أن تكون فيدراليا.. الفيدرالية في بنيتها وتعريفها

د. صلاح نيوف

بشكل عام، تعود أصول الفكر حول الفيدرالية للبلدان التي اختارت التنظيم الفيدرالي للدولة. لذلك ليس مستغربا أن تكون المؤلفات التي لديها تأثيرا كبيرا فيما يتعلق بالفيدرالية وبدمج المجتمع وفق رؤية فيدرالية هي مؤلفات متنوعة ومختلفة.

بعض الكتّاب يأخذ الفيدرالية كمرجع وإطار لعمله، يلجأ لتعميقه وتطويره وتوضيحه. والبعض الآخر يرفض ثقافة مهيمنة تتمحور حول تمركز السلطة ويطالب أو يقف إلى جانب نموذج من المجتمعات يضمن تقسيما متوازنا للقدرات.إذن، ليس من السهل العودة إلى أسس الفلسفة الفيدرالية بشكل موجز وفي نفس الوقت تقديم الخبرات الماضية أكثر من الواقع الحالي، إلى التقاليد الفيدرالية الشمال ـ أمريكية أكثر من التفكير حول التجربة الفيدرالية الأوربية. أيضا، من الصعب وضع والحفاظ على حدود واضحة بين وصف الأنظمة السياسية الفيدرالية والتفكير حول الإنسان والمجتمع. تشير الفيدرالية، وفي نفس الوقت، إلى شكل من أشكال الدولة وإلى فلسفة سياسية. هذا البعد المزدوج لا يمكن تجنبه نهائيا. عندما ندرس بنية الدولة، فنحن نبحث عن إجابة على سؤالين على الأقل. الأول، ويتركز على خصائص وطبيعة التخطيط الإقليمي للسلطة، والثاني حول خصائص وطبيعة تخطيط وظيفة وعمل السلطة.

الإجابة على هذين السؤالين هي إجابة مترابطة وذات تبعية متبادلة. الاختيارات التي نقوم بها ليست اختيارات تقنية بالمطلق، فهي تقف وراء مشروع سياسي. إنها تستند على مبادئ النظرية السياسية، وعلى مفاهيم محددة للسيادة وموقعها، ولشرعية مختلف مستويات الحكم، ولكن أيضا للمواطنة وللديمقراطية. إن نماذج التنظيم الإقليمي، في النظم السياسية الاتحادية، هي من جهة، مبادئ عامة تقوم بهيكلة المجتمع السياسي والمجتمع المدني من أجل بناء شرعية للنظام السياسي الفيدرالي حول توازن بين مبادئ المشاركة والحكم الذاتي، ومن جهة أخرى، هي نماذج لتنظيم السلطة التي تجسد هذه المبادئ داخل ترتيبات وأحكام مؤسساتية ملموسة.

في البنية والتعريف

ولد، في نهاية العصر الحديث، نموذجان متعارضان لتنظيم السلطة ـ نموذج يقوم على التمثيلية ـ وقد ولد تدريجيا: الفيدرالية في الولايات المتحدة في عام 1787 والدولة الموحدة في فرنسا عام 1791. اختارت الثورة الأمريكية لعام 1787 النموذج الفيدرالي من أجل الوصول إلى تحقيق الحرية. بينما اختارت الثورة الفرنسية لعام 1789 الوحدة القائمة على أساس يعقوبي jacobinisme جمهوري من أجل الوصول إلى هذا الهدف. يميل تاريخ النظرية السياسية إلى التركيز على أعمال الدولةـ الأمة الموحدة. مع ذلك، قام العديد من الكتّاب ببناء تقليد آخر للفكر يستند على الفكرة السائدة التي تقول بأن الاندماج الوحدوي والمركزي يشكّل الهدف النهائي لأي نظام سياسي. لقد تمّ بناء وتشييد الفيدرالية بشكل تدريجي كبديل عن نموذج الدولة الموحدة المركزية، وفي قلب النقاش حول ظاهرة الدولة منذ أعمال جان بودان (1529ـ1596) وتوماس هوبز (1588ـ1679)، وكبديل عن مفهوم الشرعية الذي كان سائدا في نفس الوقت وفي ظلك الملكيات المطلقة التي تدعي الحق الإلهي.

ضمن هذه الرؤية، جاء عمل Johannes Althusius، وقد تحدثنا عنه في الجزء الأول من البحث، الذي طوّر في عمله Politica الصادر عام 1603 مفهوما “فيدراليا” للسيادة والشرعية السياسية المستندة إلى العقد الاجتماعي وتقسيم السلطات بين مختلف مستويات الحكم. التاريخ السياسي للإنسانية هو وصف لعملية إخضاع لا يتوقف ولتمرد دائم. من يملكون السلطة يتعاقبون، يسقطون ويتم تبديلهم بآخرين. يطالب المواطنون على قاعدة من الوعي والخبرات الخاصة بالسيطرة على شؤونهم العامة، لاسيما تلك التي لها تأثير على حياتهم اليومية. حق تقرير المصير أو الحكم الذاتي هي نتاج هذه الحركات التي تهدف للانعتاق. ليس الهدف هو الانعزال عن بقية العالم، بل هو وعي بالمسؤولية، تحمل مسؤولية القيام بمهمات جماعية ضمن نطاق العلاقات الاجتماعية الطبيعية، من خلال الوسائل الخاصة والاعتماد على القوى الذاتية. علاقات اجتماعية طبيعية: صيغة الجمع هنا جوهرية.

بعيدا عن التقوقع والتخندق داخل الإيديولوجيات والفلسفات، لا يمكن تجنب أو الالتفاف إلى ما لا نهاية على الحياة في مجتمع يضم علاقات متعددة، علاقات مباشرة، محلية أو إقليمية أكثر اتساعا. لكن، أيضا، علاقات كلية من طبيعة سياسية واجتماعيةـ اقتصادية بامتياز.إن الولاء، في المقاربة الفيدرالية، تجاه المستوى السياسي الأكثر اتساعا والأكثر دمجا هو أهم من التأكيدات على الاستقلال الذاتي على مختلف المستويات في الحياة الجماعية. هذا الولاء، بعيدا عن أن يكون مفروضا بواسطة القوة المؤسسية، هو نتاج طبيعي للوعي الذي يشارك من خلال المواطنون في الفعل الاجتماعي العام وعلى مستويات مختلفة، من غير أن يكون لأي أحد مميزات وسلطة على الآخر. إذن، وفي العودة إلى مصطلح foedus الإغريقي والذي يعني الفيدرالية في المصطلح المستخدم حاليا، ويعني “التحالف/العقد/ أو الاتفاق الإرادي”، فهو لا يشكل فقط قاعدة للفيدرالية من حيت التسمية أو المصطلح، بل أيضا من حيث المعنى. يقصد به أكثر من معنى التعاقد أو التوافق، أو عقد يتم الاتفاق عليه حول قضية محددة. يلامس التحالف حتى الأسس نفسها المتعلق بالترتيب الاجتماعي.

إنه يشكّل فضاءً من العقد الاجتماعي، ليس بين ملك ورعيته، بل بين مواطنين أحرار. هذا العقد/الميثاق، المحمي والمضمون دستوريا، يحدد فضاءات التأثير والسلطات/الاختصاصات، وأيضا يحدد ويرسم حقوق المشاركة. الفيدرالية ليست نابذة: إنها تمنح الاستقلال للعناصر التأسيسية، تنظم وبشكل متزامن مشاركة هذه العناصر في اتخاذ القرار الجماعي. لهذا السبب، إن اتحادية ناشئة هي نتيجة لعملية مستمرة من النضج. ففن التوازن الذي تمارسه الفيدرالية لا يمكن الوصول إليه من خلال الدستور الواحد: يدعو هذا الفن لثقافة سياسية تنطلق من احترام التنوع والبحث عن الوحدة. لقد عرّف “جورج بوردو” التنظيم الفيدرالي للدولة من خلال مبدأين أساسيين: حكم ذاتي ومشاركة (جورج بوردو، دراسة العلوم السياسية، الجزء الثاني، 1967). يستند مفهوم الحكم الذاتي على الإدارة الذاتية التي تكون مضمونة دستوريا من قبل المقاطعات التي تشكل الفيدرالية، الأقاليم أو المناطق. كنا قد تحدثنا في الجزء الأول عن جون ستيوارت ميل وألكسي دو توكفيل والاختلاف بينهما حول موضوعنا.

مع ذلك، هناك تشابه كبير له أهمية واضحة واستثنائية فيما يتعلق بتعريف الفيدرالية ومفهومها. أن ستيورات ميل، مثل توكفيل، حدد بعض الشروط الاجتماعية الضرورية من العمل على مشروع فيدرالي وإنهائه بنجاح. استند هذا التشابه على العرق، اللغة والدين، ثم اهتمام خاص بالمؤسسات السياسية، التي، معا، أي اللغة، الدين والعرق مع المؤسسات السياسية، هي أكثر ملاءمة ” للإحساس بهوية المصالح السياسية”.لكن ستيوارت ميل، بالمقابل، ذكر شرطا آخرا ضروريا سوف نتحدث عنه لاحقا. إنه شرط الموارد المشتركة والحجم النسبي للوحدات المكونة للاتحاد/الفيدرالية.

اعتبر ستيوارت ميل أن الاتساع الإقليمي كان بكل تأكيد واحدا من الاعتبارات التي يجب الأخذ بها عندما يتم تحديد ما إذا كانت البلاد قد اختارت شكلا فيدراليا للحكم. أما مضمون دراسة ستيورات ميل هو أن هذا الاتحاد أو الفدرالية بكاملها كانت نتيجة طبيعية لشروط سياسية لبلد كبير وليس صغير. بالنسبة لستيوارت ميل، الدولة/المقاطعات التي تشكل جزء من الفيدرالية يجب ألا تكون قوية لدرجة الاعتماد على نفسها في مجال الدفاع العسكري لأنها ستعتقد في هذه الحالة أنها لا تكسب شيئا في الاتحاد مع الآخرين وأنها تضحي بحريتها في هكذا اتحاد.

“يجب ألا تكون المقاطعة/الإقليم الفيدرالي أكثر قوة من المقاطعات الأخرى. إذا وجدت مقاطعة على هذا الشكل فإنها ستتحكم بالآخرين، وإذا وجد مقطعتان قويتان فسيكون من الصعب مقاومتهما في حالة اتفقتا معا، وإذا اختلفتا فسيؤدي ذلك إلى تناحر أو صراع على القوة”. تأتي أهمية الدراسات التي قدمها ستيوارت ميل من حيث فائدتها في التركيز على الشروط المسبقة لإقامة الفيدرالية وأهميتها الكبيرة من بين جميع الدراسات الأخرى التي قدمت حول الفيدرالية. كان Freeman أستاذ التاريخ الحديث في جامعة أكسفورد، تم تكليفه بتقديم دراسة حول ممارسة الحكومة الفيدرالية على مرّ التاريخ، والتي تعود إلى العصر اليوناني والمدن الإيطالية في العصور الوسطى.

كتب فريمان كتابا وقدم العديد من المقالات حول الفكرة الفيدرالية، في إيرلندا والإمبراطورية البريطانية، وتعتبر دراساته حول الفيدرالية الحديثة من الدراسات الأكثر أهمية التي صدرت في بريطانية. وفي كتاب كلاسيكي حول الفيدرالية وبعنوان ” مشكلة الليبرالية: دراسة في النظرية السياسية” نشر عام 1931، تمت الإشارة إلى أن دراسات فريمان حول الفيدرالية كانت الأشمل والأوسع حول الفكر الفيدرالية في تاريخ الحكومات. [A Study in the History of Political Theory Sobei Mogi ]. يعتبر فريمان نفسه مؤرخا للفيدرالية، لكنه كان نوعا خاصة جدا من المؤرخين. على الخلاف من ألكسي دو توكفيل، في كتابه ” الديمقراطية في أمريكا”، كان فريمان تجريبيا جدا بمعنى عداوته لكل النظريات الاستنتاجية أو الفلسفية في السياسة ومؤيد ” للمنهج المقارن” في التاريخ والسياسة.

ومن يقرأ فريمان يعرف إلى أي حد أصبحت رؤيته وفكره حول الفيدرالية أصبح يقدم الكثير من المعلومات الجديدة حتى اليوم. كانت عقيدة فريمان السياسية هي الأفكار السائدة في أوساط القرن التاسع عشر في إنكلترا ” القومية الليبرالية”، اعتقد فريمان أن العمليات المعاصرة لتعزيز قوة الدولة والاندماج الوطني يجب أن يضم أو يدمج الفكر الفيدرالية من أجل التوفيق قدر الإمكان بين الخصوصيات والدولةـ الأمة. إذن، كان تصوره ومفهومه للفيدرالية كتسوية أو حل وسط، حل وسط بين ما أسماه فريمان ” بالمتطرفين”. ” نتحدث عن حكومة فيدرالية عندما يطرح السؤال حول إذا كانت عدة مقاطعات/دولة/ولايات صغيرة يجب أن تكون مستقلة كليا أو يتم تجميعها داخل دولة واحدة كبيرة. إن العلاقة الفيدرالية في هذه الحالة تقوم بالتوفيق والمواءمة بين المبدأين بحيث نضمن حجما معينا من الاتحاد ودرجة معينة من الاستقلال. إذن، الحكومة الفيدرالية هي وسيلة توفيقية بين نظامين من الدولة الكبيرة والدول الصغيرة. وفي الدولة الكبيرة أو الصغيرة أو الدولة ما بين هذين النموذجين ” الدولة الفيدرالية” يمكننا اختيار النظام السياسي الأنسب”.

وفق فريمان، كانت الاتحادية federation، آلية للتسوية بين قوتين سياسيتين متعارضتين حول تصنيف شكل نظام الحكم. جاءت كحل وسطي يجمع بين مزايا الدولة الكبيرة، السلام والنظام والرفاه العام، مع الدولة الصغيرة حيث التنمية واستقلالية المواطنة. واختتم فريمان بالقول أن الاتحاد الفيدرالية كان الأكثر اكتمالا وانتاجا للبراعة السياسية. بالإضافة للتقليد الليبرالي في الفكر السياسي الإنكليزي الذي كان من بين مفكريه كلا من ستيوارت ميل و فريمان، من المهم التحدث عن ” جيمس بريس” أثناء تحليلنا المفهومي والمنهجي. كان ” جيمس بريس” أستاذا في القانون المدني في جامعة أكسفورد وعالم سياسة مؤثر جدا. كان ليبراليا ووصل إلى أعلى منصب حكومي في بريطانيا عام 1890، وفي نفس الوقت متخصصا محترما في تاريخ الإمبراطورية الرومانية والجرمانية وقد نشر عنها كتابا في عام 1864.

لقد كانت مشاركته في أدبيات الفيدرالية الأنجلو ـ سكسونية من خلال نشره لعمله المؤلف من جزأين حول ” الكومونولث” Commonwealth الأمريكي في عام 1888. يظهر لنا أنا جيمس بريس لحق بألكسي دو توكفيل عندما ذهب في عام 1880 لدراسة الحياة الاجتماعية والسياسية في الولايات المتحدة، لكن في الواقع لم يحصل ذلك. جرّب جيمس بريس شيئا مختلفا.

لقد أراد دراسة مجمل النظام السياسي في الولايات المتحدة من خلال النظرية والتطبيق. إذا نحينا جانبا انطباعاته العامة حول الكومونولث الأمريكي، فإن آراءه حول نقاط ضعف وقوة النظام السياسي الفيدرالي بشكل عام لا تزال تقرأ حتى الآن. أشار في الفصلين 29 و30 من مجلده الأول، وبشكل خاص للأسس الفكرية لاستعراضه للحكم الفيدرالي وقدم إطارا مثاليا للتحليل الذي يفيد ويطوّر الفيدرالية نفسها.

حدد جيمس بريس عيوب عامة تصيب ممارسة وتطبيق النظام الفيدرالي مقارنة مع الحكومات الموحدة:

1ـ الضعف في ممارسة السياسة الخارجية.

2ـ ضعف في إدارة المؤسسة الفيدرالية نفسها، أي العلاقة مع المقاطعات التي تتشكل منها الفيدرالية والعلاقة مع مواطنيها.

3ـ المسؤولية عن تفكك أو تمرد بعض المقاطعات.

4ـ المسؤولية عن تقسيم الاتحاد إلى مجموعات متميزة من الدول/المقاطعات التي يتشكل منها الاتحاد أو الفيدرالية.

5ـ غياب التشريعات في بعض المسائل التي يجب أن يكون فيها التشريع موحدا في جميع أنحاء الفيدرالية.

6ـ المصاريف والمتاعب والتأخير بسبب وجود نظام مزدوج في التشريع والإدارة. هذه النقاط التي تشير إلى ضعف مفترض من قبل جيمس بريس أصبحت في قلب النقاش الفكري المعاصر حول تحليل الفيدرالية.

يتبع

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد