*عباس علي موسى
لعلّ أهمّ ما في سيرة الملا أحمد الزفَنْكي هو أثره الباقي «العقد الجوهري» الذي يعدّ بحقّ من أهم الشروحات، بل والترجمات، التي تم تقديمها لديوان الملا الجزري. وفضلاً عن أهميّة ما قدمه «العقد الجوهري»، يعد كذلك بمنزلة سِفرٍ أطلّ به العامة على منتوج الجزري، كما أطلّ بها قرّاء العربية إلى هذا الأثر/الديوان.
يعد ديوان الجزري من أهم الدواوين في الشعر الكردي، ويستحق أن يُسمّى بالديوان، لما له من أسبقية في النسج والشعر باللغة الكردية. وهو أعظم أثر مدوّن وصلنا من الكُرمانجية الكُردية شعراً، في زمن كانت لغة الأدب شعراً ونثراً هي لغة البلاطات العربية والفارسية وغيرها. ولأنّ ديوان الجزري تجربة صوفية صرفة، لم يكن مُتاحاً إلا بين أيدي الملالي وشيوخ الطرق الصوفية والخاصّة، فكانوا ينسخون الديوان من يدٍ ليد. وبفضلهم، وصل الديوان إلينا أخيراً، حتى وإن شابه الكثير من التصحيف والأخطاء، لكنه ديدن النسخ من عالِمٍ لآخر ومن ملّا لآخر، إذ تستشكل العبارات والأحرف ورسمها في كلّ مرة. وكان للتأويل الذي يُمايز الشعر الصوفي دوماً ويجعله حمّال أوجُه، دورٌ في حمل الكلمات من رسمٍ لآخر، يخرج بها أحيانا الكلام عن الأصل، أو كما يقول الزفنكي في تقديمه لعقده الجوهري: «لعب فيه كلّ من حصل على نسخة منه تشطيباً وتبديلاً وتنقيطاً وتحويلاً كل حسب معرفته وعلمه ومقدرته وفهمه حتى نسخت أماراته ومسخت إشاراته وصار جملة من الطلاسم».
لذا، كان دور الزفنكي حاسماً من شرح الديوان وترجمته ونقله من ديوانٍ خاص بأهل العلم والتصوّف لديوانٍ للعامة يفهمها ويعيها من يقرأها. إذ كان الملالي وشيوخ الطرق الصوفية، في جلّهم، متقنين للعربية إضافةً إلى اتقان الكثيرين منهم للفارسية والتركية. وهذا ما جعل الديوان مقتصراً في فهمه وتداوله فيما بينهم. كما أنّ الزفنكي أسهم في شرحه وترجمته في العودة بالكلمات إلى أصولها وسياقاتها، وعرّف القارئ إلى مخفّفها ومنقوصها، إضافةً إلى تقديم لغةٍ عربية هي ما بين الجزالة والفصاحة والبداهة والوضوح، فكان آيةً بيّنة واضحة ذات بلاغة لا يستصعبها القارئ حتى وإن لم ينل نصيباً من معرفةٍ بمكامن اللغة البعيدة الغائرة.
من الخاصّة إلى العامة
حظيت الحواضر الكُردية في جزيرة بوطان بشبه استقلالٍ في حقبة السلطنة العثمانية، ما جعلها تشهد استقرارا أثّر بدوره على حركة أهل العلم والشعر والأدب، وساهمت في تدوين هذه الآثار. وعلى الرغم من تأثير الإمبراطوريات في رواج آدابٍ بلغات أخرى غير الكردية، إلا أنّ الجزري وتلامذة المدرسة الحمراء في جزيرة بوطان اختاروا الكردية لغة علمٍ وأدب.
إلا أنّ المجتمع الكردي، خاصةً الرحّل الذين كانوا دائمي الترحال ما بين المصايف والمشاتي، كانوا يفضّلون ما تزخر بها ذاكرة القوّالين والقصّاصين والرواة والفنانين الشعبيين الذين يسردون الملاحم والقصص والأساطير بأساليب متنوّعةٍ وخاصة. وهذا ما جعل الأدب الكردي في جانبٍ كبير منه شفاهياً، الأمر الذي ينسحب أيضاً على الكرد المستقرّين في القرى، في المجالس التابعة للأغوات والبكوات. ويصعب التكهّن فيما إذا كانت قصائد، كالتي للجزري، تُنشد في هذه المجالس. لكن الأكيد أنّها كانت مزدهرة في الحواضر الكبرى، وفي مجالس العلم ومدارسه وحلقات العلم. لكن يمكن القول أنّ الملالي كانوا دائماً ما يميلون إلى الاحتفاء بهذا الشعر وغيره سواء في الكردية أو غيرها. وجدير بالذكر أنّ الملالي كانوا يتدارسون هذا الشعر ويشرحونه وينشدونه إنشاداً.
لقرونٍ مضت، ظلّ ديوان الجزري حِكراً على أهل العلم من الملالي وشيوخ الطرق الصوفية والسالكين وبعض الخاصّة. ولم يصل الديوان إلينا إلا عبر نسخِ هؤلاء وخطّهم إياه، حيث تواتروه فيما بينهم جرياً على عادة أهل العلم. كما أنّ قصائد الجزري كانت تُحفظ في الصدور ويلقيها المتصوّفة والملالي عن ظهر قلب ويترنّمون بها في جلسات العلم ويشرحونها في جلساتهم. وهكذا، ظلّت قصائد الجزري نخبويةً إنّ صح التعبير، أو لنقل أنّها كانت في نطاقاتٍ محدّدة فقط، خاصةً أنّ اللغة والسويات اللغوية التي نُسجت بها قصائد الجزري هي من ذلك النوع المُشكِل في ظاهره ويحتاج إلى تأويلٍ وشروحات لما فيها من خروجٍ ظاهرٍ لضوابط وركائز أهل العقيدة التي يركن إليها طلبة العلم. ولم تخرج قصائد الجزري عن التناقل والشرح شِفاهاً إلا مع قلّة أبرزهم الملا عبد السلام الجزري الذي شرح الديوان بالكردية وصاحب «العقد الجوهري» الذي شرحه بالعربية، إذ أنّ الملالي كانوا يلجؤون إلى النسخ والاكتفاء بوضع هوامش عابرة أحياناً، وكذلك شرحها شِفاهاً لطلبة العلم وخاصّةً السالكين. ومن يدري، فقد تكون هناك شروحات مدوّنة لم تصلنا، كما لم تصل إلينا الكثير من الآثار.
حين همّ الزفنكي وانكبّ على ديوان الجزري شرحاً وتوضيحاً وترجمةً، كان الروّاد الكُرد الأوائل، وفي مقدّمتهم آل بدرخان، يعملون على إحياء الآداب الكردية وجعلها في ركب الحضارة والالتجاء إلى التدوين. ومع جلادت بدرخان وإصداره مجلة «هاوار» والأبجدية اللاتينية وجمعية «خويبون»، التي كان الزفنكي أيضاً أحد مؤسّسيها، وغيرها من الجهود ذات الاتجاهات القومية والتي التفتت في جانبٍ كبير منها إلى اللغة كحاملٍ لهذه الأفكار، رأى الزفنكي أن يقدّم الأدب الكردي من أوسع أبوابه بالعربية. وعليه، لجأ إلى شرح ديوان الجزري بها، مقدّما بذلك أهم الآثار، فحقّق بذلك هدفين، أولهما وضع مادة ميسّرة لطلاب العلم وحلقاته ومدارسه والذين كانوا في جلّهم يتقنون العربية أيضاً. وبذلك، كان الديوان بين أيديهم من دون أن يكون هناك داعٍ للحصول على الإجازة العلمية والتبحّر في العلوم لفهمها. والثاني أنّه أعدّ مادةً دسمة لقرّاء العربية من العرب وغيرهم، حتى أنّ الزفنكي يذكر كيف أن شرح الديوان انتشر أيما انتشار في مختلف الأمصار العربية، يقرأه من يُريد الاطلاع على آداب الشعوب في المنطقة. وبذلك أتاح لهم الالتفات إلى الشعر الصوفي الكُردي الذي يُضاهي نظيره في الفارسية والعربية.
وهُنا، تجدر الإشارة إلى قصة طباعة «العقد الجوهري» للمرّة الأولى، إذ أن الأمور لم تكن سهلةً ميسّرة. وتم رفض منح الموافقة على طباعة الكتاب، ما دفع الزفنكي إلى كتابة خطابٍ مدبّج إلى جمال عبد الناصر رئيس الكيان المشترك بين دولتي سوريا ومصر والمسمى حينها الجمهورية العربية المتحدة. وردّ عبد الناصر حينها بالموافقة على طباعة الكتاب في كتابٍ رسمي موجّه إلى الزفنكي. ولحسن حظه أيضاً، لم يستطع الذهاب إلى دمشق للإشراف على طباعته لأيام، ما اضطره إلى الانتظار، إلى أن افتتحت مطبعة «الرافدين» في مدينة قامشلي لصاحبها جورج هرموش. وكانت كما يذكر الزفنكي مطبعةً آلية حديثة و«آيةً في الإتقان»، ليكون «العقد الجوهري» أول كتاب يُطبع في هذه المطبعة بشكلٍ رسمي.
الزفنكي محقّقاً
يقول الزفنكي في تقديمه لعقده الجوهري: «ولكنّه ويا للأسف الشديد تداولته أيدي التغيير والتحريف وتناولته أقلام التشويه والتصحيف ولعب فيه كل من حصل على نسخة منه تشطيباً وتبديلاً وتنقيطاً وتحويلاً كل حسب معرفته وعلمه ومقدرته وفهمه حتى نسخت أماراته ومسخت إشاراته وصار جملة من الطلاسم التي تحرر والعزيمات التي تتلى وتكرّر، لا يعرف معناها ولا يُفهم مبناها».
فديوان الجزري الذي بلغنا عبر عشرات النسخ والمخطوطات بأيدي النسّاخين والملالي والعارفين، لم يخلُ من التصحيف والخطأ في الرسم الذي أشكل المعنى أحياناً. وساهم في ذلك ثقافة التأويل في السياق الشعري الصوفي، لا سيّما أنّ الجزري أوغل في المعاني العميقة ينهل منها متفنّناً في استخدام الاستعارات والمجازات الشعرية، ومستعيراً، أو لنقل موظِّفاً، مفرداتٍ ومرادفاتٍ من العربية والفارسية والتركية إلى جانب الكرمانجية الكردية. أدى كل ذلك إلى حاجة هذه المخطوطات إلى مراجعاتٍ وتحقيق. ونهض الزفنكي بحقّ بأدوارٍ تتجاوز كونه شارحاً، إذ عمل في الكثير من المواقع على ما يقوم به المحقّق عادةً، وهو إعمال المنطق في تتبع المعنى في سياق الجزري، فقوّم ما رآه خطأ وصحّح ما رآه تصحيفاً وعمل على المناقشة أحياناً حين رأى أنّ الأمر يحتاج ذلك. وعليه، يسعنا القول أن العمل محقّق من قبل الزفنكي، إيماناً منه بالمسؤولية حيال هذا الديوان الذي أطفأ السهر في الليالي وهو يعمل في شرحه وتفسيره عينيه.
الترجمة ونقل المعنى
إن وقفنا طويلاً أمام الشرّاح للآثار الصوفية في العربية، على سبيل المثال، سنجد كيف يعمل هؤلاء على نقل المعنى وتيسيره وتفسيره للقارئ وتوضيح ما يستشكل. لكن شرح الزفنكي يتخطى ذلك كلّه إلى عملٍ آخر، ما جعل عمله يفوق سمة الشرح، فهو يقوم بعملية الشرح بعد الترجمة. إذ أنّ أحد أبرز ما قام به الزفنكي هو ترجمة شعر الجزري من ذرى لغته الكرمانجية الكردية بتلك البهلوانية اللغوية التي تسير على سياقاتٍ تنهل من لغاتٍ متعدّدة ومن غور أعماق المجاز والمعنى الصوفي السماوي وربطه بالأرضي، إذ عمل على ترجمة هذا الشعر على مستويين، بدايةً على مستوى البيت الشعري، وتالياً على مستوى المفردات التي شرحها مفردةً إثر أخرى. وقدّم في النهاية «الترجمة الإجمالية»، أي الترجمة غير الحرفية للبيت الشعري بما يُساهم في تقريب معنى البيت الشعري للقارئ، ومن ثمّ «تفصيل المعنى»، وهو الشرح الأخير الذي توصّل إليه الزفنكي، واضعاً الجملة الشعرية بأبسط شكلٍ للقارئ.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترجمة الزفنكي النثرية فيما يقدّمه في نهاية شرح الأبيات، والتي يسمّيها «حاصل المعنى»، تعدّ آيةً في الترجمة النثرية للشعر الموزون، حيث سلاسة العبارة وبلاغتها والحفاظ على تلك الروح التي تكتنف عوالم الجزري الصوفية الخالدة.
وحين نقرأ هذا البيت الأثير للجزري ونقرأ ترجمة الزفنكي، نجد السلاسة والبلاغة والرشاقة في نقل المعنى:
يقول الجزري شعراً من قافية السين:
دِلْ يَكَهْ دِى عِشْقِ يَكْ بِتْ عَاشِقَانْ يَكْ يَارِ بَسْ قِبْلَهْ دِى يَكْ بِتْ قُلُوبَانْ دِلْبَرَكْ دِلْدَارِ بَسْ
ويُترجم الزفنكي هذا البيت الشعري نثراً:
يكفي لكلّ عاشقٍ محبوبٌ واحد يهيم به ويحبّه لأنّ القبلة والوجهة في كلّ الأمور عبادة أو غيرها لا بد أن تكون إلى شيءٍ واحد يتوجّه إليه وحده حتى لا تتشعّب الأفكار وتتشتت الأنظار، فلا جرم أن كلّ قلب من القلوب يكفيه أن يتعلّق بمحبوبٍ واحد يكون آخذاً بقلبه ومستولياً على مقدراته.
أصول الكَلِم والتصريف
جهِدَ الزفنكي في نسب الكلمات إلى أصولها اللغوية، حتى صار بإمكان الدارسين أن يبحثوا سياق المفردات التي استخدمها الجزري من اللغات الأخرى. ومع الزفنكي، وصلنا إلى الحقيقة التي تدلّل على تفوّق الجزري في الاستئناس إلى اللغات الأخرى من باب التزويق والتجميل والتعشيق والترصيف وكيف أنّها كانت أدوات في أسلوبه وليست الأصل فيه.
والمتمعّن للشرح يجد كيف أنّ الزفنكي قد جهد أيما جهد في العودة بالكلمات إلى أصولها، وبخاصةً أنّه لا يخفى على العارفين بشعر الجزري والعارفين بهذه اللغات مدى تشابك أصول المفردات وتداخل أصولها، فاستطاع التمييز بين المفردات الفارسية والكردية والتركية. وكان هذا دأبه حتى مع تلك التي يفصلها عن الكرمانجية الكردية خيطٌ رفيع، وساعده في ذلك معرفته بهذه اللغات وتعمّقه في نهج الجزري على فرزها في سياق شرحه.
فمثلاً، يورد في شرح بيت من قافية الباء كلمة (جِخْ) والجيم هنا بثلاث نقاط وتوازي (CH) الإنكليزية ويقول في شرحها والعودة بها إلى أصولها: «كلمة تركية مخفّفة من جق (جيم بثلاث نقاط) بالقاف بمعنى اخرجْ تقال عند إرادة الطرد».
وفي بيتٍ من قافية الألف يورد ما يلي (دفي طاقي دفي خانى) والفاء في الموقعين هنا بثلاث نقاط وتوازي (V) الإنكليزية، يقول الزفنكي: «دفي طاقي دفي خانى؛ بالقاف قبة الفلك وفي بعض النسخ بالفاء العجمية وهي الشمس والصيّب من المطر ولا يخفى أنها محرفة من القاف بدليل مقارنتها بالخان المراد به الدنيا»، وفي هذا المثال، ومثله الكثير، نرى كيف أن الزفنكي يقف على مواطن الكلِم فيُزيح عنها ما يستشكل ويُحاكم السياق ليخرُج بمعنى مرضٍ له قبل أن يكون مرضيا للقرّاء.
وفي البيت ذاته نجد أنّه يورد كلمة (در آغوشش) ويشرحها: «الآغوش فارسي بمعنى الحضن والشين ضمير الغائب راجع إلى نهال الماضي».
وفي الديوان، يُكثر من شرح الضمائر المتصلة أو المخفّفة ويرجعها إلى أصول كلماتها كما في أمثلة (مه)، حيث يقول إنها «مخفّفة من مرا وتعني لنا»، من ذات القصيدة.
ويزخر الديوان بهذا الشرح والتفصيل والعمل اللغوي الفذّ وهو أحد مواضع الإعجاب بعمل الزفنكي في عقده الجوهري.
نقد سيرة الجزري
لعلّ قارئ العقد الجوهري يجد كيف أنّ الزفنكي اجتهد أيما اجتهاد في تناول سيرة الملا الجزري، وناقش فيها من تناولوه سابقا نقداً، فلم يتفق مع ما قالوه أحياناً. وذهب مذهبه في تقديم ما رآه صوابا في سيرة الجزري، إذ أنه استخدم المنطق والبرهان واستأنس إلى النصوص في ديوان الجزري ذاته في الاستدلال إلى ما ذهب إليه كالحقبة التي عاش فيها الزفنكي، وهو أحد أهم مواطن النقاش حول سيرة الشاعر الجزري، ويبدو من خلالها كيف أنّه استخدم المقارنة وعرض الآراء ونقدها وتقديم ما وجده صواباً. وبعمله هذا، قدّم لنا بأسلوبٍ منهجي سيرة الشاعر الجزري، إذ انتقد ما ورد في كتاب «تأريخ الأدب الكردي» لعلاء الدين السجادي الذي أورد رأيا للدكتور بليج شيركوه أنّ الملا الجزري توفي عام 1160 للميلاد، بينما يذكر ما أورده محمد أمين بك زكي في كتابه «خلاصة تأريخ الكرد وكردستان» بأنّه عاصر عماد الدين زنكي في أواخر 600 للهجرة. كما يورد ما نقله فون هارتمان المستشرق الألماني والمستشرق الروسي أوكست يابا وغيرهم، وانتقد خاصةً السجادي لما جمعه من آراء وخالفها، وأورد ما ذهب إليه ومعتقداً بصحته مستشهداً بأبيات للجزري نفسه ومقارناً الآراء، إذ يقول إن الجزري ولد في 1407. ولأنّ هذا النقاش مذكورٌ في المقدّمة التي دوّنها الزفنكي في «العقد الجوهري»، نودّ الإشارة هنا إلى مذهب الزفنكي في نقد الروايات المتداولة ومحاولة الاستنتاج والاستدلال غير مكتفٍ بالسهل البسيط الذي إن أورده لأراح نفسه، لكنّه اختار طريق النقد والاستنتاج وما يحمله من مصاعب، وخرج برأيٍ أقلّ ما يُقال فيه أنّه يمثّل وجهة نظر قابلة للصواب، حتى وإن كانت الروايات متناقضة حولها.
أخيراً، نبخس كثيراً المجهود العظيم للزفنكي حين نحتفي بالديوان على مرأى منه دون أن نلتفت إليه بما يوازي مجهوده العظيم. فحتى الآن، لا نجد من استوقفه نهج الزفنكي في شرح وترجمة ديوان الجزري ولا عمله نقداً للوقوف على عمله وتبيان مواطن البحث والعمل.
نُدرك حين الوقوف على مجهود الزفنكي وما ورد في سيرته التي تمت إضافتها إلى «العقد الجوهري» بعد وفاته كيف أنّ عمله على شرح الديوان أطفأ نور عينيه نتيجة سهر الليالي على ضوء القناديل ليُشرع لنا باباً على عوالم الجزري.
يُمكننا الوقوف على عمل الزفنكي بالإشارة والإشادة بعدة نقاطٍ مختزلة:
– الإلمام باللغات الأربع التي اتكأ عليها الجزري في قصائده وهي الكُردية (الكرمانجية) والفارسية والتركية والعربية، وهذا ما جعله قريباً من روح الكتاب وكُنه البلاغة المؤسِّسة للديوان والكنايات والاستعارات التي تزخر بها قصائده.
– شرحه للديوان جرياً على عادة شرّاح العربية، حيث النهج القائم على تقديم شرحٍ للمفردات الغريبة في البيت الشعري ومن ثم تقديم حاصل المعنى له.
– محاولة تقريب المعنى بما ينسجم مع معتقداته، وتقديم تأويلات وتفسيرات للمشكِل منها من دون الغوص في دلالاتها خارج التأويل الظاهر.
– تقديم لغةٍ عربية سليمة بفصاحةٍ وجزالة غير مغرِقة فيهما، ولغة واضحة في متناول قارئ العربية.
– يعدّ نهج «العقد الجوهري» أقرب إلى كتب الكتاتيب الدينية المنتشرة في مناطق كردستان وكذلك حلقات العلم في العواصم الإسلامية والعربية.
– تقديم ديوان الجزيري درّة النتاج الشعري الكلاسيكي الكردي لقرّاء العربية، ما أتاح له انتشاراً أوسع، ويعود الفضل إليه في تعرّف أجيال من أبناء جلدته على الديوان ممن يعرفون العربية ويتحدّثون الكردية شفاهاً من دون تدوينٍ.
– ترجمة شعر الجزري إلى اللغة العربية عبر ترجمة المفردات وترجمة السياق العام للبيت الشعري، حتى حصلنا في النهاية على ترجمةٍ كاملة لديوان الملا الجزري.
– تصنيف المفردات والعودة بها إلى أصولها، إذ فرّق بين أصول المفردات التي استخدمها الجزري سواءً كانت من العربية أو الفارسية أو التركية، وأشار إليها في مواقعها، حتى أنّه كان يستوقف النص الشعري ويرى ما فيه من استخدامٍ لسوابق ولواحق من اللغات الأخرى ومخفّفها ومرخّمها ويفصّلها.
– تقديم مادة علمية لا تخلو من الجهد الواضح والعميق مبني على المناقشة العلمية والاجتهاد الواضح في تقديم سيرة الجزري، أحياناً بالاتفاق مع آراء دارسي الجزري وناقلي سيرته وأحياناً في مسارٍ مستقلّ يُظهر المجهود المبذول.
– مجهوده العظيم في تحقيق الديوان، إذ أنه اعتمد على عدة نسخٍ من الديوان وقارن بينها وصحّح ما رآه مُصحّفاً أو مغلوطاً، بناءً على معرفته باللغات التي استند إليها الديوان، ومعرفته العميقة بشعر الجزري الذي قضى وسهر فيها الليالي يقرأه بتمعّنٍ ويغوص في معناه ومبناه.
عباس علي موسى،كاتب وصحفي وناشط ثقافي،يكتب باللغتين الكردية والعربية.