الدولة العميقة ركيزة الجمهورية

في مسيرة الدولة التركية الحديثة منذ تأسيس الجمهورية عام 1923، هناك سرديتان لمسيرة الدولة، الأولى الظاهرية وهي التي ينشغل بها الأكاديميون ممن يتخصصون في الشأن التركي، ويحللون الظواهر المرئية، أي الجانب الذي تريده الدولة أن يكون متاحاً. غير أن هذه السردية تخفي ركائز فعلية للدولة في الظل، هذه الركائز هي ما درج على تسميته بـ”الدولة العميقة”، ولا يمكن الأخذ بجدّية أي دراسة تتناول سردية الدولة في تركيا بدون سبر استقصائي يقدم بعض الإجابات أو المعطيات على الأقل بخصوص السؤال: متى تتحرك الدولة العميقة في العلن؟ وما طبيعة علاقتها بالدولة الرسمية؟

يمكن طرح هذين السؤالين بعد حسم مسألة طبيعة تكوين الدولة العميقة. وقد ظهرت الدولة العميقة في عدة حوادث رئيسية إلى العلن، أبرزها في حادث “سوسورلوك” المروري عام 1996 حين كان في السيارة المتدهورة أشخاص يمثلون أربعة قطاعات من الدولة والجريمة المنظمة: وزراة الداخلية والبرلمان وميليشيا “حراس القرى” ومنظمة “الذئاب الرمادية”، والأخيرة كان يتزعمها القاتل المأجور الشهير عبدالله جاتلي الذي قتل في الحادث وكان مطلوباً لـ”الدولة الرسمية”. والحادث الأول هذا يكشف عن تركيبة الدولة العميقة، وهي ائتلاف خارج القانون بين أجهزة من الدولة والعصابات، تتحركان معاً في دائرة عليا من صناعة الأحداث، فوق الأحزاب والمكونات السياسية الرسمية للسلطة، فتكون الأحزاب (وبالتالي الحكومة) في المرتبة الثانية في إدارة البلاد، وفي المرتبة الثالثة المنظمات المطرودة من السياسة أو الواقفة على حافتها، وهي منظمات مدنية وأحزاب تقودها الطبقة السياسية الكردية.

أما آخر فصل من فصول فضائح “الدولة العميقة” فبطلها رجلان من رجال العصابات، وكل منهما لديه ملف في النيابة بوصفهما رجُلَي مافيا.

الأول يدعى سدات بكر (Sedat Peker) والآخر علاء الدين جاكجي (Alaattin Çakıcı)، رجلان من رجال المافيا التركية ممن أصبحوا جزءاً من السلطة الحاكمة في السنوات الأخيرة. وهما رجلان يحملان حقداً صفرياً تجاه بعضهما البعض، وهذه إحدى الخواص السيكولوجية في عالم الجريمة، على العكس من عالم السياسة حين يضطر الخاسر إلى التصفيق للخصم المنتصر اتباعاً لتقاليد قانون الغلبة. ولطالما كانت الجريمة المنظّمة تكويناً أساسياً في منظومة الحكم التركي، ليس فقط منذ تأسيس الجمهورية عام 1923، إنما منذ دخول كوادر الاتحاد والترقي إلى السجون، خاصة في الفترة بين 1900 – 1908، فحين خرج العديد من هؤلاء من السجون اكتسبوا أداتين للعنف، الأولى ما تعلموه خلال السجون المكتظة بالمجرمين في أولوية العنف للنجاة، والثانية اصطحبوا معهم العديد من المجرمين من السجون إلى العمل التنظيمي. في فترة مصطى كمال ومن جاء بعده، تم إسناد جزء من واجبات حماية الدولة إلى مجموعات مدنية هدفها تطبيق قوانين الجمهورية، وكان هؤلاء المدنيون أداة الرقابة الأكثر إذلالاً في المجتمع الكردي خاصة الكرد المقيمون في المدن الكبيرة غير الكردية. بمعنى، أن الحديث باللغة الكردية في حافلة نقل عام على سبيل المثال، على الأغلب يعرض صاحبه لضرب مبرح وأذى جسدي وأحيانا القتل، من دون أن يكون بالإمكان رفع شكوى على المجموعة المدنية التي هي نسخة محدثة من جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تاريخ الإسلام وحاضره. على عكس الدول الحديثة النشأة، أفسحت الدولة التركية مكاناً لتأسيس الجريمة داخل بنية الدولة، وهذا جذر أساسي لفهم تركيبة السلطة وكيف تعمل، بعيداً عن “الظواهر الفلكية” الأكاديمية ممن يأخذون السردية الرسمية على محمل الجد أو الاكتفاء بنقدها من خارجها. إن المهام التي أوكلتها الدولة لـ”الشعب” أفسحت مكاناً للجريمة المنظمة المتحالفة مع الدولة لحماية قيمها. بساطة التعبير تعكس وضوح الحالة. من هو سدات بكر وجاكجي؟ إنهما من أبناء الدولة. الأول يصافح الرئيس رجب طيب أردوغان، والثاني يأخذ صورة تذكارية مع شريك أردوغان، دولت باهجلي، بعد خروجه من السجن. والخلاف بين رجلي المافيا هو أحدث فصل من التداخل بين الدولة والجريمة المنظمة، وهو ليس جديداً من حيث أنه رافق تأسيس الدولة، لكنه الأول في حقبة حزب العدالة والتنمية، الأول كفضيحة، لأنه انقلاب أردوغان على فتح الله غولن منذ عام 2013 ما كان ليتم لولا استعانة أردوغان بمجموعة أرغنكون، فقام بتسوية قضيتهم نهائياً وباتوا جزءاً – مرة أخرى – من “أبناء الدولة”. وبدون فهم رؤية غولن لتركيا من الصعب فهم المسار الذي يسير عليه أردوغان حالياً، كما أن أي تفسير لوجود أمثال سدات بكر وعلاء الدين جاكجي في خانة “أبناء الدولة” سيكون تحليلاً من نوع التعامل مع “الظواهر الفلكية” التي يهواها أكاديميون غربيون.

شن سدات بكر في سلسلة فيديوهات بثها من خارج تركيا، ضد مختلف الجهات الحكومية عن شبكة معقدة من العلاقات بين المافيا والدولة والسياسة وأعادت إلى الذهن أحلك عقد في تركيا – التسعينيات. هرب بكر من تركيا في صيف 2020 بعد حدث هز عالم المافيا. فقد صاغ حزب الحركة القومية مقترح عفو نفذه أردوغان بحذافيره، وصمم العفو لإطلاق سراح مجموعة من زعماء المافيا المحسوبين على منظمة “الذئاب الرمادية”، الجناح الإجرامي للدولة، وهم مقربون تبعاً لأيديولوجيتهم لحزب الحركة القومية ومن أبنائها. من بين من أطلق سراحهم المنافس العتيد لسدات بكر في عالم الجريمة المنظمة، علاء الدين جاكجي. هذا التطور خلخل موقع “سدات” الذي كان يغرف من نعيم الدولة، ويحضر مناسبات اجتماعية يشارك فيها رئيس الدولة والوزراء، وينال عطاءات اقتصادية كـ”رجل أعمال”. وبمجرد خروج جاكجي بات هناك جناحان للمافيا داخل السلطة، وهو وضع كان له نظير سابق في التسعينيات، حين حدث صراع بين المخابرات الوطنية والمخابرات العسكرية على خلفية حرب الإبادة في شمال كردستان وحرق القرى واغتيال آلاف الشخصيات الكردية بفاعل “مجهول”. أما في الصراع الحالي فيبدو الأمر أكثر “مدنية” مما سبق. مع ظهور صور جاكجي مع المسؤولين بعد خروجه من السجن، وضّب سدات حقائبه وخرج من البلاد متوعداً بكشف الملفات ضد من حركوا دعاوى لملاحقته باتهامات التورط في الجريمة المنظمة والفساد. حسم الصراع لصالح زعيم المافيا المنافس، جاكجي، الذي أصبح “ابن الدولة”.

سيرة سدات وجاكجي تعكس السردية السوداء المحجوبة في مسيرة الجمهورية. فقبل أن يقدم خدماته للسلطة الحالية حُكم عليه بالسجن لمدة عام وثلاثة أشهر بتهمة “تشكيل منظمة إرهابية مسلحة”، ثم حكم عليه عشر سنوات في قضية أرغينيكون عام 2007، وبعد أن قضى ما يقرب من تسع سنوات في السجن ، أُطلق سراح بيكر بناءً على طول الفترة التي قضاها وانهيار قضية أرغينيكون بعد الصراع بين أردوغان وغولن، حيث أن الأخير كان مهندس ملاحقة “الدولة العميقة” وتدمير تنظيم أرغنكون الذي تعود جذوره إلى تحالف السلطة والجريمة في أعوام التسعينيات حين استولت الدولة العميقة على الدولة بعد وفاة الرئيس تورغوت أوزال مسموماً ومقتل الجنرال المنفتح على حل القضية الكردية، أشرف بيتلس. كان غولن ينطلق من تخطيط عكف عليه سنوات طويلة. في المحصلة أراد الاستيلاء على مفتاح “الدولة العميقة”، وتحويل ركيزة حماية الدولة من أيدي أجهزة الاستخبارات إلى الشرطة وأجهزتها.

في عام 2016 كان سدات يصيغ هوية جديدة له. فهو بات رجل أعمال ويرتجل خطابات سياسية في تجمعات انتخابية مؤيدة لأردوغان، والتقاه وجهاً لوجه في حفل زفاف، وتحدثا برهة. وشن هجمات لاذعة على فتح الله غولن ودعاة حل القضية الكردية. في إحدى خطاباته توعّد بشنق أنصار غولن في زنازينهم، وفي أخرى خاطب مجموعة من المثقفين ممن وقعوا على عريضة تطالب بحل سلمي للصراع بين الدولة وحزب العمال الكردستاني: “سوف نستحم في دمائكم”. تم رفع دعاوى عليه بخصوص الخاطبين،  فتمت تبرئته في جلسة واحدة باعتبار أن ما قاله يأتي في إطار “حرية التعبير” وتم الاكتفاء بتنبيهه إلى أن حرية التعبير تتطلب مسؤولية!

خريطة النفوذ في الدولة، بحسب مزاعم سدات بكر، الغاضب من حصول جاكجي على رعاية السلطة، ينقسم إلى تيارين. وهو يقسم العالم حسب موقع كل طرف من زعماء المافيا. فقال في مايو 2020 إن صهر أردوغان بيرات البيرق ، الذي كان وزير المالية في ذلك الوقت ، أراد “تدميره” وأنه أجبر على مغادرة تركيا إلى الجبل الأسود نتيجة لذلك. ثم في فيدوهات لاحقة ألقى باللوم على وزير الداخلية سليمان صويلو لأن الأخير وعد بحمايته ولم ينفذ وعده. رداً على هذا الادعاء، تقدم صويلو يوم الاثنين 17 مايو بشكوى جنائية ضده بتهمة التشهير والقذف، حسبما ذكرت وكالة أنباء الأناضول التركية الرسمية. وفي أحد مقاطع الفيديو، يزعم بيكير أنه عزز الدعم عبر برامج آلية على تويتر ووسائل التواصل الاجتماعي للاعتراض على استقالة صويلو العام الماضي بعد بداية فاشلة للإغلاق المرتبط بفيروس كورونا. قبل أن يوجه بكر اتهاماته في فيديو بثه في 13 مايو، استبق صويلو الأمر بوصف صديقه السابق بأنه “حثالة المافيا”. فردّ الأخير بالزعم أن صويلو أبلغه بقرب فتح تحقيقات ضده ومهّد لهروبه وعين حراساً شخصيين له من وزراة الداخلية.

بينما بات بكر مطلوباً مرة أخرى، تمكن منافسه جاكجي من وراثة نفوذه سريعاً. والتقى بوزير الداخلية الأسبق محمد علي آغار، ومسؤول المخابرات السابق كوركوت إيكين ، والمسؤول العسكري السابق إنجين آلان في في منتجع ببودروم. نبش سدات في ملفات المنتجع، واتهم أن وزير الداخلية الأسبق استولى عليه بعد مصادرته من مالكه الرسمي، رجل الأعمال الأذربيجاني موباريز مانسيموف غوربان أوغلو ،  الذي تم اتهامه أنه من أتباع غولن. واتهم نائب حزب العدالة والتنمية، تولغا آغار، بالمسؤولية عن عن مقتل الطالبة الكازاخستانية يلدانا قهرمان ، التي أبلغت الشرطة أنها تعرضت للاعتداء الجنسي قبل يوم من العثور عليها ميتة في 28 مارس 2019 في مقاطعة إيلازيغ.

هذه الفضيحة أربكت الشبكة المعقدة بين الجريمة والدولة، ولا يبدو أن السلطة الرسمية تسيطر على الوضع، في وضع مشابه لعقد التسعينيات. فبينما أبدت عائلة وزير الداخلية الأسبق، وهو أيضاً من رموز فضيحة سوسرلوك عام 1996، رفضها للاتهامات، وكذلك رد صويلو بدعوى قضائية، لم يصمت الزعيم الجديد جاكجي، فنشر رسالة عبر تويتر أمر فيها خصمه بكر بأن يلتزم الصمت، وأعطاه درساً في الأدب الاجتماعي بضرورة الحفاظ على سرية العلاقات الخاصة بين الأفراد في سلك الدولة، وتوعّد في رسالته أن “الدولة ستنظف نفسها من المتورطين في أنشطة غير مشروعة عندما يحين الوقت”.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد