الجيوش والأسواق والمذاهب .. التدمير الكلي والبناء الانتقائي

حسين جمو

في العام 1989 كانت إيران قد خرجت للتو من حرب طاحنة مع العراق وتضع خططاً لما يمكن إعادة إعماره. بعد تجرع إيران “كأس السم” على حد وصف آية الله الخميني، وهو التعبير المؤلم عن قرار إيقاف الحرب، كان المجتمع، كما الدولة، منهكاً.

في تلك الأجواء المحبطة لمشروع “تصدير الثورة” الذي شكل الأساس الأيديولوجي لبدء الحرب بين الدولتين، عبّر الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني (بداية تسلمه منصب الرئاسة عقب انتهاء الحرب مباشرة) عن مشروع، سرعان ما بات طي النسيان. لاحقاً حل مصطلح “حلم” محل “المشروع” في التناول الإعلامي لهذه الفكرة. كان رفسنجاني يحلم بمشروع إعادة إيران إلى ما أسماه “قلب طريق الحرير”، في استعادة معاصرة للتاريخ التجاري الذي أعطى للإمبراطوريات الإيرانية المتعاقبة أفضلية إقليمية ودولية. لم يلفت هذا المصطلح البرّاق الانتباه في ذلك الحين خارج تفسيرات الدعاية السياسية.

لاحقاً لم تعد السلطة في إيران تستخدم هذا الاسم لنهضتها المتخيّلة، مع ذلك اتخذت كل ما يؤدي إلى تحقيق مضمونها، بدون الاسم. لم يعد اسم “قلب طريق الحرير” جزءاً من الخطاب الإعلامي للدولة الإيرانية. سهّل السير في المشروع، بدون تأطيره في اسم، إطلاق نعت خارجي على شبكة السياسة الخارجية الإيرانية، فحلّ مصطلح “الهلال الشيعي” كتعبير مضاد لمشروع النهضة الإيرانية، المتواري خلف أجندة تبشيرية و توسعية دينية.

“الهلال الشيعي” مصطلحٌ مدوٍّ أطلقه الملك الأردني عبدالله الثاني، بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، ليصف الأطماع الإيرانية في دول المنطقة، وكيف أنها تسعى إلى تعزيز نفوذها في بغداد ودمشق وبيروت، لتشكيل “هلال شيعي”. رافق ظهور هذا المصطلح شائعات مقلقة في الدول السنّية عن نشاط حركة التشيع الإيرانية عربياً في المجتمعات المذهبية الأخرى، كما أضفت الحرب بين الميليشيات السنية والشيعية على امتداد العراق نوعاً من “الواقعية الإعلامية” على هذا العنوان الذي ساهم في تأطير كل التوترات في المنطقة ضمن المقولات الطائفية وتغييب الأبعاد الأخرى الأكثر أهمية – أو على الأقل التي لا تقل أهمية – مثل الموارد و ضمان تدفق الأموال.

إذاً،  وضع هذا المصطلح إطاراً تعريفياً رائجاً للحرب الطائفية في المنطقة منذ ذلك الحين، ولم يكن التوصيف مخطئاً، لكن – من ناحية أخرى – كان قاصراً عن الإحاطة بالصورة الكاملة لهذا “الهلال”. فقد قرأ العرب المناهضون لإيران “الهلال الشيعي” كمشروع للتوسع المذهبي التآمري دون أبعاده الأخرى، وفي الوقت نفسه صمتت إيران عن تقديم رواية موازية عدا الكلام الاستهلاكي الدعائي عن “محور المقاومة”. 

في النتيجة، ما زالت إيران تعمل على إحياء الجزء الخاص بها من “طريق الحرير الجديد” حتى قبل أن تطرحه الصين على شكل مشروع عملاق وعالمي في العام 2013. بالأحرى لدى إيران أيضاً مشروع للربط بين محاور تجارية، يتقاطع مع “الحزام الطريق”، لكنه بدأ مستقلاً.

نشر موقع Reconnecting Asia التابع لمعهد بريجنسكي للجيوستراتيجيا، خريطة في العام 2017 حول رؤية إيران لموقعها الجغرافي، واقتصرت الخريطة على تحديد مشاريع السكك الحديدية الدولية التي تربط – أو ستربط – إيران مع العالم.

قبل شهور لم يكن توقيع إيران والصين على “الاتفاق الاستراتيجي” لمدة 25 عاماً حدثاً اعتيادياً أو مجرد صفقة اقتصادية. إنه بالتحديد يهدف إلى تمكين إيران من إدارة إعادة رسم مسارات التنمية بالانطلاق من الجغرافية الإيرانية نحو الجو المنطقة، وهو مسار سيغيّر وجه المنطقة إذا ما سار كما هو مخطط له، ويمكن أن يغير وجه المنطقة أيضاً إذا لم يسر كما هو مخطط له. ومن الأفضل توضيح ذلك ليس بالتحليل السياسي، إنما بدروس من التاريخ.

القوى الكبرى بعد تيمور

أدى تأسيس المغول لممالك على طول طريق التجارة بين شرق آسيا و أوروبا، إلى ضمان تدفق البضائع ونشاط الأسواق والخانات في الشرق، لكن ليس بدون إعادة رسم خريطة النهضة العمرانية، فصعدت مدن جديدة وتلاشت أخرى.

استمر التأثير الآسيوي على شرق المتوسط، بدءاَ من الاندفاع العسكري لجنكيز خان (1165 – 1227م) باتجاه المراكز الإسلامية غربي دولة المغول، واستمر حتى حقبة القائد القفجاقي تيمور خان (تيمورلنك – 1336- 1405م) الذي بلغ ذروته في حملة السنوات السبع؛ فأغار فيها على ممالك شرقي المتوسط وتوّجها بمعركة أنقرة في 22 تموز/ يوليو 1402 حين دمر سلطنة آل عثمان وأسر السلطان بايزيد الأول. و معركة أنقرة كانت، على حد وصف المؤرخ يلماز أوزتونا، أكبر معركة في القرون الوسطى من حيث حجم الجيشين والنتائج، فقد بلغ مجموع الجيشين، وفق أكثر الروايات اعتدالاً 300 ألف جندي. لم يترك تيمور خان المنطقة بمجرد الانتصار، فقد وضع نصب عينيه على المدينة التجارية الأكثر ازدهاراً في آسيا الصغرى، وهي بورصة، فأحرقها ودمّرها، فخرجت هذه المدينة من خريطة التجارة العالمية مدة نصف قرن.

والتتار تسمية خاطئة أطلقها المؤرخون المسلمون على شعب القفجاق التركي، وهي من الأخطاء المتكررة لدى المؤرخين المسلمين في العصور الوسطى، فقد سبق وأطلقوا اسم “الفرس” على الممالك الإيرانية القديمة، و قاموا بتهجئة خاطئة لأسماء العديد من المدن.

على أن مراجعة الأثر التجاري في الحقبة “المغولية – التتارية – القفجاقية” الشاملة، من تاريخ احتلال بغداد عام 1258 وحتى مغادرة تيمورخان الأناضول وعودته إلى سمرقند عام 1403، يترك انطباعاً متناقضاً في التفاصيل؛ وهي معادلة يتبعها عادة المؤرخون الميّالون إلى الثناء على “الأثر التقدمي – التقني” للدول. فبعد تدمير تيمورلنك مدينة سمرقند وحرقها، سرعان ما أعاد بناءها بشكل أجمل من السابق، والزخارف الباقية على المساجد والأسواق القديمة اليوم هي من أعماله، وأشهرها مسجد بيبي خانم الذي بناه تيمور عام 1404 .

وفي أصفهان رد على  تمرد شعبي ضد الضرائب بقتل عشرات الآلاف في يوم واحد؛ لكن الفنون ازدهرت في الحقبة التيمورية، ويعد الوصف الذي صاغه الأكاديمي البريطاني، الإيراني الأصل، هوما كاتوزيان في كتابه “الفُرس – ص 150” في محله حين وصف آخر حكام السلالة التيمورية، ويدعى “حسين بايقرا” بأنه “كان نقشاً جميلاً في حكومة أسست على القتل والتدمير الجماعي”؛ فالمدن التي دمرّتها هذه القوة الجبارة في طريقها، سرعان ما أعيد بناؤها على أيدي القادة المدمِّرين أنفسهم. وقلّ وصف الدمار الذي لحق بمدينة من المدن مثل الذي قيل في سمرقند، مع ذلك، عادت كعاصمة تجارية مزدهرة، و مفترق طريق تجاري خلال أقل من قرن، فقوافل التجارة المنطلقة من شرقي المتوسط (بغداد – بورصة – دمشق – حلب) تلتقي في سمرقند عبر محطات طريق خراسان القديم (من أهم مسارات هذا الطريق: بغداد ، حلوان، همدان ، الري، مشهد ، ومن هناك تأخذ أحد اتجاهين، إلى خوارزم أو الصين).

على أنّ الخراب أصاب مدناً متوسطة وصغيرة لم يعمل المغول على إعادة بنائها، مثل المنطقة الممتدة حالياً بين الأنبار والجزيرة، ومنها مدينتا دارا ونصيبين. وبذا يمكن وصف تيمورلنك بأنه كان قائداً كلياً في التدمير، و انتقائياً في البناء، لذلك فإن بعض المناطق خرجت من التاريخ و الحضارة منذ التدمير المغولي سواء في حقبة هولاكو وسلالته أو تيمور وسلالته. 

 وقد كان لافتاً أن أستاذ القانون والمؤرخ العراقي، طارق حرب، قد ذكر في آخر ندوة شارك فيها قبيل وفاته بأسابيع، ببغداد، أنّ المغول حين احتلوا بغداد لم يرموا كتاباً واحداً في نهر دجلة، وذلك على عكس الرواية التاريخية الشائعة عن تحول مياه نهر دجلة إلى الأزرق، مستعرضاً أثرهم الإيجابي في الحياة الثقافية والاقتصادية ببغداد. و لعل ملاحظة حرب الاجتهادية تشير إلى حلقة مفقودة في نسبة الانهيار الاقتصادي، و تحديداً الزراعي، في بلاد الرافدين والجزيرة، على سبيل المثال، إلى الحملة التدميرية للمغول. فحصيلة معظم الدراسات للحياة الاقتصادية في هذه الحقبة لا ترفض مقولة أن الحكم المغولي استفاد من أنظمة الري الزراعية والملاحة النهرية، وطوّرها، وأفاد الزراعة. و هذا الكلام يخص بغداد وأطرافها وكذلك مراكز حضرية مثل أصفهان وهراة. لكن الدمار حصل فعلاً في ذلك العهد واندثرت العديد من المدن، وهذا يعود على الأرجح إلى الطابع الانتقائي في البناء لدى السلالات المغولية. على أنه جدير بالقول إنّ ما فعله المغول خلال احتلالهم للمدن، فعلته قبلهم كافة قوى السيطرة الجديدة، بدون استثناء، بما في ذلك حرق المدن و سبي واستعباد السكان و قتل المعارضين بالتجويع وإخلاء مدن كاملة سكانها، وهي مرويات يمكن تتبعها بتفاصيل في سرديات ديونيسيوس التلمحري خلال حكم أبناء هارون الرشيد، وابن العبري في كتابه المعرب إلى “تاريخ الزمان”. 

يبقى تيمور خان آخر أباطرة الشرق ممن أسسوا امبراطورية هيمنت على كامل ثروات الدول وخزائنها وتجارتها من حدود الصين شرقاً حتى بورصة على بحر مرمرة. وشكّل تلاشي قوة المغول في المشرق المتوسطي مقدمة لعودة التوازن مجدداً بين قوى ثلاث رئيسية، العثمانية والصفوية والمماليك، كل منها مدعومة بقوى محلية شديدة التأثير. رسم هؤلاء اللاعبون الوجه الأخير لخريطة المنطقة من الناحية السياسية. فقد هيمن الصفويون على الهضبة الفارسية و كسبوا دعم التركمان أولاً بإرادة حرة، ثم الفرس بالقهر والعنف، و سيطر العثمانيون على الأناضول وشمالي بلاد الشام وكردستان بدعم حاسم  من الكرد، و حظي المماليك بالجائزة الكبرى من حلب إلى القاهرة والحجاز.

حاجز بين امبراطوريتين

تنازع على الدوام مركزان للقوة بين وسط آسيا وأوروبا، وكأنها استعادة لملحمة الشاهنامة الإيرانية التي جمعها الشاعر الكبير أبو القاسم الفردوسي (935–1020)، وصاغها في 60 ألف بيت من الشِّعر؛ حيث تخوض قوتان حروباً لا تنتهي، إيران وطوران (بلاد الترك). لكن بينما كانت إيران في الشاهنامة تقع غربي طوران المتمركزة في سهوب شمال وشرق آسيا الوسطى؛ فقد انعكست خريطة الاتجاهات في القرن الخامس عشر، وباتت طوران تقع هذه المرة غربي إيران بعد حركة الانتقال الكثيفة للقبائل التركية والتتارية من مواطنها إلى غربي “إيران شهر”. ومع خروج تيمورلنك من المنطقة عائداً إلى الشرق لملاحقة حلمه في فتح الصين، فإنّ بلاد “آريا القديمة” كاملة وقعت تحت حكم الإمارات التركية، من الحد الشرقي الذي رسمه مؤسس الدولة الساسانية، أردشير، وهو نهر بلخ (جيحون)، إلى الحد الغربي وهو نهر الفرات (ياقوت الحموي- معجم البلدان).

سنة 1326 انتزع العثمانيون مدينة بورصة من بينزطة، وباتت هذه المدينة محطة تجارية مزدهرة. لكن في أواخر ذلك القرن، طرأ تحول جيوسياسي في الشرق مع ظهور السلالة الصفوية، وهي سلالة شديدة التعقيد: كردية الرأس، تركمانية الجيش (في مرحلتها الأولى)، شيعية المذهب، فارسية الثقافة. و واقع الأمر أنّ لأساس الكردي للعائلة – وهو مثبت نسباً إلى الأمير فيروز شاه زرين من سنجار– و الغلبة التركمانية على الجيش، لم يتركا أي أثر للكرد والتركمان، فحصيلة الدولة كانت تصب في إعادة إحياء الفارسية بمضمون شيعي. و يمكن ملاحظة انتقال العاصمة مرتين يرسم مساراً لاستقرار الحكم كامبراطورية فارسية، ففي العهد الذي كان فيه الشاه اسماعيل يتحدث لهجة الآق قوينلو التركمانية كانت العاصمة هي تبريز التي أخذت طابعاً تركمانياً وهي عاصمة أذربيجان الإيرانية، ثم بين 1548 – 1598 كانت العاصمة قزوين، وفي هذه المرحلة عملت العائلة الصفوية على حماية الحكم من خطر كانوا يتوقعونه من القزلباش، ومن عام 1598 وحتى انهيار الدولة كانت أصفهان هي كرسي الحكم، وهي المرحلة الفارسية الخالصة للدولة حيث عاد كرسي الحكم إلى مركزه التاريخي، وسط الهضبة الإيرانية الفارسية.

توسّعت الصفوية غرباً حتى نهر الفرات، وباتت كردستان كاملة تحت الحكم الصفوي قبل الحرب الكبرى مع العثمانيين، وذلك في صيغة تحالف فريد من نوعه. لقد ضمن الزعيم الكردي الأبرز، إدريس البدليسي (1457 – 1520) في تحالفه مع السلالة الصفوية، إضعاف قبيلة الآق قوينلو المهيمنة على كردستان، ولا يوجد ما يشير في كتب المؤرخين أن الشاه إسماعيل الصفوي قد أجبر الكرد السنّة على تغيير مذهبهم بالعنف والإكراه، وكانوا الاستثناء الوحيد مقارنة بالعنف الوحشي الذي مارسه الشاه، والدعاة العرب الوافدون من جبل عامل والبحرين والإحساء، لفرض التشيع على الفرس، فقد كانت الهضبة الفارسية سنية المذهب، بينما التركز الشيعي تاريخياً تمركز في ساحل قزوين الإيراني و جنوب زاغروس فضلاً عن ثلاث مدن كانت شيعية مسبقاً و هي كاشان و الريّ و قم. يمكن العثور على ملامح للخريطة المذهبية في كتاب كولن تيرنر “التشيع والتحول في العصر الصفوي” وذلك من خلال تحركات الدعاة الشيعة داخل إيران. أما الحواضر الكردية المتبنية لأحد تيارات التشيع، مثل كرمانشاه، ومندلي، فقد كانت أساساً مصدراً روحياً للتشيع العائلة الصفوية في بواكيرها الأولى، حين كانت ملامح هذا التشيع تصوفية وتأليهية لآل البيت وذلك قبل أن تأخذ طابعها الفقهي الإثني عشري “العربي”.    

بهذا التحالف، بين الإمارات الكردية والإمارة الصفوية، تخلّص الكرد من منح عائدات الضرائب والرسوم إلى سلالة تركمانية (آق قوينلو) كانت تحكم دياربكر، فكان الاستقلال الاقتصادي أبرز ثمار هذا التحالف العابر للمذهبية بين الصفوية والإمارات الكردية. لم يدم هذا التفاهم طويلاً، فقد أنهى الزعيم الكردي إدريس البدليسي خدمته في البلاط الصفوي، واختار جانب السلطان سليم الذي منح السلالات الكردية الحاكمة استقلالية وراثية ممهورة بختمه.  

لكن حالة التوازن في القوة بين الصفويين والعثمانيين أنهكت المدن والقبائل الكردية على الجانبين. فقد أدى الصراع تحت العنوان المذهبي بين الدولتين إلى حسابات غير دقيقة في الولاءات، أو ما يمكن تسميته بالمصيدة الحتمية في كل الحالات؛ ففي غالب الأحيان كان القسم الكردي السني في إيران يؤيد الحملات العثمانية ضد الصفوية، فيكون الثمن وحشياً، مثل نفي الشاه عباس الأول لـ15 ألف عائلة كردية سنية من كردستان إلى خراسان ليكونوا بمثابة حائط صد أمام غارات الأوزبك، وما زال هؤلاء الكرد يشكلون اليوم كثافة سكانية شمالي محافظة خراسان الإيرانية؛ كذلك بالنسبة للتركمان والكرد العلويين الموالين للصفوية في الجانب العثماني، و في النتيجة، رغم وجود مدن كردية قديمة في منطقة أورميه، مثل خوي وسلماس، فإنها بقيت بلدات صغيرة بسبب وقوعها على طريق الجيوش من الطرفين وليس طريق التجارة. وفي واحدة من التمردات الكردية الفاشلة عام 1604، ساق الشاه عباس الكبير عدداً كبيراً من المتمردين معه إلى أصفهان (محمد أمين زكي- خلاصة تاريخ الكرد وكردستان). ما ينطبق على مدن كردستان الصفوية ينطبق أيضاً على منطقة خراسان أقصى الشرق، فقد كانت ساحة حرب مستمرة نتيجة غارات الأوزبك، و فرّ سكانها باستمرار إلى مناطق أكثر استقراراً رغم أن خراسان، من حيث الموقع التجاري، لا بديل عنها للتجارة الدولية، و هذه الميزة – وفق نموذج خراسان- لا تصلح دائماً كوصفة شافية من الانحدار (يراجع نشوء وسقوط الصفوية – عباس الموسوي).

للتعويض عن الخسائر العمرانية من هذا القبيل، لجأ الشاه طهماسب (1524 – 1576) إلى إعفاء بعض المدن من الضرائب بشكل كامل، ومنها مدينة تبريز. ففي عهده كانت تبريز تعيش أوج نموها وازدهارها الاقتصادي، ذلك أن طهماسب أسقط عنها الضرائب ضمن سياسة التبشير بالمذهب الشيعي. لكن بما أنها مدينة تقع على طريق الجيوش، مثلها مثل مدن كردستان، فإن ازدهارها يكون مؤقتاً، وهو ما حدث حين احتلها الجيش العثماني سنة 1586 وتم خلالها حرق المدينة و سبي ما لا يقل عن سبعة آلاف امرأة “و نصب المحتلون سوقاً لبيعهن، وتحولت تبريز التي كانت أجمل المدن، إلى خرائب وأطلال” (عباس الموسوي- نشوء وسقوط الدولة الصفوية – ص 115). وفي الأناضول كادت حملات سليم الأول وابنه سليمان القانوني ضد العلويين أن تفرغ الأناضول من السكان. 

في جانب الولاءات لم ينجو كل من الكرد والقزلباش من حملات مدمرة تعرضوا لها على أيدي حلفائهم، العثمانيين والصفويين. فالمصادر التاريخية تتحدث عن فترة انفلات للقزلباش حين باتت الولاية الدينية في الدولة الصفوية في أيدي الدعاة الوافدين من بلاد الشام. وعلى عكس ما يشاع من ربط عضوي بين قبيلة “القره قوينلو” التركمانية والقزلباش، فإن القزلباشية طريقة دينية انتظمت في السلك العسكري للجيش الصفوي وباتت صفة تشمل فئات غير منتظمة في القزلباشية، وكان منهم آلاف الطاجيك الذين تسلموا مناصب رفيعة، و في الشمال دخل الأسرى الجورجيون في السلك العسكري، كذلك الكرد الذين يشكلون اليوم منطقة المذهب العلوي في تركيا. مع ذلك، كانت المرحلة الأولى من القزلباشية ذات أغلبية تركمانية كاسحة؛ لكن العائلة الصفوية والإكليروس الديني الاثني عشري لم يتيحا المجال لأي قزلباشي أن يصبح قائداً بالمعنى السياسي، ودأب الحكام الصفويون على تنظيم حملات تصفية بين فترة وأخرى كانت تستهدف التمردات وسط القزلباش التي هي طريقة أقرب ما تكون إلى اليارسانية من حيث العقائد والطقوس؛ مع تأليه علني للشاه، لذلك فهي لم تشهد استمرارية اجتماعية خارج السلك العسكري في إيران إنما في الأناضول. ويمكن القول إن القزلباشية كانت بالنسبة للجيش الإيراني الصفوي نظيراً للبكتاشية العلوية في الفرقة الانكشارية العثمانية.

طريق الحج الشيعي

تكمن ميزة الهضبة الإيرانية أنه لا بديل علي لها كطريق دولي للسلع، لذلك رغم أن الشعوب الإيرانية بقيت خارج كرسي الحكم – عدا فترات متقطعة غير مستقرة- طيلة 1400 عام (من سقوط الدولة الساسانية وحتى إعلان الجمهورية الإيرانية عام 1925)، فإن موقعها التجاري جعل محتليها يكدون في العمل على ازدهارها، كما في حقبة السلاجقة  ثم المغول والصفويين والقاجاريين. ولقيت أصفهان في عهد الشاه عباس الكبير، رعاية استثنائية؛ “فقد أمر الشاه أن تخصص مناطق سكنية من المدينة لاستيطان المسيحيين الأرمن، كما أن الأسرى الجورجيين كانوا يساقون إلى المدينة” (عباس موسوي). وليس بعيداً أنه ساهم بهذا الإجراء – أو هكاذا اعتقد الشاه – في جعل أصفهان مركز التجار الأوروبيين الذين انجذبوا إلى المدينة لأسباب متعلقة بالعلاقات التجارية. ولاحقاً، شجع الشاه عباس السكان على الهجرة إلى العاصمة أصفهان، و من بينهم عدد كبير من حرفيي وسكان تبريز، العاصمة السابقة التي كانت مزدهرة في عهد الشاه الأسبق طهماسب. كما لجأ إليها عدد كبير من الأرمن المتأثرين بالتوترات الحدودية مع العثمانيين.

يمكن ملاحظة أن المدن الكردية كانت تنمو وتتلاشى بناء على انفتاح التجارة بين الأناضول والهضبة الإيرانية، وفي كل مرة تنمو مجموعة محددة من المدن نظراً لصعوبة المسالك الجغرافية والاتصال بين الحواضر، لذلك يصدف أن مدينتين كرديتين متجاورتين، مثل سِنَهْ و كرمانشاه، لديهما نقاط قوة متباينة، فالأولى كانت عاصمة لإمارة كردية شبه مستقلة حتى منتصف القرن التاسع عشر، بينما كانت الثانية (كرمانشاه) خارج الإدارة السياسية الكردية، تاريخياً، وكذلك بعيدة عن مركز الحكم في أصفهان أو طهران، لكنها باتت أكثر ازدهاراً منذ الحقبة الصفوية؛ والفضل يعود أساساً إلى أمرين، أولاً شخصية شيخ علي خان زنكنة، وزير الشاه سليمان الأول (1666 – 1694)، فقد تسلم زنكنة الوزارة في عهد أضعف حاكم صفوي، فبرز دوره البنّاء في إدارة مصالح الدولة. و شيخ زنكنة من قبيلة زنكنة الكردية، و تسلم إدارة كرمانشاه حيث “شهدت المدينة نمواً مطرداً في البناء والعمران وتطورت لتصبح مدينة كبيرة بعد أن كانت مدينة صغيرة” (عباس الموسوي – ص 231). العامل الثاني في نمو كرمانشاه ديني؛  فقد ابتسم لها الحظ بدون عناء سياسي جراء وقوعها على طريق الحجاج الشيعة من إيران إلى العراق، ولم يزدهر طريق الحج سوى بعد فرض التشيع على الهضبة الإيرانية (الفارسية) في القرن السادس عشر، وكرمانشاه محطة رئيسية على طريق الحجاج. بينما حين كانت إيران على المذهب السني، قبل الحقبة الصفوية، فإن طريق الحجاج الرئيسي كان يأخذ مساراً آخر، من تبريز إلى أرضروم ثم حلب للالتحاق بقافلة الحج الشامي. و بالطبع طريق السلع والتجارة هو نفسه، كما كان عبر التاريخ، الطريق إلى الله.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد