تتشابه السياسة الخارجية التركية الحالية مع سياستها في أربعينيات القرن الماضي، ولو بأدوات أخرى؛ فقد مثّلت فترة الحرب العالمية الثانية أزهى المراحل التي وصلتها الدبلوماسية التركية منذ تأسيس الجمهورية. ففي سنوات الحرب تلك، طغى الحذر على مستقبل تركيا. آنذاك، وقعّت أنقرة بقيادة عصمت إينونو اتفاقية مع بريطانيا وفرنسا في أكتوبر/تشرين الأول 1939 نصّت على الدفاع المشترك حال وصول الحرب إلى البحر الأبيض المتوسط، تبعها توقيع اتفاقية عدم اعتداء مع موسكو في مارس/آذار 1941\. غير أن المفارقة الصارخة كانت مع توقيع تركيا اتفاقية صداقة وعدم اعتداء مع ألمانيا النازية وذلك قبل أيام من بدء الغزو الألماني لروسيا، إذ طمحت أنقرة من التعاون مع هتلر للتوسّع شرقاً وتنفيذ عمليات غزو في آسيا الوسطى. كان هذا التناقض في توقيع الاتفاقيات متأتياً من عدم قدرة السياسيين الأتراك تحديد المنتصر في الحرب، وتعلّمهم من درس التحالف العثماني- الألماني غير المبرر في الحرب العالمية الأولى والذي دفعت إسطنبول فاتورته فيما بعد، لكن النتائج النهائية جاءت في صالح أنقرة ولعبها على مختلف الحبال.
في الأثناء، تستعد تركيا لدخول مرحلة العالم متعدد الأقطاب، وتبدو أبعد من أن تكون ملحقاً بالغرب وواشنطن كما كانت في فترة الحرب الباردة، مستفيدةً من التنافس الجيوسياسي والاستقطاب الدولي الذي لايمكن لأنقرة أن تجزم من سيكون الطرف المنتصر فيه. في الأعوام الماضية، أحدثت حركة الانسحابات الأميركية، التي دشّنها الرئيس الأسبق باراك أوباما، مرحلةً جديدة وُضعت خلالها أنقرة في مواجهة مصيرها في منطقة تشهد صراعاتٍ متعددة المستويات وسعي إيراني وروسيّ لملئ الفراغ الأميركي في المحيط الجوسياسي لتركيا. ساهم هذا التشابه مع ماحدث في الأربعينيات في إضفاء استقلالية على الدور الخارجي لتركيا وظهورها طرفاً حيادياً في الصراعات الدولية. لكن بلوغ درجة من «الاستقلالية والحياد» هو أمرٌ مكلف أيضاً فيما لو بقيت السياسة الخارجية التركية دون تحديد وجهتها النهائية، ذلك أن الحكمة السياسية تفترض بأن «صديق الجميع ليس له صديق»، وهو حال تركيا التي تحاول الجمع بين المتناقضات ومصادقة كل الأخصام. هذه المصادقة تعني الخوض في ألعاب دبلوماسية وسياسية واقتصادية مرهقة لبلدٍ يعاني من أزمات اقتصادية واستقطاب داخلي حاد ومشكلات هوية.
لا يعود النجاح الدبلوماسي التركي إلى عوامل ذاتية أو إلى قوّة الدبلوماسية التركية، بقدر ما يعود إلى الظروف الموضوعية مثل تنامي حظوظ قيام عالم متعدد الأقطاب والتزاحم على ضم تركيا لهذا المحور أو ذاك، وانكفاء الولايات المتحدة وتراجع دورها الشرق أوسطي، وطبيعة قوانين حلف الناتو الداخلية التي منحت تركيا بطاقة الفيتو والتي استخدمتها لأول مرة في مواجهة السويد وفنلندا، وتحوّل تركيا إلى محرس متقدّم لأوروبا يقيها موجات اللاجئين، ثم بروز روسيا لاعباً متقدّماً في المنطقة.
على الرغم من معاداة الأحزاب التركية، وفي مقدّمتها حزبي التحالف الحكومي، لواشنطن في مستوى الخطاب السياسي الوطني، إذ يتم تصوير الولايات المتحدة عدوّاً إمبريالياً يتآمر على تركيا ويطمح للمساس بوحدتها الترابية على الدوام، إلّا أن حكومة رجب طيب أردوغان، وعلى الرغم مما تبديه من عداء ظاهريّ، ضمنت عدم تدخّل واشنطن وأوروبا في شؤونها الداخلية على الرغم من كل التصعيد الرسمي تجاههما. لكنها لا تضمن حلفاءها الجدد، إيران وروسيا ودول الخليج العربية، وبدرجة أقل الصين التي تطمح إلى تطوير شراكاتها معها عبر قناة منظمة شنغهاي للتعاون. تمتلك هذه الدول المقدرة والكفاءة اللازمة، وإن بدرجات متفاوتة، لإلحاق الأذى بالسياسة الداخلية التركية سواء عبر الورقة الاقتصادية أو من خلال دعم الجماعات السياسية المناوئة لأردوغان، أو حتى الإضرار بالسياسات التركية ضمن ما تعتبرها أنقرة مجالها الحيوي في العراق وسوريا واليونان والقوقاز.
واحدة من المشكلات التي تنتظر الخارجية التركية هو الملف السوري ومسار التطبيع الصعب. فانخراط تركيا في الحرب الأهلية السورية، بني في جزء منه على رغبةٍ منها في تصحيح خطأ عام 2003 حين رفضت أنقرة المشاركة في إسقاط نظام صدام حسين. وقتذاك، رأت تركيا أن الولايات المتحدة تسعى للإطاحة بالدول القومية في المنطقة إنطلاقاً من إسقاط نظام بغداد. لكن مخاوف تركيا تلك وإحجامها ساهم في تمدد إيران وروسيا في المنطقة بعد أن قررت واشنطن التراجع عن نهج التغيير بالقوّة. وبالتالي، وجدت أنقرة أن أفضل صيغة للعيش في منطقةٍ تشهد تنافساً على ملئ الفراغ الأميركي هو تبني الجماعات الإسلامية العربية وتقليد الأنموذج الإيراني في التدخل بالاعتماد على المليشيات الطائفية. لكن طبيعة المنافسة الإقليمية والدولية أرغمت أردوغان على اتباع سياسات عرفت بـ«الاستدارات» في المستويين الدولي والإقليمي. والاستدارات هنا هي تعبير مخفف عن فشل حكومة أردوغان في التحوّل إلى القطب الأقوى في المنطقة.
عربياً أيضاً، ستسعى تركيا إلى إعادة العلاقات مع مصر. وهذا يعني نزع فتيل الأزمة المتمثّل بدعم أنقرة جماعة الإخوان المسلمون. وقد يكفّ الرئيس التركي بالتلويح بإشارة رابعة لجمهوره، بعد أن تخلّص في وقتٍ سابق من ثقل الإعلام الإخواني المعادي للحكومة المصرية. ثمة حاجة أيضاً في الإبقاء على العلاقات مع السعودية والإمارات، إذ نجح البلدان في ثني تركيا عن المواجهة العدمية معهما، بل باتا جزءاً من عملية الإنقاذ شبه المستحيلة للاقتصاد التركي عبر حركة الإيداع المستمرّة. وفي لحظة، قد يفاضل أردوغان بين التوجه لصندوق النقد الدولي لتحقيق الاستقرار الاقتصادي وما يستتبعه ذلك من كشف حجم وحقيقة الفساد المالي في تركيا، وبين الاعتماد على دول الخليج وبيعها الأصول الرئيسية لصناديق الثروة السيادية. وبطبيعة الحال، يمثل الخيار الثاني الطريق الأسلم لأردوغان، وهو ما يعني أن السياسة الخارجية التركية ستلتزم بالموقف الإقتصادي التركي الهش، وما قد يستلزمه ذلك من تنازلات للمودعين العرب.
الآن ومع تولي رجل تركيا القويّ، هاكان فيدان حقيبة الخارجية، وهو ثاني عسكريّ بعد عصمت إينونو يتولى هذه المهمة، فإن الأنظار شاخصة إلى ما سيقدّمه رجل الاستخبارات السابق في كل الملفات التي تركها سلفه مولود جاويش أوغلو الذي لم يجتهد خارج مدرسة أردوغان في الخطابة والانتقادات اللاذعة والاستعراض. والحال هذه، فإن ما ينتظر فيدان سلة ملفّاتٍ ثقيلة ينبغي معالجتها على وجه السرعة. أول تلك الملفات قبول عضوية السويد في حلف الناتو بعيداً عن التذرع بدعم استوكهولم لحزب العمال الكردستاني. إذ تعي السويد أنها تدفع ثمن تعطّل صفقة طائرات إف 16 الأميركية. لكن موافقة تركيا على عضوية السويد تعني حصار صديقها فلاديمير بوتين في البلطيق. وهذا قد يكون خبراً مزعجاً لموسكو التي قد ترد الأذى بأذىً آخر. سيضطلع وزير الخارجية أيضاً بملف إعادة العلاقات مع واشنطن وبروكسل وحلف الناتو وتقليل حجم المشكلات المتأتية عن دعم واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية وتحالفهما في الحرب على تنظيم داعش، وحث واشنطن على إيجاد توازن في موقفها من دعم اليونان وتزويدها بالأسلحة المتطوّرة ورفع كفاءتها العسكرية. وكذا، قد تبرز القضية القبرصية والوصول إلى تسويةٍ بعيداً عن نغمة إنفصال الجزء المحتل تركياً أو إلحاقه بتركيا، إضافةً إلى تطوير شكل التعاطي مع أرمينيا التي تريد من تركيا التوقّف عن دعمها المفتوح لأذربيجان. وقد يكون الأهم من كل ذلك: كيف ستتمكن أنقرة من تطوير مقاربة جديدة فيما خص الحرب الروسية على أوكرانيا، وحدود الحفاظ على سياسة الحياد والوساطة؟
بعد فوز أردوغان بولاية رئاسية ثالثة، برزت إلى السطح نغمة العودة لـسياسة صفر مشاكل. إلّا أنه ثمة صعوبة في عودة تركيا إلى مزاولة هذه السياسة الحالمة والدعائية وذات المسحة الصوفية في العمل الدبلوماسي، والتي دمغت سياسة حكم حزب العدالة والتنمية مطلع حكمه. فمع كمية الخلافات التي تراكمت بفعل سياسات التوسّع والبحث عن أدوار إقليمية وعالمية والتدخّل في شؤون الدول العربية، بات من المتعذّر الحديث عن استعادة هذه السياسة. لذا، فإن الواقعي والمتوّقع هو سعي تركيا إلى تخفيض المشكلات بدل تصفيرها. فالسؤال عن مستقبل الاقتصاد التركي قد تجيب عنه سياستها الخارجية. في هذا المعنى، الاقتصاد يعقّل السياسة الخارجية.
إن ما يؤثّر بدرجةٍ أساسية على استعادة تصفير المشاكل هو عدم قدرة أنقرة على معالجة القضية الكردية المزمنة داخل تركيا وتعقّبها للتطلّعات الكردية في الخارح، الأمر الذي يبدو كمقياسٍ لدرجة صداقتها أو عداوتها لدول العالم والمنطقة. يضاف إلى ذلك، تورّط تركيا في شراء منظومة إس- 400 الروسية وتعثّرها في الحصول على طائرات إف- 16 الأميركية واستبعادها من برنامج مقاتلات إف-35 بموجب سياسة تنويع مصادر التسليح المبنية على فورات الغضب والقياس الاستراتيجي الخاطئ. هذا فضلاً عن الافتراق عن حلف الناتو فيما خص الأزمة الأوكرانية وتغليفها التعاون مع موسكو بأدوار الوساطة والتي نجحت في ملف توريد القمح الأوكراني لكنها فشلت في أن تكون متمماً لخطة عمل الحلف في تضييق الحصار على روسيا. هناك شيء غير مقنع لواشنطن وبروكسل في نهج الوساطة التي تحاول أنقرة تصويره على أنه دورٌ مفيد للجميع. يضاف إلى كل ذلك، إقامة أنقرة لجملة تحالفات مع المعارضات الإسلامية الراديكالية في البلدان العربية التي شهدت حركاتٍ اجتماعية وانتفاضات، ممن يصعب على تركيا التخلّي عنهم لأسباب يطول شرحها.