الفرات والجزيرة ورمزية الأسطورة والصراع في سوريا

عقيل سعيد محفوض
في حكاية للكاتب الأوروغوياني إدواردو غاليانو بعنوان «نهر النسيان»، يقول: «كان مقاتلو الفيلق الروماني يتوقفون على ضفة النهر. لم يعبروه بتاتاً، ذلك لأن كل من يعبر نهر النسيان ويصل إلى الجانب الآخر ينسى من هو ومن أين أتى»، (غاليانو، كتاب المعانقات). تقدم هذه الأسطورة، رغم قدمها، إطارا رمزياً لفهم جوانب من ديناميات التذكر-النسيان، الصراع-الحل، الموت-الحياة  في سوريا.
ربما تحكي القصة، وهذا تأويل مستحدث، أو تكثف خبرة متناقلة عن مصير من يشرب من النهر أو من يحاول عبوره. وتُرْهِب وتُرْعِب من مجرد التفكير بالشرب من النهر، فكيف بعبوره إلى الجهة الأخرى. وبالتالي، تقيم حاجزاً واحداً فاصلاً بين التذكر والنسيان، الوجود والعدم، الأنا والآخر. لكن ما يُحْدِثُهُ النهر ليس مجرد النسيان، بل التحرر من عبء الذاكرة الذي «يعرّفنا» وبالتالي «يحدد أعداءنا»، على طريقة كارل شميت في تحديد معنى السياسة.  أليس النسيان هنا هو أيضاً الوعد الكاذب أو الحالم أو الواهم بالسلام، السلام الذي لا يتحقق للآخر إلا بتنازله عن هويتة؟

عالمان مختلفان

أول ما يخطر في البال عند قراءة القصة هو نهر الفرات ومنطقة الجزيرة والدلالات والإيحاءات الرمزية التي تتداخل مع الحكاية أو الأسطورة. وكان «خط الفرت» أحد أول خطوط التقسيم في خرائط الصراع في سوريا. ونشأت على جانبيه أنماط معنى وقوة وتفاعل مختلفة. كما نشأت حواجز ونقاط تفتيش وسيطرة مختلفة وأعلام ورايات وتحالفات مختلفة أيضاً. وفي بعض الأحيان، كانت تلتقي دوريات لقوات عدد من البلدان (روسيا، الولايات المتحدة، تركيا، وغيرها)، فضلاً عن الرايات المحلية، في المكان نفسه، بقدر قليل من الاحتكاك والصدام وقدر كبير من الشكوك والهواجس. وبمرور الوقت، أخذ الخط يحيل إلى عالمين مختلفين، وبالطبع أفقين مختلفين. ويتجدد ذلك، ويتأكد وربما يتأبد، على لغة الأبد الحاكمة -صراحة أو ضمناً- في هذا المشرق الجميل. (انظر الجدول 1).
الرمزية في الأسطورة الإغريقية في السياق السوري
الوظيفة فصل الأحياء عن الأموات، نسيان الهوية بعد العبور. تهميش الأطراف من قبل المركز، نسيان الهوية الثقافية قسراً.
النتائج تحرر من عبء الذاكرة. قمع التنوع، إضعاف المطالب الهووية، تعزيز الهيمنة المركزية.
التأويل السياسي أداة لإنكار الواقع، وتبرير الإهمال الاقتصادي والأمني للمناطق المتنوعة.

جدول (1): رمزية نهر النسيان في الأسطورة والسياق السوري

استعمار داخلي

المفارقة، أن السلطات المتعاقبة في سوريا، منذ تشكلها الدولتي الحديث بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، تتعامل بكيفية متشابهة مع منطقة الجزيرة كما لو أنها مستعمَرَة. فهي تمثل فرصة وخطر في آن: فرصة بما هي مصدر رئيس للموارد والريع (الموارد والمكاسب الاقتصادية). وتهديد، بما هي موضع نزعات هوية وكيانية محلية وإدارة ذاتية أو تطلعات للمشاركة العادلة والمتوازنة في الموارد والسياسة والسلطة. وأخذت منطقة الجزيرة وضعية خاصة أقرب للإلحاق منها للاندماج. وبدت منسية تنموياً، ولكنها حاضرة ريعياً وبالطبع أمنياً.
وهنا تكمن المفارقة اللّاكانية (نسبة إلى جاك لاكان، مفكر ومحلل نفسي فرنسي): الجزيرة ليست منسية حقاً. إنها مُتذكَّرة بالتمام كثقب أسود في الخريطة الوجودية لـ«المركز» تاريخياً؛ «نقطة اللا-وجود» التي يجب أن تُمتص مواردها لا أن تُدمج كوجود كامل. أليس هذا النسيان الاقتصادي هو أقصى درجات التذكر السياسي العدائي؟ الواقع أن بالإمكان تقصي ذلك في رؤية فواعل السياسة والفكر والاجتماع في سوريا منذ بدايات القرن العشرين.
مركز ناهب ومُهَيْمِن وطرف منهوب ومُهَيْمَن عليه. ويمكن تقصي ذلك منذ الفترة العثمانية المتأخرة، فقد كانت تتبع ولاية حلب، ومنها ما كان يتبع ولايات أصبحت الآن في العراق وتركيا، وأجزاء منها متصرفية مستقلة (متصرفية ديرالزور). ومهّد هذا التوزيع الإداري لتعقيدات الهوية والانتماء لاحقاً. وكانت المنطقة مصدر الغلال والثروة الحيوانية وشغلت موقعاً مهماً على طريق الحرير ومحوراً تجارياً حيوياً بين شمال سوريا والعراق والأناضول.
بعد التشكل الدولتي لمنطقة الشرق الأوسط في أعقاب الحرب العالمية الأولى والانهيار العثماني، عادت الذهنية الكولونيالية إياها إنما في أكثر صورها بدائية: التغيير الديمغرافي، الإحصاء الانتقائي للسكان، والتعليم والخدمات. وهي سياسات عكست سعياً لإضعاف أي تطلعات ذاتية في المنطقة وبالقدر الذي يجعلها قابلة للإلحاق الطرفي والهامشي في تقديرات السياسة والحكم وأنماط القيم الحاكمة في البلد.
ويتحدث الكرد والسريان والآشوريون والأرمن وغيرهم عن ثقل السياسات الدولتية التي أصابتهم بقدر كبير من الإهمال والإقصاء والتخلي، ما أدى إلى هجرات كبيرة للسكان إلى الخارج. وأصبحت المنطقة على العموم مجالاً نموذجياً للإنكار: حيّز جغرافي كثير الموارد ومتناقص السكان. بل ان ما فيه من ناس لديهم، من هذا المنظور، طموحات كيانية أو هوياتية يمثل خطراً على «المركز الدولتي» وعدد من الفواعل الإقليمية والدولية متزايدة القوة والحضور في البلاد.
ان الوضعية الخاصة لمنطقة الجزيرة، بنظر المركز الدولتي تاريخياً، دفع الأخيرة إلى:
o «فتح الأبواب» أمام نمط من المشاركة وتوزيع الموارد، إنما، مرة أخرى، بالقدر الذي يحتوي أي نزوع للوعي الذاتي أو الاعتراض. ويتعزز ذلك بإيديولوجيا توحيدية وإدماجية ومؤسسات أمنية وشبكات تبعية وزبانة مركبة.
o «إغلاق الأبواب» أمام المواطنة المتساوية والمشاركة وضبط التفاعلات بين المكونات الإثنية والدينية والقبلية والعشائرية وقمع التعبيرات السياسية والحزبية أو إضعافها وتشتيتها الخ. (انظر الجدول 2).
المعيار المركز  الدولتي (دمشق) الأطراف (منطقة الجزيرة)
السياسات حكم مركزي، إيديولوجيا توحيدية. إهمال تنموي، إقصاء سياسي، تحكم أمني.
الموارد استنزاف موارد الأطراف

(نفط، غاز، زراعة).

حرمان من عوائد الموارد المحلية، تهميش اقتصادي.
الهوية هوية أحادية مفروضة. تنوع إثني وديني (كرد، عرب، سريان، آشوريون…)، محاولات قمع الهويات المحلية.
التعامل مع

المطالب

اتهامات بـ”الانفصالية” أو “التبعية للخارج” مطالب تاريخية بالحكم الذاتي أو الفيدرالية، قمعها بالقوة أو التهميش.

جدول (2): مقارنة بين “المركز” و”الأطراف” في سوريا

المدارك السلبية

كثيرون لا يعلمون عن طبيعة المنطقة، ومنهم فواعل الحكم أنفسهم. لكن كثيرين يَصِمُونها بـ«الانفصالية»، ويعيدون الأمر إلى الكرد على نحو خاص، كونهم المكون الأكثر حركية وتعبيراً عن وعي الذات والأكثر رغبة في التشكل الهوياتي والكياني هناك. وهي رؤى تعكس جانباً من ديناميات الصراع الأوسع وتحديات التوافق. وهذا لا يقلل من وعي وحركية وتطلع المكونات الأخرى. وتصل المفارقة هنا إلى أن المركز يتذكر التهم ومدارك التهديد، لكنه ينسى الأسباب والظروف الموضوعية والرهانات الذاتية (والغيرية) الفاعلة في الإقليم. لكن، هل ينسى المركز حقاً أم أنه يتظاهر بالنسيان؟ إن هذا النسيان المزعوم ليس فشلاً في الذاكرة، بل فعل نسيان قسري. هو عملية إيديولوجية بامتياز لـ«تذكر» الجزيرة كخطر وجودي يتطلب القمع، وليس كشريك. هو نسيان ضروري للحفاظ على منطق المركز الذي يعتمد على إنكار الواقع.
هنا بعض الأسباب العميقة للمدارك السلبية تجاه المنطقة:

o في المنطقة طيف اجتماعي واثني واسع نسبياً: أديان ومذاهب وأعراق وثقافات مختلفة (العرب والكرد والسريان والتركمان والشركس، بنسب متفاوتة. بالإضافة إلى التنوع الديني والمذهبي داخل كل مجموعة، مسلمون سنة وشيعة وعلويون، ومسيحيون ينتمون إلى كنائس مختلفة).

o فيها موارد كثيرة، وخاصة النفط والغاز، مثل حقول رئيسة مثل: رميلان (شمال شرق الحسكة، وكان ينتج قبل 2011 حوالي 100 ألف برميل يومياً) والسويدية (جنوب الرميلان، وكان ينتج 60 ألف  برميل يومياً) والجبسة، وحقول أخرى مثل: الورد والعمر. وحقول الغاز، والمحاصيل الزراعية (القمح والقطن والشعير).  (ملاحظة: المعطيات تقديرية، وردت بالقدر الذي يوضح خط المعنى الرئيس للنص، وليست بقصد التحليل الاقتصادي أو التوثيق. وقد يقع القارئ على تقديرات كثيرة ومتفاوتة).

o كانت المنطقة تتطلع إلى «كيانية» أو «إدارة ذاتية» في إطار دولة سورية فدرالية أو لا مركزية، منذ ثلاثينيات القرن العشرين. وهذا يؤكد أن هذه المطالب ليست وليدة الأزمة الراهنة. وكان المشروع قاب قوسين أو أدنى من التحقق لولا أن الظروف الدولية، وعوامل أخرى، دفعت فرنسا للانسحاب من سوريا. كما أن الظروف الداخلية اتجهت لإجهاض الكيانية (هوية مستقلة أو شكل من أشكال الحكم الذاتي) التي عمل عليها الكرد والعرب والآشوريون وغيرهم. هي عوامل تكرر تأثيرها على المنطقة عبر تاريخها.
فإذا اجتمعت الموارد والتنوع الإثني والحضاري والحيوية الاجتماعية والسياسية، فهذا يخلق قوة دفع أو اندفاع اجتماعي متزايد قد يغير موازين المعنى والقوة في البلاد (والإقليم). وهذا ما حكم سياسات المراكز تجاه المنطقة، سواء في الفترة العثمانية أو الانتداب أو دولة ما بعد الانتداب في سوريا. بدت المراكز مشغولة بسؤال: كيف يمكن احتواء ما يمثل تهديداً في منطقة الجزيرة؟ وبالطبع، وهذا ما تتكرر الإشارة إليه، كيف يمكن سحب موارد المنطقة من دون توزيع أو تخصيص الموارد بشكل متوازن؟ وكانت المنطقة في مرتبة دنيا في أولويات الانفاق الحكومي خلال عدة عقود.

إعادة إنتاج

والآن، يتم إعادة إنتاج للرؤى والمدارك نفسها تقريباً، مع حضور أكثر وضوحاً لـ«الخارج»، القريب وربما البعيد، الرافض لوجود حالة خاصة في الإقليم، والذي يعمل بكل ما يستطيع من أجل وضع الإقليم في حالة تهديد دائم ويزعزع الأمن والاستقرار ويشن حروباً مركّبة، مادية ورمزية، ويعمل كل شيء ممكن من أجل تضييق فرص الحياة الآمنة والمستقرة. لسان حال كثيرين في المنطقة أن شروط الحياة أفضل، لكن ثمة مخاوف بشأن المستقبل. هذا هو المطلوب حيال الإقليم من أجل إدراجه طرفياً وهامشياً في «المركز»، والأخير هو بدوره «طرف» لـ«مركز» أو «مراكز» في المنطقة والعالم.
سكان في نهر الفرات بمنطقة ديرالزور |أ.ف.ب
وثمة المزيد من الضغوط والاتهامات بالانفصالية والارتباط بالخارج، حيث يتم تحميل الإقليم كل تبعات الإخفاق الاقتصادي والسياسي في المركز، خاصة بعد العام 2011. وهذا نوع من الاستمرارية في السياسات المتبعة منذ عدة عقود، تتوارثها نظم الحكم المختلفة.

دينامية التذكر-النسيان

دينامية التذكر-النسيان هي فعل سياسي وأحد أهم ديناميات التعامل بين «المركز» في دمشق و«الأطراف» في منطقة الجزيرة. وكما سبقت الإشارة، فإن المركز «يتذكر» أن المنطقة هي منطقة موارد وتهديد و«ينسى» العوامل التي تدفعها (المنطقة) لأن تطالب باللامركزية والمشاركة والتوزيع المتوازن للموارد المادية والمعنوية. ولكن النسيان يتجاوز ذلك، إذ يعتقد المركز أن النسيان الذي يتمثل في هذه الحالة بالتخلي والإهمال والسعي لمحو الهوية والذاكرة الثقافية، قد يدفع الناس لنسيان هويتهم ويشغلهم بالبحث عن أدنى درجة ممكنة من متطلبات الوجود والعيش. وهنا يقع المركز في فخّه الساخر: إنه يسعى إلى فرض النسيان كأداة للسيطرة، لكنه ينسى أن محاولة محو الذاكرة هي بحد ذاتها فعل تذكر عنيف يعيد إنتاج الهوية المقموعة بشكل أكثر جذرية. كلما حاول المركز دفن هذه الهوية، كلما دفن بذرة تمردها في أعماق التربة.

نموذج بديل؟

إن بناء أو استعادة الذاكرة الجمعية على مستوى البلد والإقليم ليست فعلاً منفرداً ولا يمكن أن تتمركز بالتمام حول عرق أو قومية أو دين أو طائفة. بل هذا أمر يخص الجميع، وهو مسؤولية الجميع أيضاً. والأصل هو خلق حَيِّز يمكن لجميع المكونات العيش فيه بأمان. والتحدي الأكبر أمام البلاد هو: كيف يمكن أن يكون مجتمع سوري قائم على التنوع العرقي والديني والثقافي؟ وكيف تكون دولة سورية قائمة على التعددية واللامركزية؟
لا شك أن ثمة إجابات نظرية وتصورات افتراضية، وأحياناً بلاغية وخطابية. لكن لا يزال من الصعب تلمس خطوط توافق عامة على الإجابة ثم الانتقال من الخطاب أو التصور إلى الفعل. ولا يزال مجرد الحديث عن تعددية ولامركزية يثير مدارك تهديد لدى شريحة كبيرة من فواعل السياسة. وغالباً ما يتم تحميله (حديث التعددية واللا مركزية) حمولات زائدة ومنافية لمعناه، خاصة مع استمرار الانقسامية الاجتماعية والاستقطاب الحاد والعنف.

الأنهار الخمسة

لنغادر قراءة غاليانو للنهر إياه، أو بالأحرى قراءتنا السابقة لحكاية غاليانو عنه. ونقرأ في الحكاية الأصلية لـ«نهر النسيان»، كما في الأسطورة الإغريقية والرومانية. والنهر هو أحد أنهار مملكة هادس (Hades) الخمسة في العالم السفلي. أنهار تشكل حدوداً فاصلة بين أرض الأحياء وأرض الأموات، وهي: نهر الكراهية والقسم الأبدي (ستيكس Styx) والحزن والألم (أكرون Acheron) والنسيان (ليثي Lethe)، وهو الأكثر ارتباطاً بموضوع النص، والنار المتوهجة (Phlgethon)، وهو رمز العذاب، والرثاء والعويل (Cocytus). وبينما يرمز نهر الليثي إلى النسيان الفردي الطبيعي في الأسطورة، فإن النسيان في السياق السوري هو فعل قسري مُمنهج يُستخدم كأداة سياسية لقمع التنوع. وهو نوع من الهروب والتملص من متطلبات الحل. وقد يرمز إلى حالة الإنكار للواقع والتخلي عن الإيفاء بمتطلبات التعامل وربما التخلي عن إقليم قد تسبب الاستجابة له صداعاً غير قابل للعلاج، وربما أكثر من ذلك.
النهر الرمزية الأصلية التطبيق على سوريا
ليثي (النسيان) نسيان الذكريات. سياسة النسيان القسري للهويات المحلية، وإنكار التنوع.
ستيكس (الكراهية) القسم الأبدي والعداء. تصاعد الخطاب الطائفي والكراهية بين الأطراف والمركز.
أكرون (الألم) الحزن والمعاناة. معاناة سكان المنطقة من الإهمال، النزوح، والقمع.
فليجيثون (النار) العذاب والتطهير بالنار. الحروب المستمرة والعنف كأداة للسيطرة.
كوكيتوس (الرثاء) البكاء على الأطلال. تدمير البنى التحتية والتراث الثقافي، وتحول المنطقة إلى ساحة صراع دائم

جدول (3): أنهار العالم السفلي وتطبيقاتها الرمزية على الصراع السوري

في النهاية، قد تنسحب الجوانب الرمزية للأنهار المذكورة كلها، وليس فقط نهر النسيان، على حالة الفرات بما هو رمز لهذا المشرق الخصيب، وبالأخص رمز لحالة الصدع بين شرق سوريا وغربها. وإذا استمرت الصدع من دون السعي للحل، فقد يكون نهر الفرات، لا مجرد نهر للنسيان والتخلي (وفي القلب من ذلك التذكر السلبي والعدائي تجاه الإقليم)، بل نهر للكراهية «ستيكس» والحزن والألم «أكرون» والنار المتوهجة والحرب «فليجيتون» والرثاء والعويل والوقوف على الأطلال «كوكيتوس». والفرات هو حتى الآن جدير بهذه السمات والرمزيات أو هو في أفقها جميعاً تقريباً. إن الفرات، في جوهره، ليس نهراً واحداً بل هو نهر متعدّد أبعد من مجرد رمز للصدع. إنه فضاء «جيجيكي» (نسبة للمفكر السلوفيني سلافوي جيجيك) بامتياز، حيث يلتقي النسيان مع الكراهية في محاولة يائسة لخلق نظام، بينما يصر الواقع على فوضى المعاني. السؤال ليس: هل ننسى؟ بل: ماذا ننسى لنعيش وماذا نتذكر لنتقاتل؟ والصحيح هو السؤال: كيف يمكن تحويل نهر النسيان إلى جسر للتواصل والعيش المشترك؟
الإحالات والمصادر
– إدواردو غاليانو، كتاب المعانقات، ترجمة: أسامة إسبر، (دمشق: دار الطليعة الجديدة، 2015). 
– كارل شميت، مفهوم السياسي، ترجمة: سومر المير محمود، (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2018). 
– سلافوي جيجيك، موضوع الإيديولوجيا السامي، ترجمة: عدي جوني، (بغداد: فواصل للنشر والتوزيع، 2024).

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد