حسين جمو
ألقى مستشار الأمن القومي الأميريكي جيك سوليفان كلمة في معهد بروكنغز حول تجديد القيادة الاقتصادية الأميركية، ونشر نصها الكامل في الحساب الرسمي للبيت الأبيض على الإنترنت.
يستعرض المركز الكردي للدراسات أهم محاور كلمة المسؤول الأميركي وتسليط الضوء على الجوانب التي أراد سوليفان تقديمها ضمن الاستراتيجية الاقتصادية الأميركية. ولعل من اللافت أن مسؤولاً في موقع سوليفان (مستشار الأمن القومي) أسهب في تقديم ملامح النظام الاقتصادي العالمي المقبل أو النظام الذي تتصوره الإدارة الأميركية أنه يناسبها ويناسب العالم.
استعرض سوليفان في البداية الظروف الجيوسياسية لنمو الاقتصاد الأميركي. فبعد الحرب العالمية الثانية، قادت الولايات المتحدة عالماً منقسماً لبناء نظام اقتصادي دولي جديد انتشل مئات الملايين من الناس من براثن الفقر وانبثقت عنه الثورات التكنولوجية.
لكن العقود القليلة الماضية كشفت عن تصدعات في تلك الأسس، وفق سوليفان. فقد ترك الاقتصاد العالمي المضطرب العديد من الأميركيين العاملين ومجتمعاتهم وراء الركب، كما هزت أزمة مالية الطبقة الوسطى، وكشف الوباء عن هشاشة سلاسل التوريد، ويهدد تغير المناخ الأرواح وسبل العيش.
لذا فإن هذه اللحظة، وفق سوليفان، تتطلب التوصل إلى «إجماع جديد»، في إشارة إلى مبدأ «إجماع واشنطن» (Washington Consensus) الذي طرح في العام 1989 ويتألف من عشرة بنود، وكان بمثابة وصفة للدول الفاشلة التي واجهت صعوبات مالية وإدارية واقتصادية وكيفية تنويع اقتصادها وإدارة مواردها الطبيعية. وشكل «إجماع واشنطن» ذروة تشريع فتح الأبواب أمام البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لتبني هذه البنود وتقديم حزم من المساعدات المشروطة للدول المنهكة اقتصادياً مقابل تحقيق شرط أساسي وهو تحرير الأسواق من سيطرة الدولة.
في ذلك الحين، اعترضت مجموعة واسعة من الدول غير الديمقراطية ضد البعد الدولي الابتزازي لهذا المعيار الليبرالي الذي رسم هوية الرأسمالية ما بعد الحرب الباردة، بما في ذلك تقليص سيطرة الدول على الاقتصاد الوطني لصالح الشركات متعددة الجنسية.
حدد سوليفان صراحة أن مبدأ إجماع واشنطن الجديد، لا يخص الولايات المتحدة وحدها، أو الولايات المتحدة والغرب مع استبعاد الآخرين، بل ستعمل هذه الإستراتيجية على «بناء نظام اقتصادي عالمي أكثر عدلاً واستدامة في كل مكان»، ما يشير مرة أخرى إلى الطابع العالمي لهذا النظام الاقتصادي «المعدّل».
لذلك، تقوم الولايات المتحدة بإعادة النظر في بعض «الافتراضات القديمة». وحدد سوليفان، وفقاً لذلك، أربعة تحديات أساسية كانت ماثلة أمام تحديث الاستراتيجية الاقتصادية حين تولى جو بايدن الرئاسة قبل عامين:
أولاً، استنزاف القاعدة الصناعية الأميركية
فقد تلاشت هالة الاستثمار التي كانت مصدر زخم المشروع الأميركي في أعوام ما بعد الحرب العالمية الثانية. خلال هذه الفترة، تم إفساح المجال لمجموعة من الأفكار التي دافعت عن تخفيض الضرائب وإلغاء القيود والخصخصة وتحرير التجارة، كغاية في حد ذاتها.
كان هناك افتراض واحد في قلب كل هذه السياسة: أن الأسواق تخصص رأس المال دائماً بشكل منتج وفعال.
يضيف مستشار الأمن القومي الأميركي: «لا أحد يقلل من أهمية قوة الأسواق. ولكن باسم كفاءة السوق، انتقلت سلاسل التوريد الكاملة للسلع الاستراتيجية – إلى جانب الصناعات والوظائف التي صنعتها – إلى الخارج. والافتراض القائل بأن التحرير العميق للتجارة من شأنه أن يساعد أميركا على تصدير السلع، وليس الوظائف، كان وعداً تم قطعه ولكن لم يتم الوفاء به».
ما يشير إليه سوليفان في الفقرة السابقة، هو أن الشركات الكبرى، بشكلٍ أو بآخر، تسببت في استنزاف الإنفاق الحكومي، ذلك أنها نقلت عمليات الإنتاج إلى دول ذات تكلفة رخيصة، وهذا ما أسفر عن تضخم أرباح الشركات مقابل فقدان عدد أكبر من الأميركيين لفرص وظيفية في هذه. والحكومة في هذه الحالة مضطرة لتوسيع الإنفاق على مطالبات البطالة والإعانات الاجتماعية والصحية.
يواصل سوليفان تقديم حجته بالقول: «كان الافتراض الآخر المضمن هو أن نوع النمو لا يهم. كل النمو كان يعتبر إيجابياً. لذلك، اجتمعت العديد من الإصلاحات وتضافرت لتمييز بعض قطاعات الاقتصاد، مثل المال، في حين ضمرت قطاعات أساسية أخرى، مثل أشباه الموصلات والبنية التحتية. بالتالي، تلقت القدرة الصناعية الأمريكية – التي تعتبر ضرورية لقدرة أي بلد على مواصلة الابتكار – ضربة قاصمة».
ثانياً، التكيف مع بيئة جديدة تحددها المنافسة الجيوسياسية والأمنية
اعتمد جزء كبير من السياسة الاقتصادية الدولية في العقود الماضية على فرضية أن التكامل الاقتصادي سيجعل الدول أكثر مسؤولية وانفتاحاً، وأن النظام العالمي سيكون أكثر سلاماً وتعاوناً – وأن إدخال البلدان في النظام القائم على القواعد من شأنه أن يحفزهم على الالتزام بقواعدها. لم تسر الأمور على هذا النحو.
بحلول الوقت الذي تولى فيه الرئيس جو بايدن منصبه، كان على الولايات المتحدة أن تتعامل مع حقيقة أن اقتصاداً كبيراً غير خاضع لقواعد اقتصاد السوق الحرة تم دمجه في النظام الاقتصادي الدولي بطريقة فرضت تحديات كبيرة، إذ واصلت الصين تقديم الدعم على نطاق واسع لكل من القطاعات الصناعية التقليدية الصينية، مثل الصلب، فضلاً عن الطاقة النظيفة والبنية التحتية الرقمية والتقنيات.
يعلق سوليفان على هذا التحدي بالقول: «لم تخسر أميركا التصنيع فقط؛ بل أضعفنا قدرتنا التنافسية في التقنيات الهامة التي من شأنها تحديد المستقبل. كما أن التكامل الاقتصادي لم يمنع الصين أو روسيا من توسيع طموحاتهما».
وأشار سوليفان إلى جوهر «إجماع واشنطن الجديد» الذي يحوم حوله في كلمته المطولة بمعهد بروكينغز، وهو أن «عقوداً طويلة من تجاهل التبعات الاقتصادية لتحرير الأسواق أصبح محفوفا بالمخاطر».
ثالثاً، أزمة مناخية متسارعة والحاجة لانتقال مرن وفعّال إلى الطاقة النظيفة
تحدث سوليفان عن التقصير الأميركي في تحقيق الأهداف المناخية. فحين تولى بايدن الرئاسة، لم يكن هناك مسارٌ واضح لإمدادات وفيرة من الطاقة النظيفة المستقرة والميسورة التكلفة. وأشار إلى ما يتردد بخصوص معضلة ما زالت غير قابلة للحل بسهولة، وهو اختيار إما النمو الاقتصادي أو تحقيق الأهداف المناخية.
لقد رأى بايدن الأمور بشكل مختلف، على حد تعبير سوليفان. ومعروف أن بايدن عندما يسمع كلمة «المناخ»، فإنه يفكر في «الوظائف». وهو يعتقد أن بناء اقتصاد الطاقة النظيفة هو أحد أهم فرص النمو في القرن الـ21، ولكن لانتهاز هذه الفرصة، تحتاج الولايات المتحدة إلى استراتيجية استثمار عملية لدفع الابتكار إلى الأمام وخفض التكاليف وخلق وظائف جيدة.
رابعاً، عدم المساواة في النمو وإلحاقه الضرر بالديمقراطية
كان الافتراض السائد هو أن نمو التجارة سيكون شاملاً، وأن مكاسب التجارة سيتم توزيعها على كافة فئات المجتمع. لكن الحقيقة هي أن تلك المكاسب فشلت في الوصول إلى الكثير من الطبقة العاملة. فقدت الطبقة الوسطى الأميركية قوتها بينما كان أداء الأثرياء أفضل من أي وقت مضى. وتم استنزاف المصانع الأميركية في الريف وانتقلت الصناعات المتطورة إلى المناطق الحضرية.
إن أسباب عدم المساواة الاقتصادية معقدة، لكن الأساس – وفق مستشار الأمن القومي – هو عقود من السياسات الاقتصادية المتراكمة، مثل التخفيضات الضريبية وتقليص الاستثمار في المجال العام وتقويض الحركة العمالية التي أسست الطبقة الوسطى الأميركية.
سلط سوليفان الضوء على الإسهامات السلبية للحزب الجمهوري في إصلاح هذا الاختلال، كما انتقد عدم إدراك صناع القرار في الولايات المتحدة، لفترةٍ طويلة، الارتباط الوثيق بين الاقتصاد المحلي والاقتصاد الدولي.
على سبيل المثال، لم يتم توقع ما يسمى بـ«صدمة الصين» التي أصابت قطاع التصنيع الأميركي، ولم تتم معالجتها بشكلٍ كافٍ عند ظهورها.
في المجمل، أفسدت هذه التحديات الأسس الاجتماعية والاقتصادية التي تقوم عليها أي ديمقراطية قوية ومرنة.
عندما تولى بايدن منصبه، كان يعلم أن الحل لكل التحديات هو العمل على ضمان وجود طبقة وسطى أميركية قوية وحيوية.
بعد أن استعرض سوليفان عناوين برنامج إدارة بايدن في الاقتصاد، وفي المقدمة دعم وتوسيع الطبقة الوسطى الأميركية، اقترح رسم سياسة اقتصادية جديدة تكون جزءاً مما أسماه «السياسة الخارجية للطبقة الوسطى».
حتى يتحقق ذلك، تحتاج الولايات المتحدة استراتيجية صناعية جديدة. واستعرض بايدن بالكامل ورقة لأحد أصدقائه، وهو الخبير الاقتصادي بريان ديس، عن هذه الاستراتيجية الصناعية الجديدة بالتفصيل. ويمكن إيجازها بما يلي:
أولاً، إعادة بناء قدرات الإنتاج
تحدد الإستراتيجية الصناعية الأميركية الحديثة قطاعات معينة تعتبر أساسية للنمو الاقتصادي واستراتيجية من منظور الأمن القومي، وحيث لا يتم تحميل القطاع الخاص بمفرده مسؤولية تحقيق طموحات الولايات المتحدة.
ومنا هنا، فإن وظيفة الحكومة في هذه الحالة خلق جاذبية للشركات الوطينة (عبر الإنفاق الحكومي) نحو قطاعات معينة لإرساء أساس لنمو طويل الأمد. بمعنى رأسمالي، تقوم الحكومة بتوجيه الإنفاق نحو قطاعات معينة لإعادة توزيع الإنتاج الرأسمالي. وأطلق سوليفان على هذه العملية بـ«مزاحمة الاستثمار الخاص، وليس استبداله». على رأس هذه القطاعات تأتي أشباه الموصلات.
إذ ارتفعت الاستثمارات في إنتاج أشباه الموصلات والطاقة النظيفة 20 ضعفاً منذ عام 2019، وثلث الاستثمارات التي تم الإعلان عنها منذ أغسطس/آب الماضي، أي قانون مكافحة التضخم، تشمل مستثمراً أجنبياً يستثمر في الولايات المتحدة.
هناك نقاط ضعف أساسية في تحديث الاقتصاد الأميركي. على سبيل المثال، تصنع الولايات المتحدة الآن حوالى 10 في المئة فقط من أشباه الموصلات في العالم. وهذا يخلق مخاطر اقتصادية خطيرة للأمن القومي. لذلك، أقرت واشنطن قوانين تدعم الإنتاج في هذا القطاع داخل الولايات المتحدة.
وبالنسبة إلى المعادن المهمة (العمود الفقري لمستقبل الطاقة النظيفة)، تنتج الولايات المتحدة 4 في المئة فقط من الليثيوم، و13 في المئة من الكوبالت، و صفر في المئة من النيكل والغرافيت المطلوب لتلبية الطلب الحالي على السيارات الكهربائية. في الوقت نفسه، فإن أكثر من 80 في المئة من المعادن الهامة تنتجها دولة واحدة، وهي الصين.
كما تتعرض سلاسل إمداد الطاقة النظيفة لخطر أن يتم استخدامها بنفس الطريقة التي استخدم بها النفط في السبعينيات، أو الغاز الطبيعي في أوروبا في عام 2022. لذلك من خلال الاستثمارات في قانون خفض التضخم وقانون البنية التحتية، يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة.
يضيف سوليفان: «في الوقت نفسه، ليس من الممكن أو المرغوب فيه بناء كل شيء محلياً، هدفنا ليس الاكتفاء الذاتي (إنما المرونة والأمن في سلاسل التوريد الخاصة بنا)».
ثانياً، العمل مع الشركاء
حول هذه النقطة، سرد سوليفان الجهود المشتركة الأميركية الأوروبية للتفاهم حول قضايا خلافية، مثل قانون خفض التضخم الذي يؤثر بشدة على الرأسمالية الأوروبية. وفي الوقت نفسه قام بالتقليل من شأن التناقض المتنامي في ظاهرة يمكن تسميتها بـ«التعددية الرأسمالية»، خاصةً بين الولايات المتحدة وأوروبا. وفي هذا السياق، لن تنتظر واشنطن حلفاءها لكي يتحركوا معها، ولن تنتظرهم، لأن الهدف هو منع الصين من تحويل الرأسمالية الليبرالية إلى رهينة سلاسل الإنتاج. لذلك، ليس من الوارد أن تتنازل الولايات المتحدة لشركائها في أوروبا واليابان والمخاطرة بمصير النظام الاقتصادي العالمي بسبب عدم جاهزية حلفائها لخوض الحرب على تعريف الرأسمالية وطريقة عملها مع الصين. ويقول سوليفان:
«كانت رسالتنا للحلفاء واضحة: سوف نتابع استراتيجيتنا الصناعية في الوطن، لكننا ملتزمون بشكل لا لبس فيه بعدم ترك أصدقائنا وراءنا. نريدهم أن ينضموا إلينا. سيتطلب إنشاء اقتصاد آمن ومستدام في مواجهة الحقائق الجيوسياسية من جميع حلفائنا وشركائنا بذل المزيد.. وليس هناك وقت نضيعه. بالنسبة لصناعات مثل أشباه الموصلات والطاقة النظيفة، لسنا قريبين من نقطة التشبع العالمية للاستثمارات المطلوبة، العامة أو الخاصة».
لفت سوليفان إلى جانب مهم آخر في عقد الشراكات الدولية. فهذا التعاون لن يكون حكراً على الديمقراطيات الصناعية المتقدمة، بل بالمستقبل الواعد للاقتصادات الناشئة والنامية، مثل الشراكة مع الهند في كل شيء من الهيدروجين إلى أشباه الموصلات. ومع أنغولا من خلال طاقة شمسية خالية من الكربون، ومع البرازيل من خلال النمو الصديق للمناخ.
ثالثاً، شراكات دولية مبتكرة جديدة
في هذا البند (الثالث) يعود سوليفان إلى بدايات تفشي وباء كوفيد-19 مطلع عام 2000. أدت التداعيات الاقتصادية للوباء إلى اضطراب في بنية الرأسمالية. في هذا الإطار، عبر عن تفاؤله بمستقبل “الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ»، وهي مبادرة اقتصادية أطلقها جو بايدن في صيف 2022. تضم المبادرة 14 دولة مع إمكانية انضمام دول أخرى في أي وقت. الدرس المستفاد من وباء كوفيد أن الولايات المتحدة تأخرت في توسيع شراكاتها الاقتصادية إلى خارج مناطق حلف شمال الأطلسي والخليج. لذلك، فإن وظيفة «الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ”، وفق سوليفان، عدم السماح بتكرار أزمة سلاسل التوريد المستمرة منذ عام 2020 بسبب هيمنة الصين على إنتاج السلع في العالم.
رابعاً، حشد تريليونات الدولارات للاستثمار في الاقتصاديات الناشئة.
في المحصلة، تريد الولايات المتحدة قيادة مرحلة جديدة من الثورة الرقمية، تضمن أن تقنيات الجيل التالي تعمل – على حد تعبير سوليفان- لصالح ديمقراطياتنا وأمننا، وليس ضدهم. واختتم ورقته بالقول:
كان الرئيس الأميركي جون كينيدي مولعاً بالقول إن «ارتفاع المد يرفع كل القوارب». على مر السنين، خصص دعاة الاقتصاد الحر هذه العبارة لاستخداماتهم الخاصة، لكن كينيدي لم يقل إن ما هو جيد للأثرياء هو جيد للطبقة العاملة أيضاً. كان يعني أننا جميعاً حلقة متكاملة.