الإسلام السياسي: الظهور.. والماهية

طارق حمو

من المهم البحث في بدايات ظهور الإسلام السياسي كفكرة ومصطلح وجد طريقه للحياة العامة عبر الجماعات والتنظيمات والحركات السياسية الحركيّة، من التي تهدف للوصول إلى الحكم والإدارة، كما تقول ذلك علانية في برامجها المطروحة وعملها الملموس. ولا بد من التنويه بأن المؤسسة السياسية الحاكمة في بلاد المسلمين، ومنذ السنوات الأولى لانتشار الدعوة الإسلامية، تعكزت على الدين ونصوص القرآن والسنّة، من أجل تثبيت حكمها مدعوما بالشرعية الإلهية، بغرض إجبار الناس على الخضوع لها، ولهذا بدا لنا الإسلام كدين ودعوة سياسيا بامتياز، وبدا من الصعوبة تحديد توقيت ظهور فكرة الإسلام السياسي المتجردة كما هي الآن عليه، وذلك لأن “جميع السلطات السياسية التي ظهرت في أرض الإسلام منذ عام 632 م كانت قد نسبت نفسها إلى تعاليم القرآن والنبي وادعت المسؤولية العليا في حماية هذه التعاليم، فإن ذلك قد أدى إلى تشكل نظرة إجبارية (قسرية) تقول بأن الإسلام هو دين ودولة (عالم دنيوي) لا ينفصمان(1)

ويذهب بعض الباحثين بان السلفية الإسلامية، كفكرة وحركة دينية/ سياسية، هي التي تصدت للأفكار الفلسفية الناتجة عن كتابات أهل المنطق والكلام، وحركة الترجمة، ونشاط المعتزلة، في العصر العباسي، حيث رغبت في وقف هذا الانفتاح وإعادة الإسلام إلى ما تقول إنها أصوله، وإبقاء مقاليد الحكم والسيطرة في معظم شؤون الحياة العامة في يديه، وكانت الحركة السلفية قد “بدأت في العصر العباسي، كتيار فكري محافظ، تحصّن أعلامه بظواهر النصوص والمأثورات، عندما علا سلطان العقل، وأصبح فكر المعتزلة العقلاني أهم قسمة تميزت بها الحياة الفكرية يومئذ في الإمبراطورية العربية الإسلامية، ذلك أن السلفية قد رأت الأخطار محدقة بصورة الإسلام الأولى، التي ناسبت مدارك الإنسان العربي في عصر البعثة، يوم كانت بساطة البيئة وفقر المجتمع يجعل النصوص والمأثورات كافية في الهداية والرشاد واليقين، بل لقد رأت السلفية أن صورة الإسلام تلك قد أصبحت غريبة في مجتمع أخذ يتفلسف، ويقدم عقائد الإسلام على نحو ما يقدم الفلاسفة النظريات، فنشأت وتبلورت لتعيد الإسلام إلى صورته الأولى، وبساطته الأصلية، رغم ما طرأ على المجتمع من تغيرات وتطورات”(2).

ومن خلال الكلام أعلاه، يمكن لنا أن نثبت هنا بأن عملية تسييس الإسلام حدثت على فترتين، منها فترة قديمة، في العصر العباسي، عند ظهور الإمام أحمد بن حنبل، ومن بعده تلامذته مثل أبن تيمية وابن قيم الجوزية، ومن ثم محمد بن عبد الوهاب، حيث توطيد الفكر السياسي للإسلام السنّي والتمسك بالأصول ورفض كل جديد وكل اجتهاد.

 وفترة أخرى معاصرة، وهي فترة تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وظهور أبو الأعلى المودودي في باكستان، واجتهادات سيد قطب وحسن البنا، وظهور الجماعات والتنظيمات الجهادية التي تعتمد على التفسيرات المتشددة للإسلام السياسي السنّي. في العصر العباسي ظهر الإمام ابن حنبل، وهو الذي أطلق في كتبه ومؤلفاته مجموعة من الأفكار تدعو كلها إلى “العودة إلى الإسلام” أو “التمسك بما سنّه السلف” والسير خلف منهجهم، وكان ذلك بسبب التوسع الإمبراطوري الإسلامي ودخول شعوب جديدة في الدين الإسلامي، بدأت باستخدام علومها ومناهجها الفلسفية والكلامية في التعامل مع النص القرآني، وهو ما رفضه ابن حنبل، واضعا مقولات ثابتة للتعامل مع هذه الظواهر، تتسلح بالتمسك بالأصول والعودة إلى منهاج السلف الصالح، ” ونحن إذا شئنا تكثيفا لمقولات الحركة السلفية، كما صاغها إمامها الأول احمد ابن حنبل، في مواجهة ما رآه بدعا ومحدثات جعلت الإسلام غريبا، وجدنا هذه المقولات والعقائد:

 أولا: الإيمان: قول وعمل…وهو يزيد وينقص، تبعا لنقاء العقيدة أو شوبها، وتبعا لزيادة العمل ونقصانه. ثانيا: القرآن: كلام الله وفقط. فليس بمخلوق ـ كما تقول المعتزلة ـ وليس شريكا لله في قدمه، كما يزعم المعتزلة نفاة خلق الله. ثالثا: صفات الله: التي وصف بها نفسه وأثبتها لذاته، نصفه بها ونثبتها لذاته، على النحو الذي وردت عليه في النصوص والمأثورات، لا نلجأ في بحثها إلى رأي أو تأويل. رابعا: عالم الغيب: لا ينبغي أن نخوض في بحث أي شيء منه، بل يجب أن نفوض حقيقة علمه إلى الله سبحانه. خامسا: رؤية أهل الجنة لله: عقيدة حق يجب أن يؤمن بها المؤمن، دونما تأويل أو تمثيل، كما وردت بها ظواهر النصوص. سادسا: علم الكلام: منكر.. منكر..الاشتغال به منكر، وأخذ العقائد بأدلته منكر، بل ومجالسة أهله منكر، مهما كان دفاعهم به عن الإسلام. سابعا: القضاء والقدر: لا يكتمل بهما الإيمان…وهما من الله.

 ثامنا: الذنوب الكبائر لا تجعل المؤمن كافرا، ولا تخلده في النار: على عكس قول الخوارج في الأمرين، وقول المعتزلة في الثاني. تاسعا: خلافات الصحابة: لا يصح الخوض فيها، بل يجب العدول عن ذكرها، والوقوف عند محاسنهم وفضائلهم. عاشرا: ترتيب الخلفاء الراشدين في الفضل: وفق ترتيبهم في تولي الخلافة. حادي عشر: وطاعة ولي الأمر واجبة: حتى ولو كان فاجرا فاسقا، والثورة عليه منكر لما تجلبه من الأخطار وتعطله من مصالح الناس في حياتهم اليومية. ثاني عشر: والفرائض والمعاملات والجهاد: نؤديها ونمارسها على النحو التي جاءت به النصوص في القرآن والسنّة”(3).وفي المقولات الحنبلية أعلاه تظهر الجذور الأولى لفكرة الإسلام الأصولي المتشدد، الذي يرفض البحث والفلسفة وعلم الكلام ويقدس النص ويحرم النقاش فيه، ويٌلزم الرعيّة/المواطنين على الطاعة التامة للحاكم، حتى وأن كان فاسدا، ومنع الخروج عليه أو الثورة ضد بوصف ذلك “مفسدة قد تجلب الويلات للأمة”.  ولتتبع جذور الإسلام السياسي، كحراك فكري وتنظيمي استقت منه الجماعات المسيسة أفكارها لاحقا، لا بد لنا من الإشارة إلى العاملين في نشر الفكر الحنبلي، بوصف ابن حنبل واضع أصول التشدد الديني والتمسك بروح النصوص وعدم التسامح في الاجتهاد ومعاداة الحرية الدينية والفكرية. وقد انتشر هذا الفكر على يد رموزه منذ اكثر من ألف عام إلى زماننا الحاضر، حيث ٌطٌعم في كل عصر بعلماء أضافوا له “قواعد” جديدة وقادوا حركات اعتمدت على أفكار السلف وأصول الدين، وتثبيت الإسلام كدين وشريعة في قلب الحكم والسياسة، وعليه فإن ” ورواد الفكر السلفي هم، في الحقيقة، الحنابلة وفي مقدمتهم ابن تيمية (1263ــــــ1368) وابن قيم الجوزية (1292ــــــ1350)، ويلقب ابن تيمية بمجدد القرن السابع.

والتجديد هنا هو العودة إلى الإسلام في نقائه قبل أن يتلوث بالبدع. ويعني ذلك أن الإرادة الإلهية لن تتحقق باتباع الشريعة كوسيلة لخلاص الفرد، ولكن بتأسيس مجتمع فاضل بفضل الإرادة الجماعية للأمة. وسرعان ما تأثرت الحركة السلفية بالوهابية التي ظهرت في المملكة العربية السعودية بزعامة محمد بن عبد الوهاب ومهدت للسلفية في مصر والهند وإندونيسيا(…)، وشعارها لا سلطان إلا القرآن والسنّة، ولا عقيدة سوى التوحيد. وبظهور الإخوان المسلمين تسيّس الإسلام، ورٌفع شعار: القرآن دستورنا، الجهاد طريقنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا”(4).وقد ظهرت جماعات كثيرة في تاريخ الإمبراطوريات والدول الإسلامية، حملت لواء الإصلاح الديني أو السياسي، بهدف إنقاذ الدين أو الأمة من الواقع الذي تعيشه، وعليه فان “الحركات الدينية المعاصرة لم تولد من فراغ، فقد كانت بذرتها موجودة على الدوام. وسواء نظرنا إلى العالم العربي أو الإسلامي، فسوف نكتشف أن الدين استٌخدم مرارا كعامل استقطاب واجتذاب للجماهير، أو لمقاومة طغيان السلطات، أو للتصدي لعمليات الغزو والاحتلال، لاسيما في العصور الحديثة. وكانت الحركة الوهابية أبرز الحركات الإسلامية التي تكرر ظهورها في أماكن عديدة من العالم الإسلامي، كالهند وإندونيسيا وشمال أفريقيا، وبخاصة عندما اشتد ضغط عمليات التوسع الاستعمارية بقيادة إنكلترا وفرنسا وهولندا وروسيا القيصرية.

 وبينما رأت الحركة الوهابية السلفية مأساة المسلمين في “عدم نقاء العقائد وانتشار البدع بينهم وابتعادهم عن الوحدانية الصحيحة” فإن السيد جمال الدين الأفغاني ـــــ ومن تأثر بفكره ـــــ نظروا إلى المشكلة من زاوية أخرى، وهي تفكك العالم الإسلامي في وجه الغرب والاستعمار الأوروبي، فركزوا على الدعوة إلى تعزيز وحدة هذا العالم ضمن رابطة أو جامعة إسلامية، تجعله اكثر قدرة على الدفاع عن نفسه”(5).ويمكن القول أن رفض الواقع السياسي والرغبة في تغييره بما يتناسب مع الشريعة، من منظور ووجهة نظر هذه الجماعات، كان الباعث الأقوى وراء انطلاقة هذه الجماعات وطرحها لمشروعها في تسييس الإسلام. و من هنا “ترى الجماعات الأصولية أنها تستند إلى الأسس التاريخية التالية:1ـ القرآن الكريم.2ـ السنّة النبوية.2ـ كتب التفسير والفقه، المنسوبة إلى: ابن حنبل”المتوفي 855م”، وابن تيمية “المتوفي 1368م”، وابن قيم الجوزية “المتوفي 1350م”، وابن كثير في تفسيره، “المتوفي 1373م”. ويمكننا إضافة آخرين إلى هذه المرجعية المعتمدة من قبل جماعات الأصولية المصرية وهم:أولا: محمد بن عبد الوهاب النجدي ـ المتوفي 1791م. ثانيا: جمال الدين الأفغاني ـ المتوفي 1897 م.

ثالثا: محمد عبده ـ المتوفي 1905م.رابعا: محمد رشيد رضا ـ المتوفي 1935م”(6).وبعد تضعضع السلطنة العثمانية وانهيارها، ووقوع بلاد المسلمين المجزئة المشتتة في أيدي الدول الأجنبية غير المسلمة، بما عٌرف بفترة الاستعمار الغربي، ظهرت حركات العصيان والتمرد ضد حكم هذه القوى الاستعمارية الأجنبية، وكانت معظمها تستند إلى الدين الإسلامي وترفع لوائه من أجل حشد الجماهير وصبغ حركة التمرد والثورة بصباغ ديني جهادي مقدس، ومن هنا فقد “ظل تاريخ الإسلام حتى وقت قريب يشهد دعوات متكررة ينصّب القائمون عليها أنفسهم مدافعين عن الدين ضد كل خطر أو انحراف، مع إدانة المجتمع أو الدولة بالانحراف الذي يحتاج إلى تقويم وإصلاح. واستمر هذا الأمر حتى فجر الحداثة، حين ظلت أنحاء دار الإسلام تشهد هبات إصلاحية تهدف إلى إصلاح ما تهدم من شأن الدين وبعث ما اندثر من أمره”(7).

 ويعد سقوط السلطنة العثمانية، والتي كانت تدعيّ خلافة المسلمين، وإلغاء الخلافة على يد مصطفى كمال أتاتورك تفاعلت الآراء الصحويّة الداعية لإقامة الخلافة وأحكام الإسلام محل القوانين والنظم الوضعية المستوردة من الغرب، وعليه فقد “اكتسب التأكيد على السياسي في الدين الإسلامي قبولا نتيجة لسقوط الدولة العثمانية، أو بالأصح إلغاء الخلافة في عهد كمال أتاتورك(…). وكانت حركة “الإخوان المسلمون” في مصر التي تأسست عام 1928 هي أولى ردود الفعل بسبب وضعية مصر المتميزة إسلاميا( وجود الأزهر مثلا). كما ظهر لأول مرة في نفس الفترة والمكان شعار “الإسلام دين ودولة” والذي استعمله الدكتور عبد الرزاق السنهوري في مطلع بحث له في مجلة “المحاكاة الشرعية” في أكتوبر 1929. ومن هنا يتضح بان الشعار حديث وليس له أصل في الإسلام، ولكن الظروف التاريخية كانت تحتاجه. وضمن نفس الصراع أصدر الشيخ علي عبد الرازق كتابه (الإسلام وأصول الحكم) عام 1925″(8).  وثمة مميزات وخصائص لجماعات الإسلام السياسي، هي التي تميّزها جميعا وتدرجها في خانة الإسلام السياسي الذي ينشد الحكم والإدارة لتطبيق الشريعة والاعتماد الكلي عليها، وحل القوانين الوضعية والنظام الديمقراطي، وهذه العناصر الرئيسية التي تصلح في كل زمان ومكان لتحديد ماهية حركة الإسلام السياسي، هي: ” أولا: التأكيد على أن السياسة جزء من الإسلام، وأن العمل السياسي فرض على كل مسلم. ثانيا: الإدعاء بأن جماعته ( كل جماعة تأثرت به أو انشقت عنه) هي جماعة المسلمين، وما تقوم به هو الإسلام الصحيح، وهو أمر يعني أن من ليس من هذه الجماعة ليس من جماعة المسلمين بل هو خارج عن الإسلام، وربما كان مهدر الدم والمال والعرض، كما يعني ان من لم يعتنق كل مبادئ الجماعة، بلا نقاش أو جدال أو تفهم أو تعديل، يٌعد مرتدا عن الإسلام يستوجب عقاب المرتد. ثالثا: فرض الآراء والقرارات والاتجاهات بالقوة والعنف والاغتيال والحرب الذي يسمونه جهادا في سبيل الله”(9).

وبالنظر إلى الفترة المعاصرة وظهور جماعات الإسلام السياسي الحديثة، من تلك التي لجأت إلى العنف والسلاح لتغيير الأنظمة العربية أو التصدي للاستعمار والتدخل الأجنبي، يٌشير بعض الباحثين إلى حقبة الثمانينات كانطلاقة معاصرة للإسلام السياسي وجماعاته، فهذه الحقبة شهدت أحداثا كبيرة وجسيمة منها ظهور الدولة الدينية الإسلامية في إيران وتجمع الجهاد العالمي في أفغانستان وتحركه ضد التدخل العسكري السوفييتي، وبداية احتلال جماعات الإسلام السياسي للفراغ الذي حدث إثر تضعضع فكرة القومية العربية وخفوت بريقها بعيد فشل الخطاب القومي والهزائم المتكررة التي مٌني بها فكريا وعسكريا، ومن هنا فقد “كانت بداية عقد الثمانينات، أي عقب الثورة الإيرانية مباشرة، هي نقطة انطلاق الباحثين للاهتمام المكثف بدراسة ظاهرة الحركات الدينية والمد الديني(..)، كما وتزامن صعود الحركات الإسلامية السياسية مع انحسار المد القومي، التقدمي وتراجع المشروع العربي للاستقلال السياسي والاقتصادي بسبب عوامل ذاتية أهمها غياب الديمقراطية وقيادة البرجوازية البيروقراطية للمرحلة بالإضافة للاشتداد الهجمة الإمبريالية من خلال رأس رمحها في المنطقة الكيان الصهيوني”(10).

ويحدد الباحث الفرنسي جيل كيبل، فيما يتعلق بظهور وتوطيد الإسلام السياسي كحراك واضح المعالم وله أهداف محددة يعمل بشكل منظم لتحقيقها، حقبة الستينيات كانطلاقة حقيقية له، “ظاهرة الإسلام السياسي قد تبلوّرت بشكل اكثر وضوحا اعتبارا من الستينيات، حيث ساهمت أفكار المنظرين الإيديولوجيين مثل الباكستاني أبو الأعلى المودودي والمصري سيد قطب والإيراني روح الله الخميني في تأطير الإسلام السياسي وتحديد أهدافه ورؤاه وتثبيت أقدامه في المجتمعات الإسلامية. وبدأ الترابط الإسلامي يظهر لأول مرة وبشكل قوي وفعلي عندما قطعت العربية السعودية النفط على الغرب في حرب أكتوبر 1973 بين إسرائيل والعرب. وكانت الضربة الأخرى التي قوّت من عضد الإسلام السياسي هي انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 على نظام الشاه، تلك الثورة التي رفعت شعار تصدير الثورة وبدأت بالعمل على نشر التشدد الديني ودعم الحركات الإسلامية.

وهو الفعل الذي فعلته السعودية باعتبارها بلاد الحرمين المقدسين، حيث موّلت الحركات الإسلامية عبر العالم. واصبح القطبان السعودي والإيراني يؤثران على الدول الإسلامية ويدفعانها لاعتناق تفسير محدد للإسلام. وحدث ذلك مع مصر وباكستان وماليزيا. وظهر مصطلح الإسلام السياسي لمحاربة الفكر الاشتراكي. وطبعا مرت هذه السياسة ببعض الكبوات، مثل مقتل الرئيس المصري أنور السادات عام 1981 على يد أحد أفراد جماعة “الجهاد” الإسلامية المتطرفة”(11).واستخلاصا لما سبق من تتبع لبزوغ ظاهرة الإسلام السياسي كما نعرفها اليوم بوصفها جماعات وحركات وأحزاب وقوى منظمة، منها ما هو محلي، ومنها ما هو كوني عولمي عابر للقارات، يمكن التأكيد على أن الإسلام السياسي ظهر منذ عصور الإسلام الأولى على شكل أفكار ومبادئ وتصرفات من المؤسسة الحاكمة والاتجاهات المتصارعة على تثبيت تفسير محدد للدين الإسلامي في الحياة العامة بوصفه محركا ومسّيرا لكل مناحي الحياة، وكان الفقهاء يساندون الحاكم عبر إصدار الفتاوى والاستناد على القرآن والحديث، وكل الإمبراطوريات والدول التي ظهرت بعيد انتشار الدعوة الإسلامية في بلاد العرب والمسلمين وحتى انهيار السلطنة العثمانية، اعتمدت الدين مرجعية لها، وتصدت لمنافسيها أيضا عبر استخدام الدين والتمسك بالشرعية الدينية عبر مؤسسة كبيرة من الفقهاء والمنظرين. كما وتم محاربة الأفكار التنويرية من اجتهاد وعلم كلام وفرق المعتزلة والفلاسفة عبر التشدد الديني ونزعات التكفير.

 وفي العصر الحديث وبعد انهيار السلطنة العثمانية ظهرت جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وجماعة إسلامية سلفية أخرى في باكستان على يد أبو الأعلى المودودي، حيث رفعت، هذه الجماعات، شعار (الإسلام هو الحل) واصطدمت مع الأفكار والإيديولوجيات التي كانت سائدة وحاكمة في ذلك الحين، إلى أن جاءت مرحلة الثمانينات وظهرت الدولة الدينية في إيران وحدث الغزو السوفييتي لأفغانستان، وكان قبل ذلك قد ارتفعت أسعار النفط بشكل كبير، فهجرت الأفكار المتشددة وأهلها إلى معاقل “الجهاد” في أفغانستان، لتتحد الأصولية المصرية مع الباكستانية على تلك الأرض، ويتم التزاوج بينها عبر المال الخليجي وبمباركة من الدوائر الاستراتيجية والاستخباراتية في الغرب وبشكل خاص الولايات المتحدة الأميركية من أجل استخدام هذا “الجهاد” لإضعاف الاتحاد السوفييتي، حيث ظهرت حركة (طالبان) وتنظيم (القاعدة)، والتي تفرعت لاحقا إلى حركات محلية ذاتية الإدارة اعتمدت العنف المفرط ضد المسلمين المخالفين معها وضد الغرب طبعا، لتحقيق أهدافها السياسية في السيطرة على الحكم وتثبيت الشريعة وفق رؤية أصولية شديدة التزمت والتطرف.  أما بشأن تعريف الإسلام السياسي كمصطلح معمول به في العلوم السياسية، فقد ظهر هذا المصطلح كدلالة على الجماعات والحركات التي تستند إلى الدين الإسلامي وأفكاره، وتتخذ منه مرجعية لها في سبيل تحقيق أهداف سياسية واضحة والوصول إلى الحكم. والإسلام السياسي، هو مصطلح سياسي وإعلامي وأكاديمي سعت من خلاله هذه الحركات إلى توطيد مشروعها القائم على أن “الإسلام يصلح نظاما سياسيا للحكم”. ويمكن الحديث عن ثلاثة مستويات من “الإسلام” عند دراسة ظاهرة الإسلام السياسي وتفريقها عن بقية أنواع الممارسات للإسلام كدين وتراث وعقيدة، وهذه الممارسات هي: ” الإسلام الشعبي والإسلام الرسمي والإسلام السياسي. وفي حين يرتبط الإسلام الشعبي بآليات التدين التقليدي، حيث تكتسب “العبادة” صفة “العادة” المتكيفة مع تقاليد المجتمع المحلي وخصوصياته الثقافية والحضارية والاجتماعية، فإن الإسلام الرسمي يرتبط بالمؤسسة الفقهية المشيخيّة، التي غالبا ما تكون جهازا إيديولوجيا من أجهزة الدولة، يمكن وصفه على نحو ما بإسلام “رجال الدين”. بينما يرتبط الإسلام السياسي نظريا وحركيا بشعار الدولة الإسلامية”(12).

وسوف نتعرض هنا إلى عدة تعريفات للإسلام السياسي، ونضمن في النهاية تعريفنا الخاص، ويمكن تعريف الإسلام السياسي، كمفهوم ومصطلح، بأنه: “تعبير عن الحركات والقوى التي تصبو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية منهجا حياتيا، مستخدمة بذلك منهجية العمل السياسي الحديث القائم على المشاركة السياسية في السلطة، فكل حركة سياسية إسلامية تعتبر المشاركة السياسية منهجا تدخل ضمن هذا التعريف، وبالتالي فان كلمة سياسي في مصطلح الإسلام السياسي ليست توصيفا للإسلام بمقدار ما هي توصيف وتعريف للحركات التي تقبل بمفهوم المشاركة السياسية وخوض الانتخابات والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، حيث أن هناك العديد من الحركات والأحزاب الإسلامية التي ترفض هذه القاعدة، وهناك العديد الذين يقبلون بهذه القاعدة”(13).

وتوسع تعريف مصطلح الإسلام السياسي وتزايد الاهتمام به في الشرق والغرب، حتى أصبح ظاهرة استرعت اهتمام مراكز الأبحاث الدولية والعديد من الباحثين المختصين بحقول الاستشراق والدراسات الإسلامية، ومن هنا “انبثق مفهوم (الإسلام السياسي) الذي نظر إليه البعض من هذه الزاوية التي يسعى من خلالها إلى ممارسة السلطة وإقامة النظام السياسي الإسلامي الذي يرجع في أصوله إلى المجتمع الذي أقامه النبي (صلى الله عليه وسلم) في المدينة المنورة، وإحياء الخلافة الراشدة، ولكن من خلال حزب سياسي إسلامي له الحق في استخدام كل الوسائل المباحة والجائزة في الصراع السياسي”(14).

واعتمادا على ما سبق يمكن القول أن هناك تشابها وربما تطابقا بين مصطلحي الإسلام السياسي والإسلام الأصولي، فالإسلام السياسي يكون بالضرورة أصوليا، أي معتمدا على الأصول والمرجعيات الإسلامية تماما، وهكذا فإن “صفة الأصولية تشير في الغالب الأعم إلى تلك الحركات والإيديولوجيات التي تصر على أن جزءا لازما من الدين الإسلامي، اعتمد شكلا من أشكال الحكم (الإسلام دين ودولة)، وعلى الدولة الإسلامية أن تطبق عقائد الدين الإسلامي، وفي مقدمتها الشريعة، على كل مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية”(15).

ولا بد من القول بأن هناك نوعا من التوجس والخوف من طروحات وأجندة جماعات الإسلام السياسي، وهو الأمر الذي يدفع بهذه الجماعات إلى إظهار نوع من “المرونة” في خطابها والاهتمام بالأمور الحياتية للمواطنين وطرح برامج تطويرية وتنموية أيضا، ومن هنا يمكن القول بأن الإسلام السياسي هو في واقع الأمر إيديولوجية تحاول التزاوج بين الدين وقداسته وبين مجموعة من المشاكل الدنيوية المعاصرة من اجل استغلال العامل الإيماني الاعتقادي لدى الناس للوصول إلى الحكم وتطبيق برامجها الرامية لإنشاء دولة الخلافة. وبالإشارة إلى ما سبق، يمكن النظر إلى الإسلام السياسي، كذلك، على إنه “إيديولوجية وليست خطة موضوعية تهدف إلى تطبيق واقع متخيّل (يوتوبيا) فيه العدالة الكاملة والسعادة الكاملة، وليس الانتصار على المشاكل والعقبات الحياتية المعاشة. وأجندة الإسلام السياسي لا تحوي مكانا للقيم المدنية المعاصرة مثل العدالة والديمقراطية ودولة القانون والحقوق الفردية، بل هي لا تستبعد العنف من برامجها من أجل تطبيق نظامها الديني الرامي للوصول إلى السلطة”(16).

ويشمل هذا التوصيف كل الجماعات الإسلامية، بغض النظر عن مناهجها أو برامجها السياسية أو البيئة التي تعمل فيها، فهناك من يرفض التفريق بين هذه الجماعات، ويقول بوجود قواسم مشتركة بينها، يتمسك الكل بها مهما بدت الفروق بينها جوهرية وواضحة من الوهلة الأولى، ومن هنا فإن ” حركات الإسلام السياسي وبغض النظر عن الفروقات الظاهرة بينها إلا أنها تشترك معا في مبادئ لا يمكن تخطيها أو إهمالها، تحدد هذه المبادئ خطابها وأيديولوجيتها إزاء الآخر المختلف، حيث الرفض التام بل والعداء الصارخ في بعض الأوجه. ومن هذا المنطلق نجد الكل يشترك في معاداة العلمانية، ومعاداة السامية، ومعاداة الليبرالية، ومعاداة الشيوعية، ومعاداة أميركا، ومعاداة المرأة، ومعاداة المثلية”(17).

كما ونجد بأن اصطلاح وتعريف الإسلام السياسي فضفاض وشامل، وهو يضم الكثير من الجماعات والحركات والأحزاب التي تطرح أفكارا بتفسيرات شتى، ولكنها تنهل من معين الدين الإسلامي، وترنو إلى خلق برامج سياسية تهدف لإدارة المجتمع وفق مرجعية الدين الإسلامي، وترغب في استلام زمام الحكم والإدارة، أي إن “الحركة الإسلامية في مفهومها الواسع، تضم، جميع الأفراد والجماعات التي تسعى لتغيير مجتمعاتها عن طريق اشتقاق أفكارها وبرامجها من الإسلام، وفي حين تختلف هذه الجماعات والأفراد في طرقها ومناهجها وأساليبها وقضاياها الآنية، إلا أنها تتفق على القيمة الإيجابية للإسلام والصلة الوثيقة بين مفاهيمه وقيمه الأساسية والعالم المعاصر، فهي تريد تحويل إطار المرجعية في الحياة العامة إلى مرجعية يكون فيها الإسلام بتفسيراته المختلفة قوة رئيسية في تشكيل هذه الحياة”(18).ولأن التنوع هو الغالب على طروحات جماعات الإسلام السياسي وبرامجها، فهناك من يفهم الإسلام السياسي بأنه في واقع الحال “حركة تهدف إلى تجديد فهم الإسلام، من خلال تقديم أفكار جديدة للحياة العامة والتخلص من التقليدية في الفهم والتفسير، وهذا التجديد هو الرجوع إلى الأصول والتخلص من الأساطير الموروثة والتقاليد”(19).

واستخلاصا مما سبق يمكن القول بان الإسلام السياسي، مصطلحا ومفهوما، هو وصف للجماعات والحركات والأحزاب والمنظمات والكتل التي تحمل رؤى وأفكار مستمدة من الدين الإسلامي( تكون مطعمة ببعض البرامج الدنيوية الوضعيّة التي تهم حياة الناس) تهدف لتطبيق الشريعة، حسب تفسيرها لها، وإحقاق نظام الحكم الإسلامي، أي دولة الخلافة في النهاية. وهذه الجماعات تملك برامج وتصورات سياسية تقوم على الاحتكام للدين الإسلامي والشريعة، تطرحها على الجماهير من اجل إقرارها والمباشرة في تأسيس المجتمع الإسلامي القائم على الشريعة، وتطبيق كل حيثياتها وفق الاجتهاد والتفسير الذي تقدمه هذه الجماعات أو منظريّها المعتمدين لديها. وترفض بعض هذه الجماعات التي تعتمد على الفكر السياسي الإسلامي، بحسب تفسير روادها له، القوانين الوضعيّة وتتمسك بالشريعة وتطالب بتطبيقها، وتلجأ بعضها إلى العنف طريقا للوصول إلى الحكم لتطبيق برامجها الرامية لتحقيق الشريعة ودولة الخلافة. وقد درّج على تسمية الظاهرة التي تشكلها هذه القوى والحركات مجتمعة بالإسلام السياسي، وهو مصطلح شقّ طريقه إلى عالم السياسة الدولية، وتوّطد في الأدبيات السياسية وظهر بشكل اكبر وأكثر اتساعا في العقود الأربعة الماضية.

المصـــــادر:

1ـ أركون، محمد، الفكر الإسلامي: قراءة علمية، ترجمة هاشم صالح، الطبعة الثانية، بيروت، لبنان، مركز الإنماء العربي 1996 م، ص 145.

2ـ عمارة، محمد، السلفية، الطبعة الأولى، سوسة، تونس، دار المعارف للطباعة والنشر 1994 م، ص 51.

3ـ نفس المصدر، ص 13 و14.

4ـ وهبه، مراد، الأصولية والعلمانية، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، دار الثقافة 1995م، ص 26 و27. 5ـ حيدر، خليل، التطور السياسي لدولة الحركات الإسلامية، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية 1997 م، ص 1 و2.

6ـ البدوي، جمال، السيف الأخضر: دراسة في الأصولية الإسلامية المعاصرة، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، دار قباء للطباعة والنشر 2002 م، ص 14.

7ـ مجموعة مؤلفين، الحركات الإسلامية وأثرها في الاستقرار السياسي في العالم العربي، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية 2002 م، ص 20.

8ـ إبراهيم علي، حيدر، أزمة الإسلام السياسي: الجبهة الإسلامية القومية في السودان نموذجا، القاهرة، مصر، الطبعة الرابعة، مركز الدراسات السودانية 1999 م، ص 11.

9ـ العشماوي، محمد سعيد، الإسلام السياسي، القاهرة، مصر، الطبعة الرابعة، مكتبة مدبولي 1996 م، ص 297 و298.

10ـ إبراهيم علي، حيدر، أزمة الإسلام السياسي: الجبهة الإسلامية القومية في السودان نموذجا، مصدر سبق ذكره، ص 10.

11 – Kepel, Gilles, Das Schwarzbuch des Dschihad: Aufstieg und Niedergang des Islamismus, Tubingen, Deutschland, Piper Verlag 2002, Seite 28.

12ـ باروت، محمد جمال، يثرب الجديدة: الحركات الإٍسلامية الراهنة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، دار رياض الريس 1994 م،  ص 12.

13ـ دبعي، رائد محمد عبد القادر، أساليب التغيير السياسي لدى حركات الإسلام السياسي بين الفكر والممارسة: الإخوان المسلمين في مصر نموذجا، نابلس، فلسطين، أطروحة ماجستير مقدمة إلى جامعة النجاح الوطنية 2012 م، ص 11.

14ـ   الجاسور، ناظم محمد، موسوعة علم السياسية، عمان، الأردن، الطبعة الأولى، دار مجدلاوي للطباعة والنشر 2004 م، ص 60.

15ـ زبيدة، سامي، الإسلام: الدولة والمجتمع” ترجمة عبد الإله النعيمي، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، دار المدى للطباعة والنشر 1995 م، ص 29 و30.

16- Schirrmacher, Christine, Islamismus: Wenn die Religon zur Politik wird, Stuttgart, Deutschland 2010, SGM Hässler, Seite 17.

17-Schmidinger, Thomas, Zwischen Gottesstaat und Demokratie: Hanbuch des politischen Islam, Wien, Österreich, 2008, Deuticke  im Paul Zsolnay Verlag, Seite 33.

18ـ الغضبان، نجيب، التحول الديمقراطي والتحدي الإسلامي في العالم العربي: 1980 –2000 م”، عمان، الأردن، دار المنار 2002 م، ص99.

19ـ بروجا، فرانسوا، الإسلام السياسي، ترجمة د. لورين زكرى، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية،  دار العالم الثالث 2001 م، ص 30 و31.

* باحث في الإسلام السياسي. من فريق عمل المركز الكردي للدراسات.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد