المركز الكردي للدراسات
تبدو خطابات المتحدثين في قمة الأطراف (كوب27) المنعقدة في مدينة شرم الشيخ المصرية مصاغةً من خطابٍ أصلي واحد، إذ تتضمن جميعها كلمات مفتاحية بينها «العالم في خطر»، «تعويض الدول الفقيرة»، «مصادر الطاقة المتجددة»، «الهيدروجين الأخضر»، «الحياد الكربوني». غير أن المسكوت عنه هو ظاهرة «الغسيل الدبلوماسي» على نمط «غسيل الأموال»، أي إيهام العالم بأن المشكلة ما زالت في مراحل يمكن السيطرة عليها. قد يكون هذا أخطر ما في ظاهرة «الغسيل الدبلوماسي»، أي تأجيل النظر في معالجة المشاكل الأكثر خطورةً على المجتمعات على غرار الخلل الكارثي في توزيع السكان بين الأرياف والمدن في مختلف أنحاء العالم، خاصةً في الدول الزراعية تقليدياً مثل مصر والهند وباكستان.
في سبتمبر/أيلول الماضي، أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقرير التنمية البشرية تحت عنوان «زمن بلا يقين، حياة بلا استقرار: صياغة مستقبلنا في عالم يتحوّل». ورصد التقرير التأثير المدمر للعامين الماضيين على حياة ملايين الناس حول العالم، إذ تلاحقت أزمتا كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا الواحدة تلو الأخرى، وتتداخلتا مع تحولاتٍ اجتماعية واقتصادية هائلة وتغيّرات بيئية (كوكبية) خطيرة وازديادٍ هائل في حدّة الاستقطاب.
وللمرة الأولى منذ شرع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي قبل 32 عاماً في حساب مؤشر التنمية البشرية الذي يقيس أوضاع الصحة والتعليم ومستويات المعيشة في مختلف البلدان، انخفض المؤشر عالمياً خلال عامين متتالتين، وتراجعت التنمية البشرية إلى مستويات العام 2016. وبينما بدأت بعض البلدان تنهض من جديد، يبقى التعافي غير متساوٍ ومجتزأ، مما يوسّع أوجه انعدام المساواة في التنمية البشرية. كانت وطأة الأزمات المتلاحقة أشد بالنسبة لمناطق مثل أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وجنوب آسيا.
وبغية رسم مسارٍ جديد، يوصي التقرير بتنفيذ سياساتٍ غارقة أيضاً في الغسيل الخطابي تركّز على الاستثمار في مروحةٍ واسعة من المجالات انطلاقاً من الطاقة المتجددة، مروراً برفع مستويات التأهّب لمواجهة الأوبئة، وصولاً إلى التأمين بما يشمل الحماية الاجتماعية، على أمل إعداد مجتمعاتٍ قادرة على مواجهة تقلّبات النجاح والإخفاق في عالم الغد الذي يسوده عدم اليقين. ويلفت التقرير إلى أن الابتكار بأشكاله المتعددة — التكنولوجية والاقتصادية والثقافية — باعتباره يعزز الإمكانيات للاستجابة لأي تحدياتٍ قد تطرأ في المستقبل.
ويمكن رصد ثلاثة نماذج للمخاوف المناخية التي طُرحت خلال الأسبوع الماضي، وتجاوزت في خطورتها مرحلة السيطرة على المشكلة، إذ باتت الأزمة ترسم مساراتها بشكلٍ حر من دون أي قدرةٍ من الدولة على التدخل وعكس المسار السلبي أو الحد منه، نظراً إلى أن الدولة، ببنيتها الإدارية الطفيلية، وضعت حجر الأساس للأزمات الحالية.
1- غرق الإسكندرية
تواجه مدينة الإسكندرية التي ذاع اسمها على مر العصور وثاني مدن مصر وكبرى موانئها خطر أن تبتلعها أمواج البحر الأبيض المتوسط في غضون عقود.
تترنح المدينة، التي أسسها الإسكندر الأكبر على دلتا النيل، على حافة الهاوية مع غرق جزءٍ من أراضيها جرّاء ارتفاع منسوب البحر نتيجة الاحترار المناخي. فوفق أكثر سيناريو تفاؤلاً وضعته الأمم المتحدة، سيغرق ثلث المدينة تحت الماء أو يصبح غير صالحٍ للسكن بحلول عام 2050 إذ سيُضطر ربع سكانها البالغ عددهم ستة ملايين نسمة إلى ترك منازلهم.
ووفق تقريرٍ نشرته وكالة فرانس برس بعنوان «الإسكندرية مهددة بالغرق بفعل تغير المناخ»، اضطر المئات من سكان الإسكندرية إلى هجر مساكنهم التي اختلت جدرانها بفعل زحف المياه والسيول في عامي 2015 و2020.
ويُتوقع أن يرتفع مستوى البحر الأبيض المتوسط متراً واحداً في غضون العقود الثلاثة المقبلة، وفقاً لأسوأ توقعات صدرت عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة. ويفيد خبراء الأمم المتحدة بأن مستوى المتوسط سيرتفع أسرع من أي مكانٍ آخر في العالم تقريباً. ومن شأن ذلك، وفق اللجنة، أن يغرق ثلث الأراضي الزراعية عالية الإنتاجية في دلتا النيل إضافة إلى مدنٍ ذات أهمية تاريخية مثل الإسكندرية.
عبر الدلتا، تقدمت مياه البحر بالفعل أكثر من ثلاثة كيلومترات منذ الستينيات وابتلعت في الثمانينات فنار رشيد الذي يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر جرّاء ظاهرة نحر الشواطئ. يتزامن ذلك كلّه مع ازدياد عدد سكان الإسكندرية بنحو مليوني شخص في العقد الماضي، في حين يتباطأ الاستثمار في البنى التحتية، كما هو الحال في سائر أنحاء مصر.
وواقع الأمر، أن العمران الحضري في منطقة الشرق الأوسط مهددٌ بالكامل، ليس فقط بسبب التغير المناخي، بل أيضاً لعوامل أقدم تاريخياً وفي مقدمتها التخطيط الحضري الفاشل. فوفق تصريح محافظ الإسكندرية محمد الشريف، تستوعب شبكة الصرف في الطرق مليون متر مكعب من الأمطار بينما يهطل في اليوم الواحد 18 مليون متر مكعب.
2 – نزوح الملايين
رصد تقريرٌ آخر نشرته وكالة فرانس برس بعنوان «التغيّر المناخي قد يقود الى نزوح الملايين في الشرق الأوسط»، ضمن سلسلة تقارير تزامناً من انعقاد قمة «كوب27» في مصر، ملامح الهجرة الكثيفة من الأرياف إلى المدن. كانت مصر عيّنة في هذا الرصد. تزداد الهجرة من الريف إلى المدينة منذ مطلع القرن العشرين حين تمركزت «الحداثة» في المدن وجذبت إليها الأرياف المرتبطة بالعصر ما قبل الصناعي، فكرياً واقتصادياً.
يذكر التقرير أنه مع ندرة الأمطار وموجات الحر الشديدة والجفاف، قد يؤدي التغيّر المناخي إلى نزوح ملايين الأشخاص في الشرق الأوسط، أكثر مناطق العالم افتقاراً إلى المياه، مع ما يرافق ذلك من خطر توسعٍ للمدن مُضرٍ بالبيئة واحتمال اندلاع نزاعات على الموارد.
وتوضح نائبة مديرة المنظمة الدولية للهجرة إيمي بوب أنه «إذا لم يستطع السكان توفير غذائهم وزراعة الأرض، فلا سبيل آخر أمامهم إلا النزوح. فالكوارث الطبيعية المتكررة في العام 2021 دفعت ثلاثة ملايين شخص تقريباً إلى مغادرة ديارهم في إفريقيا والشرق الأوسط».
وما لم تُتّخذ إجراءات للحد من التغيّر المناخي، يرى البنك الدولي أنه سيكون هناك بحلول العام 2050 نحو 216 مليون مهاجرٍ لأسباب مناخية، إذ ستضطر عائلاتٌ بأكملها الى النزوح داخل بلدانها. وسيشمل النزوح 19،3 مليوناً في دول شمال إفريقيا الخمس. وبشكلٍ تلقائي، يتجه المواطنون إلى المدن الكبرى مثل القاهرة والجزائر وتونس وطرابلس ومحور الرباط-الدار البيضاء وطنجة. غير أن البنك الدولي يحذر من أن «بؤر الهجرة المناخية» تلك معرّضة هي نفسها لمخاطر ارتفاع مستوى مياه البحر. ويحذر الخبير الاقتصادي عاصم أبو حطب من أن تجمعاتٍ كهذه تزيد الضغط على الموارد، وهو ما قد يؤدي إلى اندلاع نزاعاتٍ عنيفة في منطقة يعتمد 22 في المئة من سكانها على الزراعة.
في السودان، أدت النزاعات بين القبائل على المياه والكلأ والأراضي إلى سقوط مئات القتلى منذ مطلع العام الجاري في ولاياتٍ عديدة. وبحسب منظمة »اليونيسيف«، تقع 11 دولة من أكثر 17 بلداً يفتقر للمياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. في العراق على سبيل المثال، إذا لم يتخذ أي إجراء بحلول العام 2050، و«في حال ارتفاع الحرارة بمقدار درجةٍ مئوية وانخفاض الأمطار بنسبة 10 في المئة، سيفقد هذا البلد البالغ عدد سكانه 42 مليون نسمة 20 في المئة من مياهه العذبة»، وفق البنك الدولي.
3- انفجار سكاني
التقرير الثالث بعنوان «مناطق الهند الحضرية نحو انفجار سكاني» يتوقع بأن تشهد الهند انفجاراً في عدد سكان مناطقها الحضرية خلال العقود المقبلة، فيما تبدو مدنها غير قادرة منذ الآن على التعامل مع الوضع. وسجّلت بومباي، التي تعد من بين كبرى مدن الهند، نمواً في عدد سكانها بحوالى ثمانية ملايين نسمة في الأعوام الثلاثين الماضية، أي ما يعادل تقريباً سكان مدينة نيويورك بأكملها، ليصل تعدادهم إلى 20 مليوناً. ويتوقع بأن يرتفع عدد سكانها بسبعة ملايين نسمة إضافيين بحلول 2035.
وعلى غرار مدنٍ هندية كبرى أخرى، لم تتمكن البنى التحتية المرتبطة بالسكن والنقل وإدارة موارد المياه والنفايات من مواكبة النمو السكاني، إذ يقطن قرابة 40 في المئة من السكان في عشوائيات. ومع اقتراب عدد سكان العالم من ثمانية مليارات، معظمهم في البلدان النامية، يتكرر سيناريو الهند في مختلف دول العالم.
يقضي القاطنون في ضواحي بومباي ساعاتٍ على الطريق للوصول إلى أماكن عملهم، ويتشبث كثرٌ بالأبواب في قطاراتٍ مكتظة، بينما يتنقل آخرون بواسطة سيارات أو دراجات نارية في طرقٍ مليئة بالحُفر تشهد اختناقاتٍ مرورية بينما تغمرها مياه الفيضانات لدى هطول الأمطار الموسمية.
التخلي عن الإنجاب؟
يطبّق مدافعون عن البيئة المبدأ القائل بأن «الإنجاب حالياً ضربٌ من الجنون!» لقناعتهم بأن مكافحة تغيّر المناخ تعني الحد من عدد سكان العالم، ويرفضون بالتالي الإنجاب.
يقول المستشار الفرنسي إيمانويل بون مؤلف كتاب «هل علينا الكف عن الإنجاب لإنقاذ كوكب الأرض؟» الذي طُرح مؤخراً في الأسواق، إن كثرٌ يثيرون هذا السؤال، لكن يصعب تحديد عددهم خاصةً أن البيئة ليست الدافع الوحيد لأولئك الذين يرفضون الإنجاب وينتهي بهم الأمر إلى تغيير رأيهم.