تعارض المصالح في «أستانا 20» مقدّمة لتصعيد آت

أولاً: المقدّمة

قبل يومٍ واحد على صدور البيان الختامي لاجتماع أستانا العشرين، حذّر الناطق بإسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف من «عدم وضع توقعات عالية للغاية من اجتماع أستانا»، مضيفاً أن «هذا طريق طويل للغاية، وروسيا تواصل موقفها الثابت». ولعل المراقب لمفردات البيان الختامي للاجتماع سيعي ما قاله بيسكوف لجهة أن النقاط السبع عشرة التي انتهى إليها البيان فضفاضة ولا يمكن لها أن تشكّل خارطة طريق لحل الأزمة السورية أو الوصول إلى تطبيع تركي سوري أو وقف المعارك والتدخّل الأجنبي. ذلك أن القصف المدفعي والجوّي في مناطق الضامنين التركي والروسي بلغ أشدّه خلال اليومين اللذين سبقا اجتماع أستانا. بل إن أعمالاً عسكرية تزامنت مع موعد الاجتماع. لكن اللافت في الاجتماعين الأخيرين 19 و20 هو ذاك الميل للتركيز على مناطق الإدارة الذاتية.
وفي موازاة اجتماع أستانا، بدا أن اللقاء الرباعي في العاصمة الكازخستانية في 21 يونيو/حزيران الجاري ما زال يدور في حلقة مفرغة على الرغم من أن الغاية منه هو محاولة رسم «خارطة طريق» لبلوغ تطبيع تركي سوري.
ثانياً: الحوار المسلح يسبق الحوار السياسي

ارتفع التصعيد العسكري بين القوات التركية والسورية قبيل اجتماع أستانا بنسخته العشرين، واستمر إلى ما بعده بشكلٍ محموم، إذ تم رصد تعزيزاتٍ عسكرية لقوات النظام السوري إلى مناطق التماس في ريف حلب الشمالي، خصوصاً في منغ وتل رفعت، وإرسال أرتال ضخمة من الدبابات والمصفحات التي وصلت لأطراف مدينة سراقب وشمال حلب، قادمة من حمص وحماه ومن ريف دمشق. فيما ترى دمشق أن إرسال تلك التعزيزات إنما جاء ردّاً على الفصائل المسلحة الموالية لتركيا التي تصعّد في مناطق بريف حلب الغربيّ. ومن بين تلك التعزيزات، جاء الدفع باتجاه أحد الألوية الهجومية بعكس بقية الألوية والتعزيزات ذات البنية الدفاعية، إذ تحرّك اللواء 105- حرس جمهوري من دمشق أيضاً باتجاه حلب.
بالتوازي، قصفت القوات التركية الأربعاء الماضي مناطق بريف إدلب الشرقي ما أدى إلى مقتل أربعة عناصر من قوات النظام وإصابة خمسة آخرين. كذلك، شن الجيش التركي قصفاً على مواقع النظام في شمال حلب موقِعاً خسائر بشرية في صفوفه.
لكن هذا التصعيد بين أنقرة ودمشق، ومن خلفها روسيا، إنما يدخل في عداد تمهيد طاولة الاجتماع في العاصمة الكازخستانية، ذلك أن تتبع سيرة اجتماعات أستانا يفيد بأن التصعيد والمعارك التي تسبق الاجتماعات ما هي إلّا إمتداد للسياسة، وتدخل كذلك في سياق فرض الإرادات. وعلى الرغم من أن كل طرف في أستانا غير ملزم بقبول إملاءات الطرف المقابل، إلّا أن هذا الجنوح لمفهوم السيطرة على الأرض يعني في مكانٍ ما صعوبة الوصول إلى إتفاقاتٍ ناجزة قابلة للتطبيق، فضلاً عن أن هذا المناخ التصعيدي يعكس مخاوف متبادلة بين أطراف أستانا (الضامنيْن الروسي والتركي).
وبطبيعة الحال، لن تنسَ أنقرة توجيه ضرباتٍ لمناطق الإدارة الذاتية وترويع سكانها قبيل لقاء أستانا وفي خضم اجتماعاته أيضاً، خاصةً في المناطق التي يفترض أنها تتبع لسيطرة الضامن الروسي، إذ قصفت تركيا منذ 12 يونيو/حزيران الجاري فقط ما مجموعه 35 موقعاً في شمالي سوريا بالاعتماد على المسيّرات التي نفذت 15 عملية، في تصعيدٍ واضح منذ بداية العام. ومن جملة ذلك، قصفت مسيّرة تركية في 20 يونيو/حزيران عربةً كانت تقلّ موظفي الخدمة العامة في الإدارة الذاتية أثناء قيامهم بجولةٍ ميدانية لمؤسسات الإدارة الذاتية في المقاطعة، ما أدى إلى إستشهاد الرئيسة المشتركة لمجلس مقاطعة القامشلي يسرى درويش ونائبة الرئاسة المشتركة ليمان شويش وفرات دانيال، وإصابة الرئيس المشترك لمجلس المقاطعة غابي شمعون بجروح.
ثالثاً: الإدارة الذاتية حضرت في النقاشات والمخرجات

خلال النسخ الأخيرة من اجتماعات أستانا، جرى التركيز على واقع الإدارة الذاتية. ففي النسخة 18 من تلك الاجتماعات، تم التأكيد على أنّ «الأمن والاستقرار الدائمين في شمالي شرقي سوريا لا يمكن أن يتحققا إلا على أساس الحفاظ على سيادة سوريا وسلامة أراضيها». فيما تصاعدت اللهجة في البيان الختامي لأستانا 19 حين أبدى المجتمعون شكلاً من العداء لتجربة الإدارة الذاتية «الدول الضامنة لمسار أستانة تُعارض مبادرات الحكم الذاتي في شمال شرقي سوريا».
لكن إقحام منطقة شمال شرقي سوريا، المستقرّة نسبياً، حضر بشكلٍ لافت في مخرجات البيان الختامي، ذلك أن مناقشة مستقبل الإدارة الذاتية بات المطلب التركي الأساس، إذ أفرد البيان الختامي بنده السادس له حين أقر المجتمعون برفض «جميع المحاولات لخلق حقائق جديدة على أرض الواقع، بما في ذلك المبادرات غير القانونية للحكم الذاتي بذريعة مكافحة الإرهاب». بيد أن هذا البند جاء ملتبساً ويمكن قراءته من زوايا عدة، إذ يمكن رؤية الرفض الروسي والإيراني للإدارة الذاتية في أنها لم تنشأ برضا دمشق وموافقتها، وهو الشرط القانوني بالنسبة لهما لقيام أي كيان لامركزي. فيما تنبع لا قانونية الإدارة بالنسبة إلى تركيا من بعدين: الأوّل، أنها ليست الطرف الذي أنشأ هذه الإدارة، إذ اضطلعت تركيا بإنشاء إدارات مرتبطة بها في المناطق الخاضعة لسيطرتها ولا تراها غير قانونية. فيما يقوم البعد الثاني على رفض تركيا تولّي الكرد السوريين مهمة تسيير أمورهم بالتعاون مع بقية المكوّنات، وترى في أي خطوةٍ مدنية أو إدارية من هذا القبيل خطراً تصمه بالإرهابيّ ويستهدف أمنها القومي.
رابعاً: اجتماع الرباعية يدور في حلقة مفرغة

في موازاة اجتماع أستانا، عقد لقاءٌ رباعي ضم تركيا وروسيا وإيران والنظام السوري على مستوى نواب وزراء الخارجية بغية إيجاد خارطة طريق للتطبيع بين أنقرة ودمشق. إلّا أن ما بدر من مواقف، يؤكّد عمق الخلافات. إذ أعاد رئيس الوفد السوري، معاون وزير الخارجية أيمن سوسان، ترديد المواقف السورية الرسمية، مطالباً بانسحاب القوات التركية كمقدمة للتطبيع، فيما تصرّ تركيا على «مخاوفها الأمنية». وإذا كان الاتفاق على العبارات الفضاضة حصل في اللقاءات السابقة، فهو تكرر مرة أخرى. ومن جملة ذلك، البحث عن حلٍ لمسألة عودة اللاجئين ومكافحة الإرهاب. وبطبيعة الحال، تبقى مسألة عودة اللاجئين غير ممكنة في ظل ما تراه دمشق احتلالاً تركياً واعتماد أنقرة على صيغها الخاصة فيما يخص برنامج إعادة قسم من اللاجئين عبر توطينهم خارج مناطقهم الأصلية داخل سوريا، ما يعني إحداث تغييرات ديمغرافية وتشكيل أحزمة أمنية تركية في الشمال السوري.
يعتبر موضوع «الإرهاب» بدوره من المشاكل التي لا يمكن ضبطها. ففي حين ترى دمشق في الفصائل المسلّحة الموالية لأنقرة جماعاتٍ إرهابية، إضافة لما تم الاتفاق عليه في أستانا 18 في تصنيف تنظيمي داعش وجبهة النصرة جماعاتٍ إرهابية، تصر أنقرة على وضع قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية في خانة «الإرهاب». وهو ما يعني أن تركيا تتصرّف «بانتقائية» وفق تعبير سوسان، فضلاً عن أن دمشق وموسكو وطهران لا تبلغ هذا المستوى من التوصيف لقوات سوريا الديمقراطية، ما يعني صعوبة الإجماع على تحديد من المقصود بـ«الإرهاب» في مخرجات اللقاءات.
خامساً: الاستنتاجات

المسائل الثلاث التي كُرّس اجتماع أستانا ولقاء الرباعية لمناقشتها، على الرغم من تعدد العناوين، هي: الموقف من التواجد الأميركي في شمال شرقي سوريا، مصير الإدارة الذاتية، والتطبيع بين أنقرة ودمشق وما تحتويه من مسائل فرعية مثل إعادة اللاجئين ومحاربة الإرهاب. وكانت كلّها عصية على الوصول إلى صيغٍ ممكنة التطبيق، وذلك متوقّع في ظل التعارض الحاد بين مصالح الأفرقاء في سوريا. وقد يستمر التصعيد الذي بدء قبيل أستانا، خاصةً أن أطراف الصراع الداعين إلى التفاهم وخفض التصعيد والتطبيع بين دمشق وأنقرة أعلنوا مغادرة أستانا مع الاحتفاظ على «صيغة أستانا» إلى وجهةٍ لم تحدد بعد.
الأقرب للتصور، مع التصعيد العسكري في مناطق التماس والتسخين الذي تشهده الجبهات، أن الشمال السوري سيدفع ثمن فشل النسخة 20 من أستانا وانتهاء زمن «خفض التصعيد». وقد يشهد الشمال السوري صيفاً ساخناً للغاية على ما تقوله العمليات العسكرية والقصف الجوي والمدفعي المتبادل حتى بعد انفضاض اجتماع أستانا، الأمر الذي يفرض أهمية الالتزام بالحل السياسي برعاية أممية، بعيداً عن الأروقة الفرعية التي حاولت موسكو وأنقرة أن تجعل منهما مسرحاً لحل الأزمة السورية المديدة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد