حرب الولايات المتحدة بالوكالة في أوكرانيا

جون بيلامي فوستر

أودّ التعبير عن امتناني لدعوتي من أجل تقديم هذه الإحاطة. بداية يتوجّب أن ندرك أن الحرب الأوكرانية هي “حرب بالوكالة”. على الرغم من أن مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية ووزير الدفاع في عهد إدارة أوباما ليون بانيتا لم يكن يرى ما يجري في أوكرانيا حرباً بالوكالة بين الولايات المتحدة وروسيا، إلا أنّه في الآونة الأخيرة أقرّ بذلك. في الحقيقة الولايات المتحدة مدعومة من حلف شمال الأطلسي تخوض حرباً بالوكالة ضد روسيا في أوكرانيا، حيث تقوم الولايات المتحدة بتقديم الكثير من العتاد للأوكرانيين و المرتزقة الأجانب.

ما السبب الكامن وراء اندلاع هذه الحرب بالوكالة؟ للإجابة عن هذا السؤال يتوجّب علينا التمعّن في الاستراتيجية الإمبريالية الرئيسية للولايات المتحدة. ولكي نفهم ذلك، سنعود إلى فترة تفككّ الاتحاد السوفيتي عام ١٩٩١ أو إلى ثمانينيات القرن الماضي. هنالك جانبين لهذه الاستراتيجية الإمبريالية الرئيسية، يتمحور الجانب الأول حول التوسّع الجيوسياسي والتموضع وخاصة توسّع حلف شمال الأطلسي، بينما يتمحور الجانب الثاني حول تركيز الولايات المتحدة اهتمامها على الأسلحة النووية، أما بالنسبة للجانب الثالث فهو يتعلّق بالاقتصاد ولكن لن يتم التطرق إليه في هذه المقالة.

الجانب الأول : التوسّع الجيوسياسي

أُزيح الستار عن التوسع الجيوسياسي في دليل السياسة الدفاعية لبول وولفويتز للولايات المتحدة في شباط عام 1992 بعد عدة أشهر من تفكك الاتحاد السوفييتي. لقد كان هدف الاستراتيجية الإمبريالية في تلك الحقبة والتي لازالت مستمرة حتى اليوم هو وضع الولايات الأمريكية موطئ قدم لها في دول الاتحاد السوفيتي سابقاً، بالإضافة إلى ما كان يعتبر مجالاً للنفوذ السوفيتي بغية إضعاف روسيا ومنعها من أن تصبح قوة عظمى. بدأت عملية التوسع الجيوسياسي للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي مباشرة في أعقاب تفكك الاتحاد السوفيتي، وهو سياسة مُتعارف عليها في جميع حروب الولايات المتحدة والحلف في آسيا وإفريقيا وأوروبا، التي اندلعت خلال العقود الثلاثة الماضية. وشكّلت حرب حلف شمال الأطلسي في يوغوسلافيا بالتسعينيات مُنعطفاً هاماً في هذا التوسع. خلال فترة انفصال يوغوسلافيا عن الاتحاد السوفيتي بدأت الولايات المتحدة في توسيع قاعدة حلف شمال الأطلسي من خلال ضم مزيد من دول أوروبا الشرقية إليه ليشمل ذلك جميع دول حلف وارسو سابقاً، إلى جانب دول كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي. وفي عام ١٩٩٦ اتّخذ الرئيس الأميركي بيل كلينتون من توسيع قاعدة حلف شمال الأطلسي كأحد وعود حملته الانتخابية، وقد بدأت واشنطن في تطبيق ذلك عام ١٩٩٧ حيث تمكّنت من ضم ١٥ دولة إلى الحلف وأقامت حلفاً أطلسياً يضم ٣٠ دولة للوقوف في وجه روسيا، لجعل حلف شمال الأطلسي يلعب دوراً أكثر أهمية على المستوى العالمي كما هو الحال في يوغوسلافيا و سوريا وليبيا.

لقد كان هدف الولايات المتحدة الأساسي هو ضم أوكرانيا للحلف. وقد قال ‏‏المفكّر الاستراتيجي ومستشار الأمن القومي لدى الرئيس الأميركي جيمي كارتر زبيغنيو بريجنسكي في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى” عام ١٩٩٧، إن أوكرانيا كانت تشكل الهدف “الجيوستراتيجي” للغرب والتي سيؤدي ضمها للحلف إلى إضعاف روسيا بشكل كبير، أو حتى تفكيكها إلى دويلات. كان هذا هو هدف الولايات المتحدة والغرب، وجاء ذلك على لسان المخططين الاستراتيجيين الأميركيين ومسؤولين رفيعي المستوى في واشنطن إلى جانب أعضاء حلف شمال الأطلسي الذين أعلنوا عن خطط لضم أوكرانيا للحلف. في عام ٢٠٠٨ جعل حلف شمال الأطلسي من هذا المشروع هدفاً رسمياً. قبل عدة أشهر وتحديداً في تشرين الثاني عام ٢٠٢١ تم الاتفاق بين إدارة بايدن و زيلينسكي من خلال “الميثاق الاستراتيجي الجديد” على أن الهدف الأساسي هو ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، في المقابل كانت أيضاً هذه سياسة الحلف منذ فترة بعيدة، فبدءً من الأشهر الأخيرة لعام ٢٠٢١ انخرطت الولايات المتحدة في عسكرة أوكرانيا لجعل أهدافها النظرية أمراً واقعاً.

الفكرة التي كان بريجنسكي و آخرين يشيرون إليها هي أن ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي يعني أن روسيا أضحت محاصرة و ضعيفة باعتبار أن أوكرانيا ملاصقة لها وهي الدولة رقم ٣١ في الحلف، كما أن ذلك سيمنح الحلف حدوداً بطول ١٢٠٠ ميلاً مع روسيا، وهو ذات المسار الذي غزت فيه جيوش هتلر الاتحاد السوفياتي، إلا أن هذه المرة تواجه روسيا أضخم تحالف نووي عالمي. سيؤدي انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي إلى تغيّر الخارطة الجيوسياسية برمتها مما يعطي للغرب الأفضلية في السيطرة على منطقة أوراسيا غربي الصين.

كيف حصل ذلك؟ إنه سؤال في غاية الأهمية. تعود بدايات الحرب بالوكالة إلى عام ٢٠١٤ أثناء حدوث “انقلاب الساحة” في أوكرانيا _ الذي دبّرته الولايات المتحدة _ مما أدى إلى الإطاحة بالرئيس المنتخب ديمقراطياً و استحواذ القوميين المتشددين على السلطة وانعكست أولى نتائج ذلك من خلال تقسّم أوكرانيا. لقد كانت شبه جزيرة القرم دولة مستقلة تتمتع بالحكم الذاتي من عام ١٩٩١ حتى ١٩٩٥ حيث رفضت أوكرانيا ذلك وضمت القرم إليها بشكل غير قانوني. لم يقبل سكان القرم بالانتماء إلى أوكرانيا وكثير منهم يتحدث الروسية وتربطهم بروسيا علاقات ثقافية متجذّرة. بعد الانقلاب في أوكرانيا واستيلاء القوميين المتشددين على السلطة أعلن سكان القرم رغبتهم بالانفصال، حيث أعطتهم روسيا الفرصة عبر تنظيم استفتاء يختارون خلاله إما البقاء كجزء من أوكرانيا أو الانفصال والانضمام إلها، وقد كانت النتيجة تصويتهم لصالح الخيار الثاني. في شرق أوكرانيا تعرّض السكان المتحدثين باللغة الروسية للقمع من قبل القوميين المتشددين والنازيين الجدد. لقد كان هناك خوف من التمدد الروسي مما دفع بالأوكران المتطرفين لممارسة أبشع أنواع القمع بحق هؤلاء، ومثال عن ذلك تفجير مبنى حكومي وبداخله قرابة ٤٠ شخصاً من قبل النازيين الجدد المرتبطين بكتيبة “أزوف”. استطاعت جمهوريتان في إقليم دونباس من نيل استقلالها عن أوكرانيا وهما “لوهانسك ودونيتسك” حيث كانت أغلبية سكانها يتحدثون الروسية.

نتيجة لذلك اندلعت حرب أهلية في أوكرانيا بين كييف غرباً و دونباس شرقاً، وفي الوقت ذاته كانت حرباً بالوكالة بين المعسكر الغربي والولايات المتحدة الذين دعمما كييف وروسيا التي دعمت إقليم دونباس، بدأت هذه الحرب بعد الانقلاب مباشرة عندما حُظرت اللغة الروسية، حيث يُغرّم كل من يتحدث بها في الأماكن العامة، و كان ذلك بمثابة استهداف للغة والثقافة الروسية وممارسة أبشع أنواع القمع ضد السكان في شرقي أوكرانيا.

أدّت الحرب الأهلية إلى مقتل نحو ١٤ ألف شخص، معظمهم قتلوا في الجزء الشرقي من البلاد، فضلاً عن نزوح نحو ٢.٥ مليون لاجئ باتجاه روسيا. تم التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق للنار من خلال اتفاقية “مينسك” في عامي ٢٠١٤ و٢٠١٥ عن طريق كل من فرنسا و ألمانيا و بدعم من مجلس الأمن الدولي.

بموجب هذه الاتفاقية أصبحت جمهوريتي لوهانسك ودونيتسك تتمتعان بإدارة ذاتية داخل أوكرانيا، غير أن الأخيرة لم تلتزم بالاتفاقية حيث كانت تهاجم باستمرار الجمهوريتين الانفصاليتين في إقليم دونباس، فيما استمرت الولايات المتحدة بتدريب القوات الأوكرانية و مدها بالأسلحة.

قدمت واشنطن دعماً عسكرياً كبيراً إلى كييف بين عامي ١٩٩١ و ٢٠٢١، حيث بلغ حجم المساعدة العسكرية بين عامي ١٩٩١-٢٠١٤ نحو ( ٣. ٨) مليار دولار. ازداد حجم الدعم العسكري مقارنة بعدد السنين من ٢٠١٤ إلى ٢٠٢١ إلى نحو (٢.٤) مليار دولار ليتنامى هذا الدعم أكثر مع تولي جو بايدن منصبه في واشنطن. أغدقت الولايات المتحدة أوكرانيا بالأسلحة بشكل كبير، علاوة على ذلك درّبت بريطانيا و كندا نحو ٥٠ ألف جندي أوكراني (٥٠٠٠٠) ناهيك عن الذين درّبتهم الولايات المتحدة. درّبت وكالة المخابرات المركزية الأميركية ( سي أي إيه) بالفعل كتيبة أزوف والقوات العسكرية اليمينية غير النظامية وجميع هذه التحركات تندرج ضمن هدف واحد ألا وهو تقويض و إضعاف روسيا.

إن أكثر ما يثير قلق الروس هو قوة حلف شمال الأطلسي النووية خاصة في حال انضمام أوكرانيا إليه، و نشر منصات لصواريخ فيها واحتمالية حدوث ضربة نووية استباقية للحلف بحيث تقوّض قدرة الكرملين على الرد. توجد في كل من بولندا ورومانيا منظومة دفاع جوي مضاد للصواريخ الباليستية وهي منظومة دفاعية مهمّة في حال بادر حلف شمال الأطلسي بضربة نووية ضد روسيا. علاوة على ذلك، تمتلك منظومة الدفاع الجوي الأميركية (إيجيس) القدرة على اطلاق صواريخ هجومية نووية. نتيجة لهذا الواقع وإدراكها لحجم الخطر، غزت روسيا أوكرانيا. في شباط عام ٢٠٢٢ بدأت روسيا بحشد أكثر من ١٣٠ الف جندي على تخوم إقليم دونباس شرقاً وغرباً في أوكرانيا التي تدعمها كل من الولايات المتحدة و حلفشمال الأطلسي. وقد أعلنت روسيا أن أوكرانيا تجاوزت الخطوط الحمراء، و بناءً على ذلك ألغت العمل باتفاقيات مينسك ورأت بضرورة استقلال جمهوريات إقليم دونباس، و تدخلت بشكل مباشر في الحرب الأهلية الأوكرانية من منطلق الدفاع عن أمنها القومي.

إن ما يحدث في أوكرانيا هو حرب بالوكالة بين حلف شمال الأطلسي و الولايات المتحدة من جهة وروسيا من جهة أخرى، والتي أدت إلى حرب أهلية في هذا البلد  خاصة بعد تدبير أميركا للانقلاب. لكن هذه الحرب ليست كسابقاتها كونها تحدث في بلد له حدود مشتركة مع إحدى الدول النووية العظمى وقد كان مخطط لها منذ زمن بعيد عبر استخدام الاستراتيجية الإمبريالية من قبل واشنطن والتي تهدف السيطرة على أوكرانيا وضمها لحلف شمال الأطلسي بغية إضعاف روسيا، وتؤسس كما قال بريجنسكي لسيادة الولايات المتحدة على العالم. يبدو أن هذه الحرب بالوكالة تنطوي على مخاطر كبيرة لم نشهد مثلها منذ أزمة الصواريخ الكوبية. بعد الغزو الروسي لأوكرانيا رأت فرنسا أن حلف شمال الأطلسي يمثّل قوة نووية فيما رأت روسيا في ذلك تهديداً ضدها لذلك قامت في ٢٧ شباط برفع جاهزية قوّاتها النووية لأقصى درجة.

هناك جانب آخر لهذه الحرب بالوكالة حيث يبذل الروس قُصارى جهدهم لعدم وقوع إصابات في صفوف المدنيين، خاصة بالنظر إلى طبيعة العلاقة الخاصة التي تربط الشعبين الروسي والأوكراني. ووفقًا للأرقام الصادرة عن الجيش الأميركي وحلف شمال الأطلسي فإن نسبة الضحايا المدنيين متدنّية مقارنة بأرقام الحرب الأميركية، و أكبر دليل على ذلك هو أن حجم الخسائر العسكرية الروسية أكبر بكثير من الخسائر بين صفوف المدنيين. إن الولايات المتحدة في حروبها، ومثال ذلك العراق، تستهدف منشآت توليد الطاقة الكهربائية ومحطات المياه والبنية التحتية الخدمية كي تؤجج الشارع ضد حكومته، ولكن ذلك من شأنه أن يزيد حصيلة الخسائر البشرية، وقد بلغت نسبة الأخيرة في العراق مئات الآلاف من الضحايا. في المقابل لم تلجأ روسيا إلى تدمير البنية التحتية في أوكرانيا، وعلى الرغم من أن الحرب لازالت مستمرة إلّا أن روسيا لم تقطع الغاز عن كييف ومازلت ملتزمة بالعقود التي أبرمتها، كما أنّها لم تستهدف شبكة الإنترنت في أوكرانيا.

كان الغزو الروسي لأوكرانيا يستهدف بشكل رئيسي السيطرة على إقليم دونباس وتأمين منفذ بحري له وذلك بالسيطرة على ميناء ماريوبول كونه يمثّل شريان الحياة بالنسبة للإقليم. في الوقت الحالي تسيطر كتيبة ازوف النازية الجديدة على نحو ٢٠٪ من ماريوبول وتتّخذ من الملاجئ السوفياتية القديمة بالمدينة مخابئ لها، في المقابل تسيطر ميليشيا جمهورية دونيتسك الشعبية والروس على باقي أجزاء المدينة. قطّع الجيش الروسي أوصال نحو ١٠٠ ألف من القوات العسكرية الأوكرانية من أصل ١٣٠ ألف مقاتل كانوا بمحيط إقليم دونباس. وببسط روسيا والميليشيات التابعة لها سيطرتها على الإقليم ستجبر موسكو أوكرانيا على إلقاء السلاح والرضوخ لإملاءاتها فيما يتعلق بعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي واتّخاذ موقف محايد.

في حال التمعّن بما يجري من منظور اتفاقيّات السلام _ وخير مثال عن ذلك تقرير صحيفة غلوبال تايمز في 31 أذار _ ستتضح أسباب اندلاع الحرب. وقد أعلنت كييف مبدئياً الحياد بضمانة دول غربية مثل كندا، إلّا أن ما يعرقل سير المفاوضات هو ما تعتبره كييف انتهاك الروس لسيادتها، و تصر أوكرانيا على أن إقليم دونباس جزء لا يتجزء من أراضيها، بالرغم من النزعة الانفصالية لدى السكّان في كل من جمهوريتي دونيتسك و لوهانسك. ولكن في الواقع لا تزال الميليشيات الشعبية والروس يهدفون إلى بسط سيطرتهم على إقليم دونباس وطرد القوات الأوكرانية من هناك. هذا هو السبب الرئيسي لعرقلة سير المفاوضات و اندلاع الحرب الأهلية في أوكرانيا. أما بالنسبة للولايات المتحدة فقد كانت تصبّ الزيت على النار في هذه الحرب ولا ترغب بإجراء مفاوضات.

الجانب الثاني : التوجّه نحو القوة النووية

إنّه لمن المهم دراسة البند الثاني من الاستراتيجية الأميركية الإمبريالية التي سلّطت الضوء على الجغرافية السياسية والتوسّع في دول الاتحاد السوفياتي الأسبق أو مناطق نفوذه وهو ما تطرق إليه بريجنسكي. ولكن في المقابل هنالك جانب آخر لهذه الاستراتيجية ألا وهو ضرورة التفوّق النووي على حساب الدول النووية، كما أن كتاب “رقعة الشطرنج الكبرى” لبريجنسكي الذي يتحدث عن الاستراتيجية الجيوسياسية للولايات المتحدة لم يتطرق إلى الترسانة النووية، وحتى أن كلمة “نووي” لم يذكرها في كتابه، لكن رغم ذلك يعتبر التفوق النووي أمراً ضرورياً للإستراتيجية الأميركية الشاملة ضد روسيا. في عام 1979 إبان حقبة جيمي كارتر و عندما كان بريجنسكي مستشاراً للأمن القومي اُتخذ قرار بعدم تبني مفهوم “الدمار المتبادل” وأن تتبع الولايات المتحدة استراتيجية القوة المضادة للأولوية النووية ويشتمل ذلك على نشر صواريخ نووية في أوروبا. في كتابه “رسالة إلى أميركا” و”الانتفاضة والتمسك بالحياة” الذي نشرته مجلة نشر شهرية عام 1981 اقتبس المؤرخ الماركسي والناشط المناهض للأسلحة النووية إدوارد بالمر تومبسون اعتراف بريجنسكي بأن استراتيجية الولايات المتحدة قد تحوّلت إلى قوة مواجهة.

ولتوضيح ذلك من المهم العودة للماضي، ففي ستينيات القرن الماضي تمكّن الاتحاد السوفياتي من مساواة الولايات المتحدة بالقوة النووية. وقد أثار هذا الموضوع الجدل داخل البيت الأبيض والمؤسسة الأمنية لأن التساوي في القوة النووية يعني حتماً “الدمار المتبادل” في حال اندلاع حرب بين القوتين. وبناء على ذلك، بدأ وزير الدفاع روبرت ماكنمارا في عهد الرئيس كينيدي بالترويج لمفهوم “القوة المضادة أو الردع”. في الواقع هنالك نوعين من الهجمات النووية، النوع الأول هو هجوم يطال المرافق الحيوية وخاصة المدن والسكان واقتصاد العدو وهذا ما يستند إليه مفهوم “الدمار المتبادل”. أما بالنسبة للهجوم الآخر فهو قوة الردع التي تهدف إلى تدمير الترسانة النووية للخصم قبل أن تنطلق من قواعدها. في الحقيقة أن استراتيجية القوة المضادة تشبه إلى حد كبير استراتيجية الضربة الاستباقية. بدأت الولايات المتحدة بقيادة وزير الدفاع روبرت ماكنامارا بدراسة القوة المضادة والتي اعتبر الوزير أنّ تبني مثل هذا النهج أمر محفوف بالمخاطر، ولكن للتغلّب على مفهوم الدمار المتبادل قررّ مواصلة تطوير استراتيجية القوة المضادة للولايات المتحدة، واستمرّ ذلك خلال فترة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. غير أنّه في عام 1979 عندما كان كارتر رئيساً للولايات المتحدة وبريجنسكي مستشاراً للأمن القومي قرّرا تطبيق استراتيجية القوة المضادة، حيث قرّرت الولايات المتحدة في تلك الفترة وضع صواريخ “بيرشينغ 2″ و صواريخ ” كروز” النووية في أوروبا، وقد أدى ذلك إلى تخلّي كثير من الدول الأوروبية عن سباق التسلح النووي والتي تمثّل حركة السلام الأوروبية الكبيرة.

بداية وضعت واشنطن صواريخ ” بيرشينغ 2″ النووية متوسّطة المدى إلى جانب صواريخ ” كروز ” في أوروبا وقد مثل ذلك تحولاً مفصلياً في جلب السلام والاستقرار إلى كلّ من أوروبا والولايات المتحدة. روّجت إدارة رونالد ريغان بشدة لاستراتيجية القوة المضادة وعزّزتها بمبادرة الدفاع الاستراتيجي أو “حرب النجوم” وهو برنامج لتطوير نظام دفاعي صاروخي يعتمد على أحدث التقنيات لإحباط أي هجوم يستهدف الولايات المتحدة وكان ذلك أقرب إلى الخيال. لاحقاً توقّف سباق التسلح النووي نتيجة للهدوء النسبي والسلام في أوروبا على طرفي جدار برلين، فضلاً عن توقّف الولايات المتحدة أيضاً عن ذلك، بالإضافة إلى اعتلاء غورباتشوف سدة الحكم في الاتحاد السوفياتي. ولكن في أعقاب تفكك الاتحاد السوفياتي أعلنت واشنطن عزمها استئناف العمل في استراتيجية القوة المضادة كي تتمكن من التفوق النووي.

على مدى العقود الثلاثة اللاحقة واصلت واشنطن تطوير أسلحة واستراتيجيات القوة المضادة إلى جانب تعزيز قدراتها في هذا النهج لدرجة أنّه تم الإعلان في عام 2006 أن الولايات المتحدة كانت قاب قوسين أو أدنى من التفوق النووي وذلك عبر مقالة نُشرت عبر مجلة “فورن أفيرز” من قبل مجلس العلاقات الخارجية وهو المركز الرئيسي لإستراتيجية الولايات المتحدة العظمى. وقد شدد المقال المنشور في المجلة المذكورة “على أن الصين لا تمتلك قدرة الردع النووي في حال تعرّضت لهجوم استباقي أميركي بالنظر إلى تطور التكنولوجيا الهجومية وأنظمة الاستشعار عن بعد التي تمتلكها الولايات المتحدة، وأمام هذا الواقع بدأ الروس بتطوير نظام الردع النووي. في المقابل قطعت الولايات المتحدة أشواطاً كبيرة في تحقيق التفوق النووي بلا منازع، وقد تزامن ذلك مع توسيع قاعدة حلف شمال الأطلسي في أوروبا لأنه جزء من استراتيجية القوة المضادة التي كانت تتمثل في جعل الترسانة النووية على مقربة من روسيا لتقويض قدرة موسكو على الرد في حال شن ضربة نووية استباقية ضدها.

كانت روسيا هي الهدف الرئيسي في هذه الاستراتيجية وستكون الصين الهدف التالي، ولكن مع تولّي ترامب السلطة أدار البوصلة من روسيا نحو الصين. أدّى ذلك لحدوث اضطرابات في الاستراتيجية الكبرى لكل من أميركا وحلف شمال الأطلسي، خاصة وأنّ توسيع قاعدة الحلف كانت جزءاً هاماً من استراتيجية التفوّق النووي. وبمجرد وصول إدارة بايدن للسلطة تم إصلاح الخلل عبر السعي لضم أوكرانيا للحلف و تضييق الخناق على روسيا.

لم تمر كل هذه الأمور على روسيا التي تعتبر اليوم دولة رأسمالية وأصبحت قوة عظمى من جديد. لقد تنبأت روسيا بالمستقبل عندما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2007 ان عالماً أحادي القطب أصبح مستحيلاً، و أن الولايات المتحدة لم يعد بمقدورها تحقيق تفوّق نووي. وفي محاولة منها للتصدي ضد استراتيجية القوة المضادة للولايات المتحدة بدأت كل من روسيا والصين في تطوير ترسانتها. إن مفهوم الضربة الاستباقية قائم على قيام المهاجم _ الولايات المتحدة أقرب إلى ذلك _ باستهداف منظومات الصواريخ الدفاعية والهجومية سواء أكانت ثابتة أو متحرّكة، بالإضافة إلى الغوّاصات بحيث يتم تدميرها بشكل كامل. أما بالنسبة لعمل منظومة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية فهو ردع أية ضربة انتقامية. تعلم القوى النووية العظمى ذلك وخاصة الصين و روسيا الذين بدأا في تطوير استراتيجية الردع النووي أو القدرة على التصدّي أو شنّ ضربة مضادة. في السنوات القليلة الماضية، طوّرت روسيا والصين صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت حيث تتحرك هذه الصواريخ بسرعة فائقة، تتجاوز عتبة 5 ماخ وفي نفس الوقت تكون قادرة على المناورة، لذلك لا يمكن إيقافها بواسطة منظومة الدفاعات الجوية المضادة للصواريخ الباليستية الأمر الذي سيقوّض قدرة القوة المضادة الأميركية، خاصة وأن الولايات المتحدة لم تطوّر بعد صواريخ تفوق سرعة الصوت من هذا النوع. تطلق الصين على هذا النوع من الأسلحة “الصولجان القاتل” لقدرته على مواجهة الخصم وإن كانت قوته كبيرة. و بتطوير مثل هكذا صواريخ ستعزز كل من روسيا و الصين قوة الردع من خلال تأمين الحماية لأنظمتها النووية الهجومية في حال تم استهدافها، ويعتبر ذلك أحد أبرز العوامل في التصدّي للضربة الاستباقية الأميركية.

إن الجانب الآخر في سباق التفوق النووي هو هيمنة الولايات المتحدة و حلف شمال الأطلسي على مجال الأقمار الصناعية، و نتيجة لذلك أصبحت أهداف البنتاغون أكثر دقة لدرجة أنه بإمكانهم تدمير منظومة الصواريخ المحصنة برؤوس حربية صغيرة، بالإضافة إلى تدمير الغواصات أيضاً. إن مجال الأقمار الصناعية يمنح الولايات المتحدة القدرة إلى حد كبير على تدمير منظومة الصواريخ المحصنة أو مراكز القيادة والسيطرة بأسلحة غير نووية أو برؤوس حربية نووية صغيرة الحجم نتيجة لدقتها العالية. لذلك سلّط كل من الجيشين الروسي والصيني الضوء على تطوير الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية والاستفادة منها مستقبلاً.

الشتاء النووي و خطر الإبادة الجماعية

إن الشتاء النووي أخطر من الحرب النووية ذاتها. لقد ابتعد الجيشان الأميركي والروسي في الوثائق السرية التي كشف النقاب عنها عن علم الحرب النووية بشكل كامل. ففي الوثيقة التي رفعت عنها السرية بشأن التسلح النووي والحرب النووية لا يوجد فيها ذكر “للعواصف النارية” و مخاطرها. وفي حال شن ضربة نووية فإن العواصف النارية هي المسبب الرئيسي لارتفاع أعداد الضحايا خلال الضربة، ويمكن أن تنتشر هذه العواصف في مدينة تعرّضت لهجوم نووي بمساحة تصل إلى 150 ميل مربع. إن المؤسسات العسكرية التي ينصب تركيزها على القتال وكيفية تحقيق النصر في الحرب النووية لم تعطي العواصف النارية أية أهمية في تحليلاتها أو حتى ضمن مفهوم الدمار المتبادل. هناك عامل آخر أيضاً لأن العواصف النارية هي التي تسبب حدوث الشتاء النووي.

بعد وضع أسلحة القوة النووية المضادة في أوروبا عام 1983 أصدر علماء من الاتحاد السوفياتي وأميركا متخصصون بالغلاف الجوي نماذج أولية تصف مخاطر الشتاء النووي، وقد شارك علماء بارزين في أبحاث تتعلق بتغير المناخ الذي يقف على النقيض من الشتاء النووي. وقد خلص هؤلاء العلماء أنه في حرب نووية مع عواصف نارية في 100 مدينة ستكون تداعيات ذلك انخفاض متوسط ​​درجة الحرارة العالمية وفقاً لما قاله الفيزيائي كارل ساغان “ستنخفض درجات الحرارة على سطح الكوكب لمستويات قياسية”. ليتراجع العلماء عن ذلك بدراسات أخرى تفيد بأن انخفاض درجات الحرارة قد تصل إلى 20 درجة، ولكن حتى هذا الرقم مخيف. إن العواصف النارية إلى جانب أعمدة الدخان والغازات المتصاعدة نتيجة للضربة النووية ترتفع إلى طبقة الستراتوسفير والتي ستؤدي إلى منع وصول 70٪ من أشعة الشمس إلى الأرض، وبالتالي ستموت جميع المحاصيل الزراعية، بالإضافة إلى تدمير الغطاء النباتي، كما أن النتائج النووية المباشرة لن تقتصر فقط على نصف الكرة الأرضية الشمالي بل ستقضي على النصف الآخر و سينجو فقط عدد ضئيل من البشرية على هذا الكوكب.

تعرضت الدراسات التي تركز على النتائج الكارثيّة للشتاء النووي لانتقادات من قبل الجيش و المؤسسات في الولايات المتحدة، ووصفت بالمبالغ فيها. ولكن منذ القرن ٢١ بدءا من عام ٢٠٠٧ تم التوسع في هذه الدراسات وتنقيحها أكثر من مرة. وقد أوضحوا أنه حتى في حال اندلعت حرب نووية بين الهند وباكستان بنفس قوة القنبلة النووية التي ألقيت على مدينة هيروشيما اليابانية، فإن النتيجة لن تكون شتاءً نووياً قاسياً، لكن سينتج عن ذلك منع وصول أشعة الشمس إلى الأرض والتي بدورها ستزهق مليارات من الأرواح .كما أنه في حال اندلاع حرب عالمية وفقاً لما أظهرته الدراسات سيكون الشتاء النووي قاسياً أو حتى أسوأ مما ذكر في الدراسات بثمانينيات القرن الماضي. إن هذه الحرب النووية ستبيد البشرية مع بقاء أعداد ضئيلة منها في نصف الكرة الجنوبي والنتيجة ستكون إبادة جماعية لكوكب الأرض.

في بادئ الأمر ظنّ ماكنمارا أن القوة المضادة فكرة جيدة لأنها كانت قائمة على عدم استهداف المدن بحيث تهاجم الولايات المتحدة فقط ترسانة الخصم النووية،  لكن سرعان ما تبدل ذلك لأن معظم مراكز القيادة والتحكّم أصبحت داخل المدن أو على مقربة منها، ولا توجد طريقة أخرى يمكن تدمير هذه المراكز إلا عن طريق مهاجمة المدن التي تتواجد فيها. علاوة على ذلك، لا توجد طريقة يمكن من خلالها تدمير قوة الردع النووي على الجانب الآخر بشكل كامل، كما أنه بإمكان جزءاً صغيراً من الأسلحة النووية تدمير المدن الكبيرة برمتها. إن التفكير بخلاف ذلك هو السعي وراء خيال خطير يزيد من فرصة نشوب حرب نووية عالمية تبيد البشرية. وهذا يعني أن المحللين البارزين في الشأن النووي المتعمّقين في عقيدة القوة المضادة سيوصلون العالم إلى حافة الهاويّة. يتظاهر مخططو الحرب النووية بأنهم قادرون على تحقيق الانتصار في الحرب، ولكن أصبحنا على دراية بأن “الدمار المتبادل” في هذه الحرب أقل ضرراً و تأثيراً من الحرب النووية وما يرافقها من عواصف حرارية. فحرب الدمار المتبادل النووية قد ينجم عنها ملايين الضحايا بين الطرفين، إلا أن الشتاء النووي يعني إبادة البشرية جمعاء.

إن تبني استراتيجية القوة المضادة و السعي نحو القدرة على توجيه الضربة الاستباقية للخصم أو التفوق النووي يعني أن سباق التسلح النووي أخذ في النمو بغية التخلص من حرب الدمار المتبادل النووية، ولكن في الحقيقة من شأن ذلك القضاء على الجنس البشري. وعلى الرغم من محدودية الأسلحة النووية إلا أن “تطوير” هذه الأسلحة و خاصة من قبل الولايات المتحدة موجّه نحو إنشاء قوة مضادة والقدرة على شن الضربة الاستباقية، وبناءً على ذلك انسحبت واشنطن من المعاهدات النووية مثل معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية ومعاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى. لقد كان ذلك بمثابة تحقيق البنتاغون للتفوق النووي. ورغم انسحاب واشنطن من جميع المعاهدات النووية إلا أنها في الوقت ذاته كانت على استعداد لتقليص حجم الأسلحة النووية حيث تركز استراتيجيتها على القوة المضادة وليس على استهداف المنشآت الحيوية المدنية.

وأخيراً اعتقد أنه من المهم استيعاب محورين للاستراتيجية الإمبريالية الكبرى للولايات المتحدة و حلف شمال الأطلسي بغية فهم سبب اعتبار الكرملين روسيا في خطر، ولماذا تصرف على هذا النحو، بالإضافة إلى أنه لماذا تشكل هذه الحرب بالوكالة خطراً على العالم بأسره. إن ما يتوجب علينا إدراكه هو أن السباق نحو السيطرة على العالم هو الذي أوصلنا إلى حرب نووية عالمية ترافقها عواصف حرارية خطيرة ستبيد البشرية. و لتفادي هذا السيناريو يتوجّب إنشاء تكتل عالمي حيوي من شأنه نشر السلام و الحفاظ على البيئة و تعزيز التشاركيّة.

المصدر: مستر أونلاين

ترجمة: المركز الكردي للدراسات

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد