ثمّة وجه آخر للدولة التركية في هذه الأزمة وهو هنا الأعمال/العمليات التي تقوم بها الأجهزة المعنية بالحرب الخاصة، مثل الإسراع في تنفيذ مخطط تتريك مقاطعة عفرين، عبر «قوننة» تهجير الكرد منها، وتسجيل المباني والأراضي المتضررة من الزلزال باسم المستوطنين الذين جلبتهم الدولة التركية بعد احتلالها لعفرين وتهجيرها للكرد، بغية إحداث التغيير الديمغرافي في المنطقة، وكذلك استغلال الزلزال والتواجد الدولي، بغرض الإنقاذ والإغاثة، في شرعنة سياسة التتريك والتطهير العرقي وجعلها أمراً واقعاً يقبل بها العالم، ويكون شاهداً عليها أيضاَ.
طارق حمو
يحاول تحالف حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية (الفاشي تماماً، كما ينبغي التأكيد دائماً) الاستفادة من «المتغير» الحاصل في تركيا، أي كارثة الزلزال، لتحقيق مكاسب، وإنقاذ نفسه من الانهيار، وتحويل «الأزمة» إلى فرصةٍ جديدة للنجاح، وطوق نجاة له من الهزيمة في الانتخابات المقبلة، وبالتالي الإزاحة عن السلطة في تركيا.
يحاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وشريكه دولت باهجلي، رئيس الحركة القومية، تفعيل ـ وإعادة تأهيل ـ المجموعات والميليشيات الأوليغارشية ( الإعلامية والاقتصادية) المحيطة بهما، بغية امتصاص حالة الغضب الشعبي الناتجة عن مسؤولية الحكومة والدولة عما حاق بالناس من أضرارٍ مهولة عقب الزلزال المدمر، جراء الإهمال في أعمال البناء والتشييد التي لم تراعي المواصفات البنائية والفنية المطلوبة. وذخيرة التحالف الحاكم في تركيا هي، كالعادة، استغلال الدين وتصوير ما حدث وكأنه «امتحانٌ من الله»، و«تنفيذٌ لمشيئة إلهية لا مناص منها». وبالتالي، فإن تدخل الحكومة والدولة في مرحلة ما بعد الزلزال، ما هو إلا «محاولة دنيوية لإنقاذ البشر»، مع التقبّل التام لـ«القضاء والقدر» الذي دمرّ مناطق شاسعة ودفن تحت الأنقاض عشرات الآلاف من الأبرياء (قال والي شرناخ في سقطةٍ ملفتة إن عدد ضحايا الزلزال يفوق المعلن بخمسة أضعاف!). ناهيك عن الذخيرة الأخرى في جعبة التحالف الحاكم وهي: نظرية المؤامرة، واعتبار كل من يشير إلى إهمال وتقصير الحكومة معادياً ومدسوساً وطابوراً خامساً، وهم هنا «تشكيلةٌ موسعة» تضم كل خصوم أردوغان ومنتقديه في داخل وخارج تركيا.
وعلى الرغم من سيطرة أردوغان والمجموعات والميليشيات الأوليغارشية التابعة له على فضاء الإعلام وحجب المواقع وشبكات التواصل الاجتماعي وملاحقة الصحافيين بالاعتقالات والدعاوي القضائية، إلا أنّ ما ظهر من حجم الدمار كان كافياً لشرح جوهر وحقيقة الطغمة التخريبية الناهبة الفاسدة التي تحكم تركيا، والتي لم تنجح على الرغم من قيادتها للبلاد منذ 2002 في بناء البلاد وتطوير البنية التحتية بشكلٍ سليم، إذ يمكن من خلاله تبيّان الفرق بين حجم ومشاهد الدمار في كل من سوريا وتركيا!.
بدت المدن والقرى التركية المتصدّعة من جراء الزلزال في وضعٍ كارثي. وظهر أن البناء والخدمات ليست بأفضل من الجار السوري الذي تعرض إلى الزلزال المدمر نفسه. شاهد العالم المنازل والأبنية في الجانب التركي مهدّمة ومنهارة ومتصدعة، مثلها مثل المنازل والأبنية في سوريا، تلك الدولة التي تشهد حرباً طاحنة مدمرة، وغياباً للدولة والخدمات والخطط، منذ أكثر من عشرة أعوام.
كشف الزلزال الكارثة، ولكن أيضاً الفضيحة، مدى فساد واستهتار الطبقة الحاكمة في تركيا التي تدير البلاد بشعاراتٍ براقة. كشف الزلزال عن بلدٍ متخلّف البنية من العالم الثالث ينخر فيه الفساد والفوضى والعشوائيات، ويتم فيه تمرير الصفقات وأعمال البناء والإنشاءات عبر شبكات فسادٍ ومحسوبيات ومقايضات، بعيدة عن مراقبة ومحاسبة وملاحقة الدولة. كذلك، كشف الزلزال، في الجزئية الكردية منه، عن عقلية استعمارية انتقامية لا تبالي بحياة البشر. فالمهم بالنسبة إلى تحالف العدالة والتنمية والحركة القومية القائم على الحرب ـ والمتغذي منها ـ إحكام القبضة الأمنية على الولايات الكردية، والتضييق على حزب الشعوب الديمقراطي، ومنع أي عملية بناءٍ وتطوير قد تحدث. لذلك، لم يكن مستغرباً أن أول خطوة من جانب الحكومة إعلان حالة الطوارئ في الولايات الكردية المتضررة من الزلزال. وظهر بأن الحكومة شكّلت مباشرةً غرفة لإدارة الأزمة تختص في الجانب الأساسي منها في ممارسة السياسة الاقصائية العنصرية حيال الكرد، عبر حجب المساعدات عنهم وإخضاع إجراءات توزيع هذه المساعدات للضوابط الأمنية من خلال تعيين شخصيات هم أعضاء في حزب العدالة والتنمية (حزب الدولة!) للإشراف على عمليات الإنقاذ وتوزيع المساعدت والتموين، تبعاً للولاءات والتوجهات السياسية للمتضررين، وعليه، يتم حجب المساعدات عن المواطنين الكرد المتعاطفين مع حزب الشعوب الديمقراطي ومنحها لمن يشيد مقدماً بالحزب الحاكم وبشخص أردوغان ويشكر الدولة على «التدخل السريع» و«الجهود الخارقة» في الإنقاذ والمساعدة، واعتبار وعود الحكومة ببناء منازل جديدة ومنح قروض ورواتب دائمةّ، وكأنها حدثت فعلاً!
وثمّة وجه آخر للدولة التركية في هذه الأزمة وهو هنا الأعمال/العمليات التي تقوم بها الأجهزة المعنية بالحرب الخاصة، مثل الإسراع في تنفيذ مخطط تتريك مقاطعة عفرين، عبر «قوننة» تهجير الكرد منها، وتسجيل المباني والأراضي المتضررة من الزلزال باسم المستوطنين الذين جلبتهم الدولة التركية بعد احتلالها لعفرين وتهجيرها للكرد، بغية إحداث التغيير الديمغرافي في المنطقة، وكذلك استغلال الزلزال والتواجد الدولي، بغرض الإنقاذ والإغاثة، في شرعنة سياسة التتريك والتطهير العرقي وجعلها أمراً واقعاً يقبل بها العالم، ويكون شاهداً عليها أيضاَ. هذا غير المعلومات التي تتحدث عن اختفاء مئات الأطفال الكرد في المنطقة ممن فقدوا عائلاتهم في الزلزال وباتوا من دون معيل. وثمة حديثٌ عن مسؤولية أجهزة معينة في الدولة التركية عن عمليات الخطف هذه بهدف إخضاع هؤلاء الأطفال مستقبلاً إلى برامج خاصة تغسل فيها أدمغتهم ويتم تتريكهم وشحنهم بالافكار الفاشية العنصرية لكي يتحولوا إلى «ذئاب رمادية» وأدواتٍ في الحرب ضد الحركة الوطنية الكردية، وهي سياسة قديمة وإرثٌ استعماري معروف لدى تركيا ومن قبلها السلطنة العثمانية.
لقد تحدث مسؤولون بارزون في حزب العمال الكردستاني مؤخراً، وضمن تقييمات لهم بشأن كارثة الزلزال وسياسة التحالف الحاكم في تركيا، عن أوجهٍ كثيرة في سياسة الحكومة التركية حيال الكرد والقضية الكردية ظهرت وستظهر بعد الزلزال. وأشارت هذه التقييمات والتحليلات إلى الإهمال المتعمد من قبل الدولة للنواحي الفنية في البناء والعمران في ولايات كردستان، وكيف أنه لم يتم صرف أي مبالغ من (صندوق الزلازل) الذي أقامته الدولة منذ عام 1999، وجمعت فيه ما يربو على 35 مليار دولار، لاستثمارها استباقياً في تقوية البنية التحتية في المناطق المعرضة للزلازل، بالنظر أيضاً إلى أن جل هذه المبالغ لم يتم صرفها أساساً، وما صرف لم يذهب لأي أعمال بناءٍ أو تطوير في ولايات كردستان. هذا ناهيك عن مخططات تتريك عفرين التي بدت واضحة وظاهرة للعيان، وكذلك مخططاتٍ جديدة/قديمة لتهجير الكرد العلويين من ولايات مرعش وديلوك وسمسور، وبشكلٍ خاص مناطق بازارجق وآلبستان ذات التواجد الكردي العلوي الكثيف والمعروفة بنزعتها القومية وبتعاطف أبنائها، داخل وخارج تركيا، مع الحركة الوطنية الكردية. ويظهر من لائحةٍ أعدّتها دوائر في الحكومة التركية بأن التعليمات تشير إلى ضرورة توجه المتضررين من الزلزال ممن أزيلت دورهم ومنازلهم بشكلٍ كامل ولم يعد لديهم مأوى، إلى مدن ومناطق في الداخل التركي. وبحسب جدول نشره الصحافي زنار روني في مقالٍ نشرته صحيفة «Xwebûn» الكردية التي تصدر في ديار بكر في 27 فبراير/شباط، فان التعليمات الصادرة لأبناء المدن والمناطق الكردية (محددة بالاسم) التي تضررت من الزلزال تقول بضرورة توجههم إلى منطقة أو مدينة (أيضاً محددة بالاسم) تقع في الداخل التركي. ولا يوجد أي مدينة كردية بين هذه المدن أو المناطق التي ينبغي على المتضررين الكرد التوجه إليها. ويوضح هذا الأمر مدى رهان الدولة العميقة ودوائر الحرب على قضية تهجير الكرد إلى الداخل التركي وإخضاعهم هناك لبرامج وخطط خاصة تعدها الدولة، بهدف تتريكهم وفصلهم عن تراب وتراث كردستان. ويستعرض الكاتب هذه السياسة المتجذرة، بشكلٍ زمني، بعد كل زلزال ضرب ولايات كردستان منذ القدم وإلى العصر الحديث: أول زلزال تم رصده وتسجيله من قبل المؤرخين كان عام 1045.
لا شك أن التحالف الحاكم في تركيا سيستمر في استثمار كارثة الزلزال بغية تمرير مخططه الرامي إلى البقاء في السلطة والحيلولة دون نجاح قوى المعارضة في الاستفادة من تداعيات ما حدث ومن الفشل الحكومي والتعامل مع تداعيات الكارثة وتحمل تبعاتها. يحاول التحالف الحاكم أن يمتص الصدمة ويشتت الأصوات المعارضة ويبدد حالة الحنق والغضب حياله. وهو يستغل في ذلك المؤثرات الدينية والقومية ونظريات المؤامرة والسيناريوهات المتخيلة عن «هجماتٍ نووية غامضة وقعت تحت الأرض، شنتها دول غربية تريد تدمير وتقسيم تركيا» ! لا شك بأن مخططات محاربة الكرد وحركتهم الوطنية وتدمير ولايات كردستان وتهجير مئات الآلاف، وربما ملايين، الكرد إلى الداخل التركي والنيل من حزب الشعوب الديمقراطي وتتريك عفرين وترتيب صفوف الميليشيات التابعة للمعارضة السورية فيها وتثبيت حضورها في عموم الشمال السوري وتصفية الشخصيات الوطنية الكردية داخل وخارج تركيا، سوف تستمر، وبوتيرةٍ أكبر، بغية التغطية على تداعيات الزلزال وخنق الأصوات المعارضة والتشويش عليها. والهدف الأكبر هو إطالة عمر السلطة وأذرعها من أجل الاستمرار في الحكم ونهب البلاد عبر المزيد من إرهاب الدولة وإشاعة الفوضى والحروب الأهلية والمناطقية وتغذية التنظيمات التكفيرية وتمويل الجماعات الاجرامية والميليشيات الخارجة عن القانون ونشر الخراب.