالمي»، ورأى أن له قيمة هائلة في عالم يفتقد للنظام حين كان تنظيم داعش في ذروة قوته. والأمر الأكثر خطورة هو أن الحراس التقليديين للنظام العالمي أصبحوا مترددين في الدفاع عنه. ويقر إيشينجر:
عالم كيسنجر يتعلق أيضاً بقوة الأفكار على الرغم من أن الأفكار الأكثر أهمية بالنسبة له هي أفكار الأقوياء. فهو يرى أن المفاهيم التقليدية مثل السيادة وعدم التدخل لا تزال هي المهيمنة، بعد أن دعمت النظام الدولي لمدة أربعة قرون تقريباً. لكن هذا النظام اليوم في حالة تغير مستمر، حيث تعمل الجهات الفاعلة القوية على الترويج لطرق بديلة لتنظيمه من الثيوقراطية إلى الرأسمالية الاستبدادية إلى ما بعد الحداثة. لكن كيسنجر يرى أن البنية السائدة المقبولة هي التي تحقق الهدفين الرئيسيين للنظام العالمي: الشرعية وتوازن القوى.. ورغم أن بعض المؤرخين وعلماء السياسة المعاصرين قد يعترضون على إضفاء المثالية على المؤسسات الويستفالية، إلا أن إحدى مواهب كيسنجر هي موهبته في الكشف عن أهمية الهياكل التاريخية للسياسات الحالية.
في بعض الأحداث المفصلية خلال مسيرته، كان الحظ يحالف كيسنجر، أو أنه كان ينتظر اللحظة الأسوأ في التاريخ ليبرهن بطريقة ما على أهمية بقاء الدول المتسلطة القومية دون تغيير. لذلك، فإن النظام الإقليمي ضمن أطروحة كيسنجر عن «توازن القوى» يتألف من شبكة دكتاتوريات الشرق الأوسط التي انبثقت من توسع النظام الويستفالي إلى خارج أوروبا، كما يعتبر. وفي هذه اللحظة الأسوأ في تاريخ المنطقة عام 2014 – 2015، اختار كيسنجر أن صعود الحركات الإسلامية المتطرفة مثل «داعش»، «يهدد بتفكك الدولة إلى وحدات قبلية وطائفية وهو ما يخاطر بدفع المنطقة إلى مواجهة أقرب إلى – ولكنها أوسع من – الحروب الدينية في أوروبا قبل وستفاليا».
أبدى كيسنجر شكوكه في بعض الأشكال الأحدث من الأممية الليبرالية. فهو يرى، على سبيل المثال، أن مبدأ «مسؤولية الحماية» – الذي ينص على أن الدولة تفقد حقها السيادي في عدم التدخل في شؤونها إذا فشلت في حماية سكانها من الفظائع الجماعية، ما يتطلب من المجتمع الدولي التصرف نيابة عن هؤلاء السكان – يمكن أن يزعزع استقرار النظام الدولي.
بعد يوم من وفاة كيسنجر، كتب الأكاديمي في جامعة كولومبيا، تيموثي نفتالي، مقالاً في «فورين أفيرز» بعنوان «تناقضات كيسنجر»:
على الرغم من كل عبقريته الدبلوماسية، كان كيسنجر يعاني من نقطة أخلاقية عمياء وضخمة. لم يكن بإمكانه رؤية العالم إلا من مسافة 30 ألف قدم، أو من خلال عيون الأقوياء. امتدت نقطة كيسنجر العمياء إلى ما هو أبعد من جنوب شرق آسيا. في عام 1972، صمم كيسنجر عملاً سرياً أميركياً لتنسيق الدعم الإيراني والإسرائيلي للقوات الكردية التي تقاتل نظام صدام حسين العراقي الموالي للاتحاد السوفيتي، ما أدى إلى تقييد جزء كبير من الجيش العراقي، الذي كان من الممكن أن يرسله صدام لمحاربة إسرائيل. ولكن عندما قرر شاه إيران، لأسبابه الخاصة، تسوية نزاع حدودي مع العراق وسحب دعمه في عام 1975، لم يفعل كيسنجر أي شيء بينما كانت القوات العراقية تقمع الكرد.
لقد كان أقران كيسنجر الحقيقيون مستشارين لملوك القوى الأوروبية العظمى (تشارلز موريس دي تاليران، والأمير كليمنس فون مترنيخ، وأوتو فون بسمارك)، ليكون هو وريثاً لأفضل ما يراه في هؤلاء الأقوياء الذين قرأ عنهم كطالب دراسات عليا في التاريخ الدبلوماسي. وهذا أساس لامبالاته تجاه مقتل ملايين الأشخاص نتيجة تفاقم أحداث صنعها هو بنفسه أو ساهم فيها. لكنه لم يفعل ذلك لاحتقاره العوام والشعوب والفقراء، بل لأنه حاول بقوة – وفق تصوره – تصويب سياسات بلاده عبر انتشالها من الغرق في التكتيكات. ففي رسالة كتبها لصديقه آرثر شليزنغر عام 1961 في سياق انتقاده للرئيس جون كينيدي، قال كيسنجر متأسفاً: «إنني أشعر بالقلق إزاء الافتقار إلى استراتيجية شاملة تجعلنا أسرى الأحداث. وكانت النتيجة الإفراط في الاهتمام بالتكتيكات». وفي المجلد الثالث من مذكراته بعنوان «سنوات التجديد»، شرح باستفاضة كيف أن مسألة الدعم الأميركي للثورة الكردية في العراق لم يكن أمراً استراتيجياً إنما استخدام تكتيكي انتفت الحاجة له حين فضل شاه إيران الاتفاق مع العراق عام 1975.
***
هامش:  
اندلعت حرب الثلاثين عاماً في 1618 ولم تنتهِ تماماً لدى توقيع معاهدة وستفاليا عام 1648. بدأت هذه الحرب كاستجابات متعارضة لنتائج حركات الإصلاح الديني وظهور البروتستانتية كقوة سياسية ـ عسكرية على أراضي الامبراطورية الرومانية المقدسة، التي كان يحكمها الملك فيرديناند الثالث من آل هابسبورغ، ذو المذهب الكاثوليكي. اشترك في الحرب أكثر من 100 إمارة إضافة إلى الممالك الأوروبية مثل فرنسا واسبانيا والسويد والدنمارك. وشهد مسار الحرب نفسه تحولات جذرية وصلت إلى أن يقوم الكاردينال ريشيلو (رئيس وزراء فرنسا بين 1624 -1642) بتحول دراماتيكي في هوية الحرب عندما بدأ بتمويل جيوش الأمراء الألمان البروتستانت ضد آل هابسبورغ الكاثوليك، ثم أرسل الجيوش الفرنسية (الكاثوليكية) لتقاتل إلى جانب البروتستانت بمباركة لويس الثالث عشر عام 1635. كان هدف ريشيلو إنهاء أي قوة كاثوليكية أقوى من فرنسا. لا غرابة إذاً أن تنهار في سياق هذا التحول منظمة العصبة الكاثوليكية في أوروبا من تلقاء نفسها بعد سنوات على قيادتها تصفية منظمة الاتحاد البروتستانتي في بوهيميا.
تم تدمير معظم ألمانيا الهابسبورغية، وشهدت أوروبا حركات نزوح جماعية وفقاً للهوية الطائفية، وحدثت أكبر حركة تغيير للمِلْكيات في أوروبا. أسقطت معاهدة وستفاليا، التي استغرقت المفاوضات بشأنها أربع سنوات عبر مراحل ماراثونية، حق التعويض عن الخسائر. كان التسامح يبلغ ذروته.
هذا الاستعراض السريع والمكثف لحرب الثلاثين عاماً ضروري للإحاطة بكيفية ظهور مبدأ «سيادة الدولة الوطنية». من هذه المعاهدة، تم الربط العضوي بين الدولة والإقليم الجغرافي الذي تقوم عليه، وحق الدولة في التصرف بشؤونها الداخلية كما تراها مناسبة من دون أي تدخل خارجي. استدعى هذا المبدأ الصارم مبادئ أخرى عديدة لحفظ حقوق الأقليات الدينية ضمن كل دولة إقليم. هنا، انتهى إلى حد كبير دور الكنيسة أيضاً.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد