إيران وانتفاضة المدن الصغيرة.. مقدمة في تاريخ المسألة الزراعية

حسين جمو

لم يحظ الفلاحون والعوام بفرصة دورٍ قيادي في تاريخ إيران الحديث، وكذلك لم يسعوا يوماً لمثل هذا الدور طالما أن القوى الاجتماعية المهيمنة تأسست على عزلهم عن حركة التاريخ كامتدادٍ لنظامٍ طبقي تاريخي منذ تأسيس الامبراطوريات في «إيرانشهر» القديمة مروراً بالحكم العربي المباشر في إقليم فارس والذي ورث النظام الطبقي الساساني الإقطاعي عبر دهاقنة إيران. منذ ذلك الحين وحتى الفترة الحالية، حقبة الثورة الإسلامية، استمرت المسألة الزراعية كقضيةٍ تقف عندها السلطة بمفهوم العوائد الموسمية. وللمرة الأولى هناك بوادر انكسار لهذه الظاهرة الممتدة عبر التاريخ في الانتفاضة الإيرانية الحالية التي تعد الأزمة الزراعية- البيئية جذرها الأكثر عمقاً، ولذلك لا ترتكز الانتفاضة على قاعدة إثنية مركزية رغم الزخم الكردستاني القيادي فيها حتى الآن، فهي تمتد من زاهدان البلوشية إلى قلب كردستان الشرقية غربي إيران. وأي مقاربة تستبعد أزمة الزراعة وموقع الفلاحين المستجد في التغيير الاجتماعي قد تصل إلى خلاصاتٍ بعيدة عن الواقع، فهي انتفاضة المدن والبلدات الزراعية الصغيرة والمساحات الحضرية المرتبطة بها في ضواحي المدن الكبرى. ولأن الأزمة الزراعية تشكل جذرها الأعمق، فهي ليست الأسرع ظهوراً من بين الشعارات والأسباب المباشرة التي تدفع بجموع شعبية من مشارب إثنية ومذهبية متعددة إلى إعلان القطيعة مع النظام بشعارات متباينة.

عناصر الثورات

تضمن كتاب «الشرق الأوسط الحديث»، الذي حرره كل من ألبرت حوراني وفيليب خوري وماري ويلسون، فصلاً قصيراً كتبته المؤرخة الأميركية المتخصصة في الدراسات الإيرانية نيكي كيدي بعنوان «الثورات الإيرانية في منظور مقارن». تحاول كيدي، وهي الضليعة في التاريخ الاجتماعي، رصد العناصر الرئيسية للثورات الإيرانية، وتأخذ نموذجيْ الثورة الدستورية بين 1905 – 1911 والثورة الإسلامية في 1978 – 1979 موضوعاً للدراسة.

في كلتا الحالتين، تخْلص كيدي بثقةٍ إلى أن النظريات الاجتماعية الاقتصادية الحديثة حول الثورة، والتي تميل إلى التأكيد على دور الفلاحين، لا يمكن تطبيقها على أي من الثورتين الإيرانيتين، إذ أن فلاحين يعيشون أساساً على أرضٍ قاحلة أو شبه قاحلة معتمدين على أصحاب الأراضي وغيرهم لتأمين ري أراضيهم ولا تحميهم غابات أو جبالٍ يلتجئ إليها الثوار في حربهم، لا يمكن أن ينجم عنهم طبقة متوسطة ولا أن تنعقد بينهم روابط وثيقة ضرورية في التنظيم السياسي. (ص 342).

في ملاحظةٍ أخرى مهمة، تقلل كيدي من شأن الفلاحين أساساً في المساهمة بمسار تاريخ إيران الحديث. ففي كلتا الثورتين في القرن العشرين، أبدت المدن هشاشةً أمام الثورات الجماهيرية (المدنية) الناجحة؛ فـ«المناعة المزعومة للمدن الحديثة ضد الثورات الجماهيرية الناجحة، خاصةً في غياب الدعم الفلاحي، أثبتت خطأها في كلتا الثورتين» (ص 342).

وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن التقليل من شأن «الفلاحين السابقين» في إنعاش بيئة الاحتجاجات الكبرى والتمهيد للتغيير، حتى لو بقيت أدوارهم في قيادة مسار التغيير معدومة ظاهرياً. إذ شهدت إيران تغيراتٍ ديمغرافية غير مسبوقة، وازداد سكان المدن من حوالى 8-9 في المئة في أواسط القرن التاسع عشر إلى 18 في المئة عام 1900، مع وجود ثلاث مدن يزيد عدد سكانها عن مئة ألف: طهران (حوالى 280 ألفاً)، تبريز (نحو 200 ألفاً) وأصفهان (حوالى 100 ألف نسمة). وجاء الحجم الأكبر من زيادة السكان من المناطق الريفية والمدن الصغيرة. كما تحركت تجمعات قبلية كثيرة عاشت في جوار العاصمة، عند منتصف القرن التاسع عشر، إلى داخل المدينة بين عامي 1870 – 1880 بسبب الحاجة إلى اليد العاملة غير الخبيرة. وأدت هذه الزيادة في العاصمة إلى مزيدٍ من احتمالات نشوب انتفاضات خبز في زمن المجاعة، وفق تعبير الأكاديمي البريطاني المتخصص في الدراسات الإيرانية آن لامبتون. كما سهّلت هذه الأوضاع الأمور أمام الساخطين لتسيير تظاهرات ضد الحكومة. وفي أثناء أعوام المجاعة 1871 – 1872، هاجر آلاف الفلاحين وسكان المدن من وسط البلاد ومناطقها الجنوبية إلى سواحل قزوين بحثاً عن الطعام. وفي 1890، كانت هناك حركة للفلاحين من أذربيجان، وإلى درجةٍ أقل من كرمان ويزد، إلى القرى في الشمال الشرقي بسبب الوفرة العظيمة يومئذ في خراسان. (لامبتون –الشرق الأوسط الحديث– الجزء الأول– ص 224).

وفي حين سارت الحياة بالنسبة للفئات العليا من المجتمع والدولة بشكلٍ تصاعدي نحو التطور، بما في ذلك تطوير أساليب الاستغلال، ساءت أوضاع الفلاحين بشكلٍ تصاعدي. ويرصد أروند إبراهيميان في كتابه «تاريخ إيران الحديثة» ببراعة هذا التناقض في مقارنة أحوال الفلاحين في القرن التاسع عشر مع العشرين بالاستناد إلى شهادات رحالة غربيين زاروا إيران ضمن المدى الزمني للمقارنة.

على أنه لا ينبغي أن تتحول هذه الأفضلية للقرن التاسع عشر بالنسبة إلى الفلاح إلى عنصر تضليل. فالمقارنة تظهر الأفضلية. لكن من دون مقارنة، لا شيء إيجابي. وكمثالٍ، قدّم الرحالة الروسي ديتيل، الذي زار إيران وكردستان في أربعينيات القرن التاسع عشر، الوصف التالي لأوضاع الفلاحين تحت سطوة العسكر:

«جمهورٌ رث الثياب مع شارة بيضاء على الكتف، أولئك هم فرق السرباز، هؤلاء هم جيش المؤمنين الذي لا يقهر. فهؤلاء المدافعون عن الدولة لهم حقوق لا تحدّ. فهم يتاجرون ويسرقون ويقطعون طرق السابلة بكلمة، يقومون بكل ما من شأنه جلب الفقر والكسل والبطالة والتسيب. وسكان القرى المذعورون من هذا الجراد الوافد يهربون إلى جميع الجهات حاملين معهم ما استطاعوا حفظاً على الأموال من الجندرمة النهّابة. حتى الأكواخ والحدائق والبساتين تغدو ضحية النهب والاقتلاع» (خالفين – الصراع على كردستان- ص 28). وقام جورج فاولر برحلة إلى كردستان الشرقية عام 1835، وقدّم شهادةً مروعة عن الحالات الشائعة بين الفلاحين الذين كانوا يعيشون في الحظائر مع الماشية (ديفيد مكدول – تاريخ الأكراد الحديث– ص 133).

بنظرةٍ أشمل، تبلورت القوى الرئيسية الحديثة في المجتمع الإيراني مع مطلع العهد القاجاري، وتحديداً إثر فشل مبادرة الإصلاح بقيادة ولي العهد عباس ميرزا بسبب هزيمتين متتاليتين أمام روسيا (1813 – 1828). وبحسب أدوار القوى في الأحداث الكبرى، أمكن تصنيف ثلاث قوى: المدرسة الأصولية الشيعية، طبقة البازار، وزعماء القبائل. وتضم كل مجموعة قوىً رديفة هامشية. على أن الترتيب السائد في أواخر العهد القاجاري اعتمد على تصنيف القوى في أربع فئات فاعلة: رجال السيف، رجال القلم، العلماء، والتجار.

ضمت الأولى، أي رجال السيف، أمراء القاجار وزعماء القبائل وكبار ملاكي الأراضي، وهؤلاء من كافة الفئات الإثنية والمرتزقة القوزاق. أما رجال القلم، يتألفون من رجال الأدب والموظفين من أصحاب التعليم، وهم أساس الطبقة البيروقراطية في الإدارة، وغلب عليها الفرس والقفقاس. وتحت إدارة هاتين الفئتين، قامت الشريحة العظمى من الشعب بأدوارٍ وظيفية تخدم الفئة الأولى (رجال السيف). وعلى حد تعبير آن لامبتون بشأن رجال السيف: «كانوا يميلون إلى الاحتفاظ بصفٍ طويل من الخدم أو يبتزون من الفلاحين في القرى ما يملكونه أو ما زرعوه لكي يمونوا حاشيتهم» (الشرق الأوسط الحديث – ص 229). وحتى مطلع القرن العشرين، كان لدى رجال القلم أيضاً نظرة ازدراء إلى الصناع وأرباب الحرف والفلاحين والبدو. ولا يمكن إغفال نزعة الحماية لدى زعماء القبائل تجاه الفلاحين في وجه السلطات العليا، وتحديداً في المناطق التي يكون فيها الفلاحون من أبناء القبيلة نفسها، كما في حالة منطقة لورستان. أما في المناطق التي يكون فيها الفلاحون من إثنية أخرى، فإن الاضطهاد يكون مزدوجاً.

أما العلماء، أي رجال الدين، فكانوا أقرب الفئات إلى العوام وحتى «أصغر المشايخ كان لهم نفوذ بين العمال والفلاحين» (لامبتون – الشرق الأوسط الحديث – ص232). وفي منطقة كردستان الإيرانية، امتلك شيوخ الطريقة النقشبندية تأثيراً كبيراً تجاوز أحياناً سلطة زعماء القبائل الكبرى.

أما الفئة الرابعة فهي فئة التجار. وهؤلاء انقسموا سياسياً بحسب مصالحهم من القوى الدولية. إذ حظيت مجموعة من التجار الأرمن بحماية الإمبراطورية الروسية ومجموعة أخرى بحماية الحكومة الإيرانية. وبشكلٍ أساسي، امتهنوا تجارة الحرير والصوف بين القفقاس والهند عبر إيران. فيما حظي تجارٌ هنود يقيمون على سواحل الخليج بحماية بريطانيا. وبحسب الشهادات المعاصرة لفترة الدراسة، هناك إجماعٌ ثابت على تجنب التجار الإسراف في حياتهم الخاصة. وكان كثير منهم يذهب إلى الحج في مكة لاكتساب لقب «الحاج» الذي يمنحهم وقاراً اجتماعياً. كما لم تكن مصالح التجار تتفق تلقائياً مع مصالح تجار البازار (أصحاب الدكاكين في المدن الكبرى).

تفاعل الفئات الأربع

في المحصلة، استثمرت هذه القوى الأربع، رجال القلم والسيف والعلماء والتجار، في الفائض المالي المتراكم لديهم، إلى حدٍ كبير، في شراء الأراضي الزراعية. ذلك أن الأرض (مثل لقب الحاج) تمنح احتراماً اجتماعياً. ومع أن العلماء كانوا أقل الفئات تملكاً، إلا أن شريحة من «فقهاء السلطان» حازت ملكيات زراعية أيضاً. لذلك، ليس منصفاً تفسير هامشية دور الفلاحين في حوادث إيران السياسية إلى خاصية الخنوع. فقد كانوا أكثر فئةٍ خائرة القوى لعوامل متعلقة بالفئات الأخرى. ويمكن الاستدلال على ذلك بحال الفلاحين على مشارف القرن العشرين؛ إذ تعرضت زراعة القمح في كردستان وعموم إيران إلى انتكاسةٍ كبيرة إثر إصدار الحكومة القاجارية سلسلةً من الامتيازات التي أبيح بموجبها تحويل أراضي القمح إلى أراضٍ لزراعة الأفيون «ما نجم عن ذلك حدوث أزمة اجتماعية اقتصادية عبرت عن نفسها بظاهرة المجاعة العامة في إيران» ( صباح الفتلاوي – الثورة الدستورية – ص 34). كما أدت المعارك القبلية على المراعي إلى هجرة الفلاحين الأرياف على نطاقٍ واسع.

حافظت هذه القوى على أدوارها في الهزات الثورية في إيران، عملياً، منذ ثورة التبغ عام 1890 مروراً بالثورة الدستورية وصولاً إلى الثورة الإسلامية عام 1979. كان العنصر القبلي «ضيفاً» على هذه الأحداث، إنما بأدوارٍ حاسمة، إذ لعب تلاقي التجار مع رجال الدين الدور الرئيس في معظم التحولات السياسية، مع استدعاء قوات الزعماء القبليين حين الاستشعار بحراجة الموقف على الحوزة والبازار والمثقفين. وكان العنصر الإضافي (المثقفون) تبلور تدريجياً، على الرغم من أن دوره كان هامشياً حتى عام 1905، ومن ثم اتسع مع توسع التعليم وصولاً إلى الثورة الإسلامية التي دفعت الشريحة الأبرز من المثقفين ليصبحوا من أولى «الأصدقاء الضحايا» لها إلى حدٍ كبير.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد