الذكاء الاصطناعي.. هل يدشن حقبة جديدة من الهندسة الاجتماعية والإبادة؟

حسين جمو 

نشر الرئيس التنفيذي السابق لشركة غوغل، إريك شميدت، مقالاً مطولاً في مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية، في 28 فبراير/شباط، بعنوان «قوة الابتكار»، وعنوان فرعي أكثر وضوحاً: «لماذا ستحدد التكنولوجيا مستقبل الجغرافيا السياسية؟».
تحدث شميدت، الذي يشغل حالياً منصب رئيس مجلس إدارة شركة «ألفابت» التي تنضوي فيها «غوغل»، عن تاريخ الابتكار التكنولوجي ودوره في الهيمنة السياسية، وكيف غيّرت الأسلحة الحديثة مفهوم النفوذ العالمي. فالعلاقة بين الابتكار التكنولوجي والهيمنة العالمية تعود إلى قرون، وفق شميدت، من البنادق التي استخدمها الجنرال الإسباني فرانسيسكو بيزارو لهزيمة إمبراطورية الإنكا عام 1530، إلى دور الزوارق البخارية في هزيمة اليابان على يد قوات الجنرال الأميركي ماثيو بيري عام 1854.
لكن ما يميز العصر الحالي أن تسارع التطور في قطاع التكنولوجيا لا سابق له في التاريخ. وأوضح مجال على قوة الابتكار ودوره في العالم هو: الذكاء الاصطناعي.
وشميدت ليس فقط قياديٌ إداري كبير في التكنولوجيا، بل ساهم معرفياً في توضيح التأثير المزدوج للتكنولوجيا على الإنسان، وشارك في تأليف كتاب «عصر الذكاء الاصطناعي ومستقبلنا الإنساني» مع وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، والمتخصص في علوم الحوسبة، دانييل هاتنلوشير.
يجادل شمديت في نقاط قوة وضعف رواد التقنيات الأكثر تطوراً. وافتتح مقاله بمثالٍ عن الحرب في أوكرانيا؛ إذ اندفعت القوات الروسية عميقاً في الأراضي الأوكرانية خلال الأيام الأولى من عملية الغزو، حتى أن الاستخبارات الأمريكية توقعت سقوط كييف خلال أسابيع. لكن أوكرانيا كانت أسرع إلى الابتكار التقني مقارنةً بالبطء الروسي. وبحسب شميدت، فإن سرعة تأقلم الحكومة الأوكرانية مع التكنولوجيا المتطورة (بما في ذلك الأسلحة الغربية) كان عاملاً حاسماً في صمودها كل هذه المدة أمام قوة تفوقها في كل شيء باستثناء سرعة التكيف مع التقنيات. وقد يكون استشهاد الكاتب بأوكرانيا مثالاً ملتبساً وموجّهاً. ومن حسن الحظ، أن الطرح لم يتطرق إلى هذا المثال إلا ضمن سياقٍ عام. وبالتالي، لم تفقد رؤية شميدت قيمتها في صياغة فكرة بناء الهيمنة على التكنولوجيا.
يرى شميدت أن القدرة على الابتكار بشكلٍ أسرع وأفضل – الأساس الذي تقوم عليه القوة العسكرية والاقتصادية والثقافية الآن – ستحدد نتيجة المنافسة بين القوتين العظميين: الولايات المتحدة والصين. في الوقت الحالي، لا تزال الولايات المتحدة في الصدارة. لكن تلحق الصين بالركب في العديد من المجالات وتقدمت بالفعل في مجالاتٍ أخرى. للخروج منتصراً من هذه المنافسة، التي تحدد مصير ومسار هذا القرن، فإن العمل النمطي المعتاد لن يفي بالغرض. بدلاً من ذلك، سيتعين على حكومة الولايات المتحدة التغلب على دوافعها البيروقراطية المتعثرة، وخلق ظروفٍ مواتية للابتكار، والاستثمار في الأدوات والمواهب اللازمة لإطلاق عصرٍ جديد من التقدم التكنولوجي.
الواقع أن أطروحة شميدت ليست جديدة، لكنها ملائمة في الظرف الحالي لأن ما كان يبدو مجرد تنبؤاتٍ مستقبلية قبل أعوامٍ قليلة بدأ يتحقق، مثال ذلك برنامج «تشات جي بي تي» لإنتاج النصوص الآلية بجودةٍ عالية وثرية بالمعلومات إلى حدٍ كبير ومعالجة تحريرية وقواعدية سليمة.

إذا استمر المسار الحالي في تلاشي مفهوم «الأمن الجماعي» وفق مبادئ الأمم المتحدة، فإن البشرية تواجه – في الجانب العسكري – مجازر متسلسلة تطال شعوباً كاملة من دون أي خشية من المساءلة.

إذا عدنا للتاريخ، نجد أن تفوق أي امبراطورية كان مرتبطاً إلى حدٍ كبير بجانب تكنولوجي متفوق في ذلك العصر. لقد بنت الدولة العثمانية توسعها بمدافع البارود العملاقة. وبما أن هذا التفوق كان فقط في جانبٍ عسكري، فإن قوتها بدأت تتلاشى بتسارع منذ انكسار حصار فيينا عام 1683. وما كان بالإمكان ظهور تفوق البحريتين الإسبانية والبرتغالية في القرن السادس عشر لولا التقدم التعليمي الشامل وتتويجه بثورةٍ في إعادة رسم الخرائط البحرية. وعلى صعيدٍ أضيق بكثير، على مستوى القبائل والعشائر في كردستان وشبه الجزيرة العربية، فإن القوى المجتمعية التي سادت في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين هي التي حصلت على بنادق أكثر تطوراً من المنافسين المجاورين، كما في حالة قبيلة هموند (الصغيرة مقارنة بالتحالفات الكردية الكبرى) في جنوب كردستان، وبارزان على نهر الزاب.
في كل الأحوال، لم يعد المسار التقني السابق يصلح في عالم اليوم. ولعل مسيرة شركة «نوكيا» للهواتف النقالة كان مثالاً مبكراً للواقع الجديد؛ فمن اكتفى بنجاحٍ واحد لا مكان له في المستقبل. وهذا التسارع الاضطراري في الابتكار من أجل البقاء غيّر مفهوم الاستهلاك بشكلٍ جذري في السنوات الأخيرة، إلى درجةٍ لم يعد المستهلك يقرر ما يريده بل أضحى مجبراً على شراء المنتجات الحديثة للبقاء على صلةٍ مع هذا العالم.
يتوقف تحديد هوية القوة العظمى في القرن الحالي على سرعة الاستثمار في تطبيقات الذكاء الاصطناعي. وفق شميدت، يمكن أن يؤدي اختراق هذا المجال إلى عصرٍ من الهيمنة لا يختلف عن الفترة القصيرة من التفوق النووي الذي تمتعت به الولايات المتحدة في أواخر الأربعينات.
وعلى الرغم من أن شميدت لا يخفي قلقه الشديد من تأثير التكنولوجيا التدميري على الحياة البشرية، إلا أن ما لديه من مخاوف لا يرتقي إلى ما عبر عنه كيسنجر. ففي مقالٍ نشره في 2018 في مجلة «ذي أتلانتيك» بعنوان «كيف ينتهي عصر التنوير؟»، أي قبل صدور كتابه المشترك بثلاثة أعوام، كتب كيسنجر: «من الناحية الفلسفية، ومن الناحية الفكرية، ومن كل ناحية ممكنة، ليس المجتمع البشري مهيأ لصعود الذكاء الاصطناعي».
وفي محاضرةٍ العام الماضي، قال كيسنجر إن الأسلحة النووية بكل ما لها من قدرات تدميرية «ليست لديها هذه القدرة [أي قدرة الذكاء الاصطناعي] بحيث تعمل من تلقاء نفسها على أساس تقديراتها، وبناء على تصوراتها، لوجود خطر أو لتحديد هدف».
ولمخاوف كينسجر ما يبررها؛ فالطائرات المسيرة مثالٌ فاقع لدور الآلة في إلحاق دمارٍ هائل بالخصوم. وغيّر استخدام هذه التقنية مسار حروبٍ عديدة في الآونة الأخيرة. وكان من الصعب أن يصمد آبي أحمد في حكم إثيوبيا أمام جبهة تحرير تيغراي لولا حصوله على طائرات مسيّرة متطورة، وكذلك تفوق أذربيجان في الحرب الأخيرة على أرمينيا بناءً على هذه التقنية.
والمسيّرات الحالية، بما فيها التركية، مثالٌ بدائي للغاية مقارنةً بما يمكن أن يحدثه الذكاء الاصطناعي في رسم التفوق العسكري إلى درجةٍ سيشهد العالم حروباً لا يقاتل فيها البشر، إنما فقط آلات قاتلة تتصرف وفق خوارزميات مهمتها قتل أكبر عدد ممكن من قوات وسكان «العدو». وإذا استمر المسار الحالي في تلاشي مفهوم «الأمن الجماعي» وفق مبادئ الأمم المتحدة، فإن البشرية تواجه – في الجانب العسكري – مجازر متسلسلة تطال شعوباً كاملة من دون أي خشية من المساءلة.
في العموم، يحصر كبار المتابعين لخطورة ومزايا الذكاء الاصطناعي، على غرار كيسنجر، المنافسة العالمية بين الولايات المتحدة والصين. وهو ما ذهب إليه شريكه في الكتاب، شميدت، بقوله:
«سيكون العامل الحاسم في صراع القرن – التنافس بين الولايات المتحدة والصين – هو قوة الابتكار. إن التقدم التكنولوجي في الأعوام الخمسة إلى العشرة المقبلة سيحدد الدولة التي لها اليد العليا في هذه المنافسة التي تشكل العالم».

أين أوروبا من هذه المعادلة؟

نشرت وكالة الصحافة الفرنسية (فرانس برس) في 28 فبراير/شباط، تقريراً بعنوان «الأوروبيون ينطلقون متأخرين في سباق الذكاء الاصطناعي». إذ أحدثَ إطلاق برنامج «تشات جي بي تي» صحوةً لدى الشركات الأوروبية التي لم تسلّم بخسارة السباق، بل شرعت في مساعٍ للحاق بالركب على أمل دخول سوق الذكاء الاصطناعي التوليدي الواعدة.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، تنافس عمالقة التكنولوجيا الأميركيون في إطلاق نماذج قادرة على إنتاج نصوص أو صور. في المقدمة، «تشات جي بي تي» ونموذجها «جي بي تي-3» الذي أنشأته شركة «أوبن إيه آي» المتحالفة مع «مايكروسوفت». كذلك، تتزاحم «غوغل» و«أمازون» و«ميتا» (فيسبوك) و«آبل» على إطلاق برمجياتها الخاصة في هذا المجال، من دون إغفال مجموعة «بايدو» الصينية.
في أوروبا، وبسبب نقص الشركات العملاقة، تُطلق عشرات الشركات الناشئة أدواتها الخاصة، بدءاً من مصممي التطبيقات القائمة على نماذج الذكاء الاصطناعي الحالية، إلى تلك الأكثر ندرة التي تطور نماذج خاصة بها.
لكن تعتمد هذه البرامج كلها على آلاف سطور التعليمات البرمجية التي يتم تشاركها بحرية (عبر برامج «مفتوحة المصدر») من جانب باحثين أوروبيين وأميركيين، بعضهم يتحدرون من شركاتٍ كبرى في مجال التكنولوجيا.
وتجمع هذه الشركات كلها أموالاً، لكنّ قيمتها تُقدّر بعشرات الملايين من الدولارات، بعيداً عن مليارات الدولارات التي تنفقها المجموعات الأميركية العملاقة: «مايكروسوفت» و«غوغل» و«ميتا».
من بين المتحدثين في التقرير لوران دوديه، الشريك المؤسس لشركة «لايتون» التكنولوجية، وأدلى بتصريحٍ يلخّص الهامش الذي تتحرك فيه الشركات الأوروبية في ظل الأوضاع الحالية: «لن نقاتل في هذا المجال حيث يتفوق الأميركيون..».

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد