بعد الزلزال.. تركيا بحاجة إلى مؤسسات قوية لا رجل قوي

غونول تول*

أثبتت الفكرة القديمة القائلة بأن الأنظمة الاستبدادية أفضل من الديمقراطية صحتها في العديد من الحالات، خاصةً خلال جائحة فيروس كورونا. وهو ما أكده بعض المحللين الغربيين بأنه في حين أن الدول الديمقراطية كانت تتعثر وتناقش، كانت الأنظمة الاستبدادية سريعة في الاستجابة وتهيئة مواردها. قد يكون هذا صحيحاً في بعض الحالات، لكن فقط في حالة الاستبداد الصحيح. واتضح أن الاستبداد في تركيا تحت حكم الرئيس رجب طيب أردوغان ليس من النوع الصحيح.
كانت استجابة أردوغان للزلزال المدمّر الذي ضرب البلاد بطيئةً وغير منظمة بشكلٍ يناسب كارثة كهذه، في وقتٍ يفترض أن تكون الاستجابة في الأنظمة التي تتمركز فيها السلطة بيد رجلٍ واحد سريعةً ومنظمة. كل ما كان على أردوغان فعله هو إرسال ثاني أكبر جيش في حلف الناتو إلى المدن المتضررة، واستخدام البيروقراطية لإرسال المساعدات التي تشتد الحاجة إليها، ونشر فرق الاستجابة للطوارئ. بعد دقائق فقط من وقوع الزلزال، الذي بلغت قوته 7.8 درجات، في عشر ولايات تركية، استعدت قوات الجيش للتدخل والمشاركة في عمليات البحث والإنقاذ. ومع ذلك، في الساعات الأولى الحاسمة للإنقاذ، لم يكن هناك تنظيمٌ وتنسيق بين الجهات العليا، ولم تسرع رئاسة إدارة الكوارث والطوارئ التركية لمساعدة الضحايا.
يخبرنا تيموثي فراي في كتابه «الرجل القوي الضعيف» أن الرجال الأقوياء ليسوا أقوياء كما نعتقد جميعنا. أن تكون مستبداً ليس بالأمر السهل. يواجه القادة الأوتوقراطيون، لا سيما في الأنظمة الشخصية الاستبدادية مثل تركيا، مقايضاتٍ. يكتسب قادة كهؤلاء الدعم الشعبي من خلال الوعود التي يقدمونها. لكن هذه القاعدة الشعبية التي يبنوها تنتهي عند عدم القدرة على الايفاء بالوعود التي قدّموها. أول ما يقوم به مثل هؤلاء القادة إضعاف مؤسسات الدولة. لكنهم لا يعلمون أن المؤسسات الضعيفة تجعل الحكم أكثر صعوبة بالنسبة إليهم، وتؤدي في نهاية المطاف إلى انهيار حكمهم القوي.
لقد أفرغ أردوغان، خلال عشرين عاماً من تولّيه الرئاسة، مؤسسات البلاد، ووضع مؤيدين له غير أكفاء في مناصب رئيسية ليجعل كامل السلطة في البلاد تتمركز في يده، ما جعله الرجل الأقوى، لكن الدولة بالكامل باتت تابعة له. من أبرز الأمثلة على التآكل المؤسساتي، قمع أردوغان للجيش التركي، والذي تجاوز كثيراً الهدف المشروع من هذا القمع والمتمثل في الحد من دور الجنرالات في السياسة.
إن الإغاثة في حالات الكوارث جزءٌ مهم من عمل معظم الجيوش، إذ يمكنها التصرف بسرعة وتقديم الدعم الطبي واللوجستي بعد الكوارث الطبيعية. جرّد أردوغان الجيش من قدرته على الاستجابة دون الاكتراث للكوارث التي قد تحدث مثل الزلازل، وأسس مركز إدارة الكوارث والطوارئ لتولي هذا الدور كجزءٍ من جهوده للحد من سلطة الجنرالات.

بعد ذلك، سرعان ما أصبحت الوكالة مثل أي وكالة حكومية أخرى في تركيا: أداة لأردوغان لتعزيز حكمه في الداخل والخارج. لقد حشد إدارة الكوارث والطوارئ بالموالين غير الأكفاء، وجعلها جزءاً من شبكةٍ من منظمات المساعدة القائمة على الدين لتعزيز مكانته كـ«حام للمسلمين» في جميع أنحاء العالم. تظهر الإعلانات التي تُعرض من قبل إدارة الكوارث بشأن كيفية تقديم المساعدات للمسلمين المحتاجين في جميع القنوات التلفزيونية والصحف الموالية للحكومة، ويتم عرضها أيضاً في البلديات التي يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية التابع لأردوغان.
في الواقع، تفتقر إدارة الكوارث والطوارئ إلى الموارد والخبرة ورأس المال البشري لتنفيذ المهمة التي تم إعدادها لأدائها. الشخص المسؤول عن قسم الاستجابة للكوارث خريج علوم دين وليس لديه خبرة في الإغاثة في الكوارث، وخدم سابقاً في مديرية الشؤون الدينية في تركيا. على الرغم من أوجه القصور المعروفة لدى إدارة الكوارث والطوارئ، إذ أن ميزانيتها صغيرة ويعمل فيها حوالى 7000 شخص_، إلا أن المسؤولية بعد الزلزال كانت ملقاة بالكامل على عاتقها، وكان يجب أن تمر كافة جهود الإنقاذ والمساعدات الإنسانية عبرها، ولا يمكن لأي وكالةٍ حكومية أخرى أو مجموعة مساعدات دولية أو منظمة غير حكومية أن تحرّك ساكناً من دون إذن إدارة الكوارث والطوارئ. حتى وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، الذي انتُقد لعدم نشره قوات الجيش في المناطق المتضررة من الزلزال بسرعةٍ كافية، ألمح إلى أن قواته كانت مستعدة لتقديم المساعدة لكنها لم تحصل على الأمر مطلقاً. مات عشرات الآلاف من الضحايا لأن أردوغان ومن حوله لم يرغبوا في أن يتفوق أي شخص، لا سيما الجيش، على الوكالة التي أسسوها.
لم يستطع أردوغان الوفاء بالوعود التي قدمها في أحلك أوقات تركيا، لأن حكم الرجل الواحد أعاق مؤسسات البلاد وقوض أسس الحكم.
لم يسلط الزلزال الضوء فقط على كيفية إضعاف أردوغان قدرة الدولة في العقدين الذين قضاهما في السلطة، بل كشف أيضاً مكامن أولويّاته. مثل كل الحكام المستبدين، واجه أردوغان مفاضلة بين دعم عائلته والدائرة المحيطة به وبين خدمة الشعب. من الصعب تحقيق توازنٍ كهذا، فإذا اختار إرضاء المقربين منه والمؤيدين له على حساب الشعب، فقد يواجه احتجاجاً شعبياً. وإذا قرر خدمة شعبه من خلال إعادة توجيه الإنفاق الحكومي على حساب المقرّبين منه، فقد يواجه تحدياً من الدائرة الصغيرة المحيطة به.
في العقد الماضي، اختار أردوغان بشكلٍ واضح خيار إرضاء المقرّبين منه. إن سياسته النقدية المثيرة للجدل وغير التقليدية لخفض أسعار الفائدة، على الرغم من التضخم المتصاعد، جعلت من الدائرة الثرية المحيطة به أكثر ثراءً، في حين أدى ازدياد أسعار المواد الغذائية والإيجارات المرتفعة إلى رفع نسبة الفقراء، مع عجز ملايين الأتراك عن تلبية احتياجاتهم الأساسية. أكسب منح عقود البنية التحتية والبناء للمقرّبين من دون الالتزام بأدنى معايير السلامة الأساسية للبناء، الدائرة الداخلية لأردوغان مليارات الدولارات،في حين تحوّلت المساكن الرديئة التي بنوها إلى قبورٍ لعشرات آلاف الأشخاص.
قد يدفع أردوغان ثمن كل ذلك أخيراً. من المرجح أن تجري الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا في مايو/أيار. بغض النظر عن مدى صعوبة محاولة وسائل الإعلام التي يسيطر عليها أردوغان في تدوير الأمور، فإن حجم الدمار الهائل يجعل من المستحيل على أردوغان إخفاء استجابة حكومته غير الكفؤة. كما أن تأجيل الانتخابات إلى موعدٍ لاحق لن يحل مشاكله المتراكمة منذ عقدين، في وقتٍ ضاعف الزلزال من مشاكل تركيا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحالية.
تعتبر تركيا في عهد أردوغان مثالاً واضحاً بأن الزعماء الأقوياء لا يجلبون الاستقرار ولا يوفون بالوعود. فغالباً ما يكونوا في أسوأ حالاتهم عندما تكون بلادهم في أمس الحاجة إليهم. المأساة التي حلت قبل أسبوعين تؤكد بأن تركيا ليست بحاجة إلى رجلٍ قوي، بل إلى مؤسسات قوية قادرة.

غونول تول هي مديرة مؤسسة لـ “مركز الدراسات التركية” في “معهد الشرق الأوسط” وأستاذة مساعدة في “معهد دراسات الشرق الأوسط” في “جامعة جورج واشنطن”.

المصدر:فورين بوليسي

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد