كانت تلك الليلة باردة جداً. على مهبطٍ ترابي بالقرب من مدينة كوباني شمال شرق البلاد، انتظرت مع طوابير طويلة من جنود القوات الأميركية الخاصة خلف طائرةٍ ضخمة من طراز C-17. كانت محركاتها الكبيرة متوقفة مؤقتاً، وتم وضع توابيت مغطاة بالأعلام ونقلها على متنها. في كل منهما، واحد من أربعة عسكريين ومدنيين أميركيين قُتلوا في هجوم 16 يناير/كانون الثاني 2019 في مطعم في منبج، لتنطلق الطائرة بعدها وتحلق في السماء المظلمة.
بعد أربعة أعوام، لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بقواتها في شمال شرق سوريا، وإن كان عددهم يقارب نصف ما كان عليه في ذروة القتال ضد تنظيم داعش. لكن من الضروري جداً تقييم ما إذا كان هذا الوجود لا يزال مفيداً، نظراً للمخاطر والتكاليف، وفي ضوء التهديد الذي يشكله هذا التنظيم حالياً.
في مراجعة سريعة لإنجازات القوات الأميركية، في عام 2015 تم نشر مشغلين أميركيين خاصين في شمال شرق سوريا للارتباط بشريكنا المحلي على الأرض: قوات سوريا الديمقراطية، ومواجهة تنظيم داعش وجهاً لوجه. في ذلك الوقت، كان التنظيم لا يزال يتمتع بما يسمى بالخلافة المادية، والتي تشير إلى السيطرة على عشرات الآلاف من الأميال المربعة والمدن الرئيسية في سوريا، وأكثر من ذلك في العراق. نسقت القوات الأميركية مع قادة قوات سوريا الديمقراطية والوحدات التكتيكية، وقدمت غطاء جوياً والمشورة والمساعدة في العمليات العسكرية اليومية وعمليات مكافحة الإرهاب. كذلك، استطاع مقاتلو قوات سوريا الديمقراطية، التي تمتلك الدافع الإيديولوجي والانضباط العالي، من الرجال والنساء التصدي للتنظيم وهزيمته في معارك ضارية في كوباني ومنبج والرقة وديرالزور.
كما ساعدت القوات الأميركية قوات سوريا الديمقراطية على حفظ الأمن في السجون المؤقتة التي تضم حوالى 10 آلاف من مقاتلي «داعش» المحتجزين الذين تم أسرهم في ساحة المعركة أو خلال عملياتٍ مشتركة منتظمة لمكافحة الإرهاب. ساعدت القوات الأميركية الخاصة أيضاً، بقيادة فرق الشؤون المدنية، قوات سوريا الديمقراطية على استعادة الحكم المحلي والأمن حيث عاد المدنيون السوريون النازحون إلى ديارهم وحاولوا إعادة الحياة الطبيعية في الأماكن التي تضررت، كما قاموا بتمويل البنية التحتية مثل تجديد المدارس والعيادات وإصلاح شبكات المياه والجسور المتضررة.
تحولت القوات الأميركية الخاصة بعد استسلام «داعش» في الباغوز في مارس/ آذار 2019 من الدعم القتالي إلى التدريب وغيره من أشكال الدعم لعمليات مكافحة الإرهاب التي تقودها قوات سوريا الديمقراطية. عملياً، لقد هزيمة التنظيم والقضاء على قياداته، لكنه دائماً ما يستغل الفرص ليعيد بناء نفسه ببطء (كما هو الحال في العراق).
على الرغم من أن الوجود الأميركي محدود في سوريا، إلا أن أنه مهم جداً. لأنه إذا انسحبت الولايات المتحدة بشكلٍ كامل، من المرجح أن ينشط «داعش» من جديد وبسرعة نسبية. ومن المؤكد أن التنظيم سيشعر بالجرأة لتكثيف العمليات في سوريا، وهو ما حدث العام الماضي من خلال الهجمات الانتحارية، والتي نجحت قوات سوريا الديمقراطية في التصدي لها بالتعاون مع القوات الأميركية.
في الوقت ذاته، سيؤدي الانسحاب الأميركي بشكلٍ كامل إلى تحوّل المناطق ذات الأغلبية العربية والتي يسيطر عليها الكرد إلى مناطق غير مستقرة، ما يوفر المزيد من الفرص لنشاط «داعش» من جديد. كذلك ستشعر قوات سوريا الديمقراطية بأن لا ضرورة الاستمرار في قتال التنظيم ومواءمة السياسة مع واشنطن.
قد يشجع الانسحاب الأميركي أيضاً على غزوٍ جديد لشمال شرق سوريا من قبل تركيا، التي تعتبر قوات سوريا الديمقراطية جزءاً من التهديد الكردي الأوسع. إذا غزت تركيا، من المحتمل أن تتزعزع قوات سوريا الديمقراطية، و من المؤكد أن محاربة «داعش» ستتوقف.
والأسوأ من ذلك، يمكن أن يؤدي انسحاب القوات الأميركية، كما وصفه أحد المحللين، إلى «حرية دموية للجميع» في شمال شرق سوريا. ومن شبه المؤكد أيضاً أن عدم الاستقرار هذا سيعرض برامج المساعدة الإنسانية ومشاريع الإنعاش المبكر التي تساعد السوريين على العودة إلى ديارهم وتوفير الغذاء والمأوى لملايين النازحين للخطر.
ويرى البعض الآخر أن المخاطر التي تتعرض لها القوات الأميركية في مثل هذه البيئة المضطربة أكثر من الفوائد. لكن بينما تكبدت قوات سوريا الديمقراطية، الكردية والعربية حوالى 10000 قتيل في القتال ضد «داعش»، كان عدد القتلى الأمريكيين أقل من اثني عشر على مدى سبعة أعوام. إن البصمة العسكرية الأميركية الضئيلة والتكاليف المالية المرتبطة بها لا تكاد تذكر، مقارنةً بالانتشار الهائل والاستثمار الهائل في أفغانستان على مدار العقد الماضي، أو بالتكاليف التي قد تتكبدها الولايات المتحدة إذا أُجبرت على تحمّل التنظيم المعاد تشكيله بالكامل.
استشهد المسؤولون الأميركيون بانتظامٍ بالأهداف السياسية الأوسع لسوريا، مثل الحاجة إلى تسويةٍ سياسية شاملة، كمبررٍ ثانوي لاستمرار وجود قواتنا. يجادل البعض بأنه مع «فوز الأسد في الحرب»، فإن هذا التبرير بات سبباً لسحب القوات. على العكس من ذلك، تمثل هذا الوجود نفوذاً دبلوماسياً في النقاشات بشأن مستقبل سوريا. صحيح أن العقوبات الاقتصادية الأميركية ضد نظام الأسد، والتي فُرضت على مدى العقد الماضي، ربما توفر للولايات المتحدة المزيد من النفوذ. لكن العقوبات تزامنت مع ارتفاع منسوب المعاناة الإنسانية للشعب السوري في الأعوام الماضية، وأصبح هذا النوع من النفوذ الاقتصادي يمثل إشكالية، في حين أن وجودنا العسكري لا يثير هذه القضايا الإنسانية.
أخيراً، يمنع وجودنا تعزيز روسيا لمهمتها العسكرية في سوريا، ما يقوض أحد المصادر الرئيسية لمكانة موسكو الواسعة بشكلٍ كبير في المنطقة، وبالتالي يقدم الدعم لجهودنا السياسية في أوكرانيا. وبالنظر إلى المهمة الأساسية في مكافحة «داعش» والفوائد المتعددة غير المباشرة لمجموعة من المصالح السياسية الأميركية والتكاليف المنخفضة نسبياً، نجح فريق [الرئيس الأميركي جو] بايدن في الحفاظ على هذا الوجود بشكلٍ صحيح حتى الآن. في وقتٍ يبدو أنه من المهم أن الإدارة لم تحدد لعبة نهائية للجهود المبذولة في الشمال الشرقي، إلا أن الفوائد السياسية لوجودنا تتزايد. بالنسبة إلى سوريا، يعتبر الوضع القائم حالياً مناسباً الى حين تبلور صورة أشمل وأكثر وضوحاً.
المصدر:ديفينس اون